ما بعد المعرفة: «الجهل المتعمد» كوسيلة لمواجهة الحقيقة
يروي النازي ألبيرت شبير في مذكراته عن فترة عمله مديرًا لخط إنتاج الأسلحة في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي مقطع معروف يحكي تفاصيل مناسبة قام فيها كارل هانكي، صديقه وزميله الموثوق به، بعد زيارته لمعسكر اعتقال في «أوشفيتز»، بنصحه بعدم قبول دعوة رسمية لزيارة المعتقل تحت أي ظرف من الظروف.
لم يقم شبير بالاستفسار عن السبب، ولم يسأل أحد، حتى أصدقاءه المقربين، وكتب:
كان شبير يعرف ما يكفي ليكتب هذا المقطع، لكنه اختار ألا يعرف فقط مدى فظاعة ما يجري في المعسكرات، اختار ألا يعرف أن الأسوأ أصبح واقعًا، مثلما نختار كل يوم ونحن نتخطى رؤية الفيديوهات الإخبارية المؤلمة. فهل تعرف هذا الشعور الذي تأسف معه لسماعك قصة إنسانية مؤلمة، وبقيت وأنت تسأل نفسك كيف ستعيش وأنت تعلم بها، وبأنه من الممكن أن تحدث لك؟ هل سبق وتمنيت ألا تعرف؟ أو تسبق اللحظة الحالية لتسد أذنيك؟ اليوم، نحن ندافع أكثر عن حقنا اليوم في معرفة الحقيقة مقابل كل الصعاب، لكن هل يمكن أن نتمنى العكس؟ وهل من حقنا تجنب المعرفة؟
سياسة ما بعد الحقيقة
لا يتكلم الكثير عن ندمه على المعرفة لأن روح العصر الحالي هي المعرفة ذاتها؛ الحقيقة والضوء المسلط عليها، المواقع الموسوعية، المؤامرات التي تُحاك للكشف عن الشبكات المخفية والملفات الحكومية، والسجلات الطبية المسجلة والمتاحة، وبياناتنا الشخصية، ومخالفاتنا المعلنة أمام الجميع. ففي عالم لديه الحق في المعرفة -معرفة كل شيء- هل يمكن فهم الحق في الجهل؟ يبدو أن الأمر يختلف.
يُعرف «الجهل المتعمد» كمفهوم مهم في القانون الجنائي، وتعريفه القانوني هو: «قرار مُعتمِد على سوء النية، بتجنب الاطّلاع على شيء ما، لتجنب الاضطرار إلى اتخاذ قرارات غير مرغوب فيها، بناءً على المعرفة الإيجابية بتلك المعلومات». في هذا التعريف يتجنب الأفراد المواقف التي قد تُحمّلهم مسئولية جنائية أو مدنية عن فعل غير مشروع، عن طريق الإبقاء عمدًا على أنفسهم غير مدركين للوقائع التي قد تجعلهم متورطين. وبناءً عليه، فـ الجهل المتعمد هو أن يُحوِّل الشخص انتباهه عن قصد بعيدًا عن مشكلة أخلاقية يُعتقد أن التدخل فيها مهم، لكنها تظل مقلقة له، بحيث يرغب في السيطرة على أفكاره، وعدم التعرف على الأزمة، كي لا يضطر لحلها وبذل جهد مكثف.
يعد هذا التعريف مستحدثًا في القانوني الأمريكي والبريطاني بسبب قضية جويل. ففي فبراير/شباط 1976، كان جويل يجلس بحانة في شمال المكسيك، بالقرب من حدودها مع الولايات المتحدة الأمريكية. هناك عَرَضَ عليه شخص يبيع الماريجوانا شراء البعض، لكن جويل رفض. بعد ذلك عرض نفس الشخص على جويل أن يقود سيارة عبر الحدود مقابل 100 دولار، فقبل بالصفقة.
عبر جويل الحدود بسيارة مخبأ بها 110 رطل من الماريجوانا، بقيمة 6 آلاف و250 دولار، في خزينة سرية في المقعد الخلفي. وعند الحدود تم تفتيش السيارة واكتشاف الماريجوانا، ثم تعجز المحكمة عن إدانته، لأن القانون يتطلب معرفته بوجود الماريجوانا في السيارة، وجويل لم يكن يعلم بوجودها.
اختلف رأي هيئة المحلفين عن المحكمة، ورأى المحلفون أنه على الرغم من علمه بوجود الخزينة السرية، ومعرفته باحتمالية وجود الماريجوانا، فقد تجنب عن عمد المعرفة الإيجابية بوجودها، لتجنب المسئولية. وخلصت هيئة المحلفين إلى أن قراره فعلًا متعمد، وأنه إذا كانت المعرفة الحقيقية مطلوبة لإدانته، فهو كان يعرف بتلك القاعدة، واختار الجهل عن عمد. ودعا المحلفون للإقرار بأنه عندما تكون معرفة «وجود حقيقة معينة» عنصرًا من عناصر الجريمة، يتم إثبات هذه المعرفة إذا كان الشخص على دراية باحتمالية وجودها، ما لم يعتقد فعليًا بوجودها.
