دينيلسون: لأن «المتلعثم» لا يصل
لن أزعجك بمقدمة مملة، تعرف الكثير من تلك المقدمات التي نستخدمها عندما نتحدث عن لاعب برازيلي كان من الممكن أن يصل إلى أبعد مما وصل إليه لأن موهبته كانت تؤهله إلى ملامسة السماء، تعرف الكثير أيضًا عن تلك النظرية التي تتحدث عن «الشبع بعد الجوع» ومدى تأثيره في مردود اللاعب البرازيلي بعدما يعلو نجمه ويصبح حديث العالم.
بالتأكيد أنت تعرف دينيلسون، عقلك اللاواعي يتذكر تلك اللقطة التي سحب فيها دفاع تركيا كله على الخط كما لو كان في سيرك لا في نصف نهائي كأس العالم 2002، وتعرف أن كل من واجه البرازيل في هذا المونديال كان يلعب مباراة من 80 لا 90 دقيقة، لأن دينيلسون كان وحده كفيلًا بإضاعة الدقائق العشر المتبقية حينما يستعمله سكولاري بديلًا لهذا الهدف فقط، البديل الوحيد في التاريخ الذي استعمل لتقليل وقت مباراة.
ولكن ما ستقرؤه ربما لأول مرة هي قصة إنسانية شكلت مسيرة هذا الـ «جالينيو». قصة ستكره بعدها التنمر فوق كرهك البديهي له، أنت لم تقرأ الاسم خطأ، فـ «جالينيو» هذا هو القصة برمتها.
الديك المتلعثم
دينيلسون المولود في بلدية دياديما التابعة لساو باولو، مورس عليه التنمر في صغره بشكل بشع، بداية لأنه واجه مشكلات في التخاطب، وكان يعاني من التلعثم في الكلام حتى سن متقدمة، وكان اسمه في شارعه بين أقرانه «جالينيو»، أي الديك، وتطلق في الدارجة البرتغالية على الشخص المتلعثم الذي لا يمكن تمييز كلامه.
يقول دينيلسون في لقاء تليفزيوني جرى في يونيو من العام الجاري 2021 عن هذه الفترة: «اقترن هذا الاسم بي حتى كبرت، في الشارع لم يكن أحد يعلم أن اسمي دينيلسون، الكل كان يناديني بجالينيو، لم يكن أحد يدافع عني في منطقتي لأنني لم أكن أجذب أحدًا، لم أكن شاذًّا، ولم أكن كبقية الشباب ألهو وأتسكع مع الفتيات، كانوا يقولون إنني أشبه بذكر مخنث، لا أروق للرجال ولا للنساء، لم يكن أحد يحبني ولم أرق يومًا لأحد».
دينيلسون كان يعشق كرة القدم، يعشق اللعب مع أقرانه الذين يتنمرون عليه، كان يعود إلى منزله باكيًا غاضبًا يتمنى لو استطاع الرد على كل من يضايقونه، لكن اللعنة كما يقول هو بنفسه تتمثل في «أنني كنت أتعرض للسخرية من البعض، ولا أستطيع الرد عليهم، لأن ردي نفسه سيثبت أنني متلعثم، وسيزيد سخريتهم، لذلك كنت أكتفي بالعودة إلى المنزل كل يوم والبكاء».
دينيلسون مَن؟!
وصل الأمر إلى أن دينيلسون حينما ذهب إلى ساو باولو ولعب بشكل احترافي وبدأ يقال في منطقته إن هناك فتًى من دياديما يتحدث الناس عن موهبته المتفجرة في ساو باولو، كان الكثيرون لا يعرفون أن «دينيلسون» هذا هو «جالينيو» الذي يسخرون منه منذ أعوام طويلة.
لم تكن موهبة دينيلسون عصية على التمييز، أو قابلة لوجهات النظر، ولذلك فقد بات حديث الساعة في ساو باولو، انطلاقة شبيهة للغاية بانطلاقة نيمار، أحاديث من كل حدب وصوب عن ذلك الفتى البرازيلي الذي يجذب أنظار عمالقة أوروبا، ومدى تعنت ساو باولو في طلباته للتخلي عنه.
ولأن الأم تعرف كل شيء، فقد أدركت أن تلك هي اللحظة المناسبة كي يتخلص دينيلسون تمامًا من «جالينيو»، كان يتدرب صباحًا وبعد الظهر. كان جادًّا للغاية في البرازيل بالمناسبة.
يعود إلى المنزل بعد ذلك ليقضي مع أمه أمام المرآة 3 ساعات يوميًّا كي يتحدث إلى نفسه ويعزز لباقته، وقبل أن ينتقل إلى ريال بيتيس في صفقة تاريخية، كان جالينيو قد انتهى تمامًا من الوجود، وأفسح المجال لفتى لبق يجيد الحديث في الملعب وخارج الملعب، والأهم، لفتى هو أغلى لاعب على سطح الكوكب.
ففي عام 1998 حصل الفريق الأندلسي على توقيع دينيلسون في صفقة كلفت خزائنه 21.5 مليون جنيه إسترليني كأغلى لاعب في العالم، رئيس بيتيس مانويل رويز دي لوبيرا كان يدرك أن الموعد قد حان لمنافسة ريال مدريد وبرشلونة في إسبانيا، وكان أهم أدواته لفعل ذلك دينيلسون، الذي اختطفه من برشلونة وأتلتيكو مدريد بهذا الرقم الخيالي بمقاييس ذلك العصر.
