الحرب الديموغرافية: الرحم الفلسطيني في مواجهة الاحتلال
بموازاة المواجهات العسكرية المتقطعة بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني، يخوض الطرفان حربًا طويلة في ساحة أخرى. ففي مقابل تفوق الإسرائيليين بعُدّتهم، ينافسهم الفلسطينون بعَددهم في معركة ديموغرافية قد تستغرق عقودًا طويلة لحسمها.
أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، مؤخرًا أنه لأول مرة منذ عام 1948 أصبح عدد العرب على أرض فلسطين التاريخية أكثر من اليهود بـنحو 200 ألف نسمة، وأن إسرائيل بدأت في سلوك طريق الموت الديمغرافي، لتتحول تدريجيًا إلى أقلية يهودية تحكم أغلبية فلسطينية في إعادة لتجربة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
فقطاع غزة وحده الذي يشغل مساحة لا تتجاوز 1.3 % من مساحة فلسطين يسكنه أكثر من مليونين ومائة ألف شخص، وتضم الضفة الغربية ما يزيد عن ثلاثة ملايين و120 ألف، أي أن مجموعهما يتجاوز الخمسة ملايين، كما يعيش نحو مليونين من الفلسطينيين (1966000) في إسرائيل يشكلون أكثر من خمس سكانها البالغ عددهم 9 ملايين و327 ألف نسمة، منهم 6 ملايين و894 ألف يهودي تقريبًا.
وترفض إسرائيل بشدة السماح بعودة فلسطينيي الشتات إلى وطنهم، وهم الذين يتقارب عددهم مع إخوانهم في الوطن، وفي المقابل تسعى إلى استقدام يهود الشتات الذين يبلغون نحو 8 ملايين من كل أنحاء العالم، حتى من الطوائف المشكوك في يهوديتها كالفلاشا الإثيوبيين، لتستكثر بهم، إذ يمنح «قانون العودة» الإسرائيلي الجنسيةَ لأي يهودي قادم من أي دولة لتعويض نزيف الهجرة المعاكسة، وهو نزيف مؤلم ومستمر؛ إذ إنه بحسب بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فقد غادر نحو 732 ألف يهودي إسرائيل نهائيًا منذ عام 1948 وحتى 2017.
معركة الأرحام
تتصاعد باستمرار بين اليهود موجة الخوف من «الخطر الذي يشكله الرحم الفلسطيني»، إذ يخشون من أن احتفاظهم بالأغلبية في إسرائيل قد لا يستمر كثيرًا مما ينذر بتحولها على المدى الطويل إلى دولة إسلامية تضم أقلية من اليهود، لذا كان الحل هو رفع معدلات الولادة بأي ثمن. في سبيل ذلك، تم تجييش الكتاب والمفكرين الصهاينة ووسائل الإعلام لترغيب اليهوديات في إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، إذ تنسب لدافيد بن غوريون مقولة إن أي يهودي ليس لديه أكثر من أربعة أطفال فهو خائن.
وبالطبع كانت طائفة اليهود المتدينين «الحريديم» الأسرع استجابة لتلك الدعوات، فوصل معدل الخصوبة لدى نساء الحريديم إلى 7.5 ولادة لكل امرأة، ومؤخرًا أصبحت النسبة 6.5، مما جعل أعدادهم تنمو مرتين أسرع من إجمالي الإسرائيليين. بينما تنخفض معدلات خصوبة العرب المقيمين في إسرائيل تدريجيًا، حتى أن اليهود احتفوا في عام 2018 بتجاوز معدل خصوبة نسائهم للعرب للمرة الأولى في تاريخ البلاد بعد أن بلغت النسبة بينهن 3.05 مقابل 3.04 للعربيات، ووصلت النسبة في عام 2020 إلى 3.1، إذ تم رصد استجابة نسبة معتبرة من اليهوديات غير المتدينات لجهود موازنة الخصوبة العربية.
وبالرغم من ارتفاع معدل المواليد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، تتناقص هذه النسبة بمرور الوقت، فقد هبط معدل الخصوبة الكلية إلى 3.8 مولود، مقارنة مع نسبة 4.6 عام 1999؛ بواقع 3.8 مولود في الضفة و3.9 مولود في القطاع بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
عمل القادة الإسرائيليون بدأب على تفتيت الفلسطينيين وتفريقهم، ففضلاً عن انقسامهم بين الضفة الغربية وغزة، فإن الضفة نفسها مقسمة إلى مناطق عديدة لا يمكن التنقل بينها دون المرور على الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش، كما أن فلسطينيي الداخل (أو عرب 48) الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية تعرضوا لعقود من محاولات إضعافهم وفصلهم عن محيطهم، وهو المخطط الذي أعادت معركة «سيف القدس» التذكير بفشله بصورة كبيرة، إذ انتفض عرب الداخل في المدن المختلطة تزامنًا مع القدس وغزة، مكذبين بشكل عملي مقولة «التعايش اليهودي العربي» التي طالما روجت لها تل أبيب.