بعد الاستئناف اتفقت المحكمة على قرارها الجديد مع هيئة المحلفين بإدانة جويل، ووصلت إلى أن الجهل المتعمد والمعرفة القاطعة يُحمِّلان صاحبها نفس القدر من المسئولية. وبرّرت ذلك بأن التصرف «عن قصد» لا يعني بالضرورة التصرف فقط حسب المعرفة الإيجابية، بل أيضًا التصرف بوعي أمام وجود احتمالية مرتفعة لوجود حقيقة معينة. وعندما يكون هذا الوعي موجودًا، لا تكون المعرفة الإيجابية مطلوبة.
نيلسون: أرى الإشارة وأتجاهلها
واجه الأسطول البريطاني القوات البحرية الدنماركية النرويجية بالقرب من كوبنهاجن عام 1801. كانت الأفضلية عند اللقاء للقوات الدنماركية، وبالفعل تلقى الأميرال «هوراشيو نيلسون»، من البحرية البريطانية، إشارة من قائده يبلغه بالانسحاب من المواجهة، لكن نيلسون رفع الكشاف أمام عينيه، وظل يردد: «لا أرى الإشارة»، وخاض معركته حتى النصر.
تلك الأسطورة كانت سببًا في اصطلاح معرفة نيلسون Nelsonian knowledge، وهي تلك المعرفة الافتراضية التي يحظرها المرء على نفسه، من خلال الجهود الصارمة التي يبذلها لتجنبها في المقام الأول. وتتضمن تلك المعرفة براعة حريصة في معرفة ما لا يُعرف، وأين لا ننظر، وكيف لا ننظر إليه. يتطلب الأمر وفق هذا المثال شجاعة لاتخاذ قرار دون أن نعرف ما سنجهله، في وقت أصبحنا فيه أنفسنا معلومات مفيدة لمهمة برامج المراقبة الوطنية. فنحن نعيش في عالم كل اكتشافاته تساعد في تسليط الضوء أكثر، وجعل المعلومات سهلة المنال.
هنا يمكننا تعريف الجهل المتعمد بأنه القرار المتعمد بتجنب معرفة إجابة سؤال في مجال الاهتمام الشخصي، حتى إذا كانت الإجابة مجانية، ولا تتطلب البحث. ولكن لماذا لا يريد الناس أن يعرفوا؟
تشير بعض الدراسات إلى وجود أربعة دوافع على الأقل، يذكرها جيرد جينجر، الطبيب النفسي ومدير معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية. الدافع الأول لتعمد الجهل هو تجنب الأخبار السيئة المحتملة، فنحن لا نرغب في معرفة التفاصيل المحيطة بوفاتنا في المستقبل أو استقرارنا الزوجي، أو معرفة مدى احتمالية إصابتنا بالألزهايمر بناءً على فحص الحمض النووي. الدافع الثاني هو الاستمتاع بالمفاجأة والتشويق، كالآباء والأمهات الذين يرفضون معرفة جنس طفلهم الذي لم يولد بعد، لتفوق متعتهم فائدة المعرفة والقدرة على التخطيط للمستقبل بشكل أفضل.
يتمثل الدافع الثالث في الاستفادة من البقاء جاهلًا على حساب الآخرين، كمن يختار عبور الطريق مندفعًا معتمدًا على خوف السائقين من دهسه. أخيرًا، يُستخدم الجهل المتعمد كوسيلة لضمان النزاهة والإنصاف، تماشيًا مع صورتنا للعدالة معصوبة العينين، وهو ما يحدث في بعض محاكم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تظل هيئة المحلفين جاهلة ببعض الخلفيات عن المتهم من أجل خدمة العدالة والحكم بحيادية دون تحيز.