«جالينيو» الذي كان يبحث عن فرصة للرد على أقرانه فقط، أن يقول لهم إنه لا يستحق الإهانات كل يوم، وإنه حتى لا يملك دفعها، بات أغلى لاعب في العالم، كل هذا في عمر لم يتجاوز الحادية والعشرين، وهنا سأترك لك تقدير الباقي، أنت تعرف ما يحدث للفتى حديث السن غير المؤهل لكل تلك المتغيرات – فضلًا عن كونه برازيليًّا – من وقع هذا التبدل.
افتعل عديد المشكلات في صيفه الأول مع ريال بيتيس، طلب معدًّا بدنيًّا خاصًّا من البرازيل يأتي على نفقة النادي، وأصر على أن يتدرب بعد الظهر لأن هذا ما كان يفعله في البرازيل، وذات أسبوع، غادر إسبانيا دون إذن النادي لتصوير حملة دعائية لصالح شركة مياه غازية برفقة ريفالدو وشيلافيرت وأرييل أورتيجا.
بات المدرب «خافيير كليمنتي» والرئيس «مانويل دي لوبيرا» يدركان جيدًا أي قنبلة قد ألقيت بين أيديهم بعدما اكتسب «جالينيو» تلك المتغيرات فجأة وبدون مقدمات، ولكن الوقت لم يتسنَّ لتهذيبه بالشكل الكافي أو حتى لأقلمته أوروبيًّا، رغم أنه كان يصر في كل لقاء تليفزيوني في تلك الفترة على أنه «يتحمل المسئولية» و«إننا في البرازيل أكثر من يتحمل المسئولية لأننا مطالبون بالألقاب دائمًا».
أنهى موسمه الأول مع ريال بيتيس مسجلًا هدفين فقط في 35 مباراة، وفشل في قيادة الأندلسيين لما هو أكثر من المركز الحادي عشر، والطامة الكبرى كانت سقوط آمال دي لوبيرا من علٍ، بسقوط ريال بيتيس إلى الدرجة الثانية في عام 2000.
عاد دينيلسون الذي كان قنبلة مشكلات في الأندلس إلى البرازيل من بوابة فلامنجو، وما إن ارتقى بيتيس إلى الليجا، حتى رجع دينيلسون بآمال أخرى وعمر لم يتجاوز الثالثة والعشرين.
وكان كل موسم لدينيلسون كسابقه وتاليه، مراوغات لا حصر لها دون أي هامش للتطور، هدفان أو ثلاثة كل عام وانتهى الأمر، وفي 2005 فوجئ دينيلسون ومعه العالم أجمع أن تجربته في ريال بيتيس انتهت بـ14 هدفًا في 196 مباراة! وبأن كل تلك المراوغات لم تحقق إلا بطولة واحدة لبيتيس (كأس ملك إسبانيا 2005)، واكتفى بالمساهمة في إيصال الأندلسيين لدوري أبطال أوروبا دون بصمة واضحة تذكر.
ما فوجئ الكل به أن تلك التجربة انتهت ودينيلسون يوشك على الثلاثين، كل هذا حصل بسرعة مباغتة، تمامًا كتنقلات دينيلسون بعدها بين الدوري الفرنسي والسعودي والبرازيلي والأمريكي والفيتنامي واليوناني في 7 أندية لم يمكث في أي منها أكثر من عام واحد!
نسف «جالينيو»
وسط تلك المسيرة كانت الرغبة تتجدد بين الحين والآخر لدى دينيلسون لنسف «جالينيو»؛ لذا في 2002 دخل عالم التمثيل مشاركًا في مسلسل كوميدي حمل عنوان «6 حيوات»، وهو العمل الذي أنتج كمسلسل وفيلم فيما بعد ولم يحظَ بشهرة كبيرة، ولكن دينيلسون كان ينهي ثأرًا قديمًا مع اللعثمة، ربما أخرجه من تركيزه كلاعب كرة فذ ليمضي به إلى مسيرة متلعثمة حقًّا في الملاعب.
وبعمر 33 عامًا، وبالتحديد في 2010، وفي اليونان بعيدًا عن أي ملمح برازيلي ودون أي ضجيج يذكر، غادر دينيلسون الملاعب بأهداف تجاوزت الستين بالكاد في 550 مباراة.
ربما يمكننا أن نعزو هذا إلى التشبع مبكرًا. حدث هذا مع رونالدينيو، مع فارق ما قدمه الاثنان لكرة القدم لصالح الثاني بالطبع. وجد دينيلسون نفسه بعمر 23 عامًا وقد فاز بكأس العالم وكوبا أمريكا وكأس القارات (حصل على لقب أفضل لاعب فيها) وبات أغلى لاعب في العالم وعرف طريقه إلى أوروبا وأصبح حديث العالم. ماذا سيريد من الكرة بعد ذلك؟
الآن يمكنك أن ترى كيف دمر دينيلسون «جالينيو» هذا تمامًا، فقد أصبح معلقًا ومحللًا بالقنوات الرياضية البرازيلية، سفيرًا لرابطة الدوري الإسباني في أمريكا الجنوبية، يملك برنامجه الخاص في الإعلام البرازيلي مسموعًا ومرئيًّا بعنوان «دينيلسون شو». قضى على لعثمة «جالينيو» تمامًا، لكنه وضريبة لذلك دفع ثمنها بمسيرة كروية متلعثمة كان يتمنى أن يظهر فيها «دينيلسون» بعضًا مما كان يفعله بقدميه في دياديما، حينما كان «جالينيو».