التشتيت والتفتيت
وعلى مدار السنوات الماضية، سعى الإسرائيليون إلى الفصل قسريًا بين الأسر الفلسطينية التي يكون فيها أحد الزوجين من فلسطينيي الداخل والآخر من الضفة أو القطاع، فقانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل الذي أقره الكنيست عام 2003 يمنع لم شمل هذه الأسر، لتكون خيارات الفلسطيني في الزواج محدودة بالقدر الذي تسمح به قوانين الاحتلال.
ويصل عدد المضارين من هذا القانون إلى نحو 300 ألف عربي، مما يجبر آلاف العائلات على العيش منفصلين عن بعضهم البعض، أو الهجرة أو العيش تحت سيف التهجير وتحمل عناء الإجراءات القانونية الكثيرة والنفقات الباهظة لها.
ويختلف زعماء الكيان الصهيوني في نظرتهم لكيفية التعامل مع التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة وغزة. فتاريخيًا، كان الخلاف بين حزبي العمل والليكود على جدوى ضم المزيد من الأراضي لإسرائيل باعتبار أن توسيع الرقعة الجغرافية قد يفضي لضم مزيد من العرب، وبالتالي تقليل نسبة اليهود في الدولة، لذا كانت حكومات حزب العمل تتجنب الاستيطان في المناطق المأهولة بالعرب وتركز على مناطق مثل غور الأردن، وفقًا للتصور الذي وضعه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيغال آلون الذي استهدف إنجاز تسوية تضمن حيازة «الحد الأقصى من الأرض والحد الأدنى من العرب»، للحفاظ على صبغة يهودية وديمقراطية للدولة، بينما كانت حكومات الليكود تعتمد نهج الاستيطان في قلب المناطق المأهولة والتضييق على سكانها.
ولكن من اللافت أن قرار الانسحاب من طرفٍ واحد من قطاع غزة في أغسطس/آب 2005 نفذته حكومة أرئيل شارون الليكودية بعدما حولت المقاومة حياة المستوطنين وجنود الاحتلال فيها إلى جحيم.
وفي الجنوب يواجه سكان صحراء النقب مخططات عديدة للتضييق عليهم وتحويل مناطقهم لما يشبه معسكرات الاعتقال، ورغم أن الاحتجاجات التي اندلعت عام 2013 أدت لإلغاء مخطط «برافر» الذي نص على هدم قراهم وطرد عشرات الآلاف من البدو، ومصادرة أراضيهم، لكن الفلسطينيين لاحظوا أن ما حدث هو تجزئة ذلك المخطط إلى عدة مخطّطات صغيرة تقوم بنفس الوظيفة.
الحل النهائي: محميات للسكان الأصليين
تسعى تل أبيب إلى فرض نموذج «للحل النهائي» يقوم على التمدد في المناطق الغنية بالموارد القليلة السكان كالأغوار، بما يحقق لها إبعاد الفلسطينيين ويمنع في الوقت عينه قيام دولة مستقلة لهم، بل يعيشون في مناطق معزولة فقيرة الموارد تحت سيطرة الاحتلال، أشبه بمحميات السكان الأصليين في الولايات المتحدة التي تؤوي بقايا قبائل الهنود الحمر، ومواصلة التضييق عليهم لدفعهم للهجرة إلى الخارج لحسم الصراع الديموغرافي مع الشعب الفلسطيني وإبعادهم تمامًا من المعادلة، وهو السيناريو الذي يقاومه أصحاب الأرض رغم ظروفهم الصعبة.
وقد أدى تراجع معدلات الهجرة إلى إسرائيل والمعدلات المقلقة للهجرة المعاكسة إلى تراجع الإيمان بفكرة «يهودية الدولة» لدى الكثيرين، فالنمو السكاني الفلسطيني ما زال هو الأعلى في فلسطين التاريخية رغم كل الجهود المضادة، وبات طرح «وطن يهودى بدلاً من دولة يهودية» يلقى قبولًا بين عدد من الإسرائيليين، الذين يستشهدون بأن تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة كان يقصد في كتابه «الدولة اليهودية»، مجرد منطقة حكم ذاتي أو ما شابه، كما أن روايته الشهيرة «الأرض الجديدة القديمة» التي نشرها عام 1902، كانت أحداثها تدور حول تجمع الشتات اليهودي في أرض تابعة للإمبراطورية العثمانية وليست دولة مستقلة ذات سيادة.
وباتت قناعتهم تتزايد بأن الأرض التي يحتلونها اليوم تتحول إلى جزيرة تغرق شيئًا فشيئًا في بحر من العرب، لتتحقق النبوءة التي تُنسب إلى عالم الجغرافيا الإسرائيلي، أرنون سوفير، «إن الفلسطينيين سيهزموننا في غرف النوم ومدرجات الجامعات».