يبدو أن هناك دافعًا آخر للجهل المتعمد بخلاف دوافع جينجرـ، فلقد سمعنا بالفعل مرارًا أناسًا يشكون من قصر الحياة؛ حيث يكون من غير الممكن رؤية كل شيء، وقراءة كل شيء. ليأتي سؤال على جانب آخر: إذا لم تكن الحياة طويلة بما يكفي، هل القرار الصحيح هو قراءة عدد قليل من الكتب، ومشاهدة عدد قليل من الأفلام، وتجربة وصفات أقل للطبخ؟
هذه الأسئلة شائكة، لصعوبة التعامل مع كل ما لدينا وأمامنا بهذا الشكل. فكيف حتى لا نكون فضوليين؟ كيف لا نُغرى لمعرفة المزيد؟ ومن ثَمَّ، كيف ندّعي الرضى عن جهلنا دون أن يُلقي بنا ذلك في ظلماته؟ وكيف يمكننا هنا التفرقة بين ما نحتاجه وما لا نريد معرفته؟ وكيف نتخذ منه موقفًا ونحن نجهله بالفعل؟ ومتى نرفع الكشاف أمام أعيننا إذا لم نضمن قدرتنا على تفادي الخطر؟
هنا سينضم القلق إلى المعادلة، فالقلق هو مظهر من مظاهر الجهل. كلما عرفنا أكثر، كلما كنا أفضل. ولكن لا يوجد شيء أكيد بالنهاية، لأن المعرفة لا تحل جميع المشاكل، وغالبًا ما تفتح الكثير. السؤال الحقيقي هنا: هو متى نتوقف عن المعرفة، ومن ثَمَّ الفضول والقلق؟ متى يمكننا الإقرار بأننا نعرف ما يكفي، وأن معرفة المزيد لن تساعدنا؟ هنا يمكن الاستعانة برأي الفيلسوف الرواقي الروماني «إبيكتيتوس»:
تلك المعرفة التي تهدد غرورنا
لا تقدم نظريات الخداع الذاتي الحالية أي دعم لفكرة أن الجهل المتعمد هو نوع من الخداع الذاتي. ويتم تقديم حجة مستقلة لاستبعاد الجهل المتعمد من هذه الفئة، من أجل استكشاف الاختلافات الحاسمة بين هاتين الظاهرتين، وكذلك أسباب اختلاطهما بسهولة على الكثير من المحللين النفسيين.
فبعيدًا عن كراهية العالم ورفض لمس بشاعته بتجاهله من الأساس، يذهب بعض المحللين النفسيين بقرار الجهل المتعمد لأن يكون قرارًا شخصيًا للهروب من الفشل. مثال على هؤلاء: مارك أليك، أستاذ علم النفس بجامعة أوهايو، والمهتم بالبحث في بناء الهوية ووجهات النظر الذاتية ولوم النفس. يعتقد مارك أن الكثير من الأشياء التي نؤمن بها عن أنفسنا وتجاربنا غير صحيحة بسبب نقص المعلومات.
مثال على ذلك إذا افترضنا أن طالبًا رسب في اختبار مدرسي، سيعتقد أن الأستاذ طرح أسئلة غامضة، لأنه لا يدرك أنه قد حصل على أقل درجة من بين 100 طالب خضعوا للاختبار. إذا كان لدى الطالب تلك المعلومات الكاملة، فسيعلم أنه فشل لأنه لم يدرس بما يكفي لنجاحه. ومن ناحية أخرى، إذا استمر الطالب في الاعتقاد بأن الأستاذ كان مخادعًا، فإنه سيواجه تحديًا شديدًا في قدرته على جعل الأمر عقلانيًا، وهذا هو الجهل المتعمد.
بهذا المثال يرى مارك أن الجهل المتعمد يحدث عندما يدرك الأفراد عند مستوى معين من الوعي أن معتقداتهم ربما تكون خاطئة، أو عندما يرفضون البحث عن معلومات من شأنها أن تثبت زيف ما يؤمنون به. ووفق تعريف مارك، ينخرط البشر في الجهل المتعمد كثيرًا دون قصد لأنه مفيد لرؤيتهم لأنفسهم، وللرضا عن حيواتهم، وللحفاظ على تناغم علاقاتهم، بالإضافة إلى أنه غالبًا ما يكون من الصعب الحكم على شخص جاهل عن عمد، أو مخدوع حقًا. فأحد الأسباب التي تجعل الناس يحتفظون برؤية خاطئة عن أنفسهم هو موقف أصدقائهم وأقاربهم، لأن الصدق الصادم المؤذي غير مقبول في ثقافتنا.
على عكس هذا النوع حسن النية -نسبيًا- من الجهل المتعمد يتطرق مارك إلى ما أسماه «الخداع الذاتي»، والذي يحدث على المستوى الإدراكي، عندما يعتقد الأفراد في أشياء خاطئة، ويؤمنون بها إيمانًا كاملًا، مثل الأم التي تنكر مرض ابنها بالتوحد وتدفعه للانخراط مع أطفال بنفس عمره، أو المشجع الرياضي الذي يرى الخصم يرتكب خطأً في لحظة حاسمة من مباراة كرة القدم، ولن تقنعه الإعادة، ولا الجدال سيقنعه بغير ذلك.
نهايةً، يبدو أن الاختلاف بين الجهل المتعمد والخداع الذاتي يتمثل في درجة العداء للواقع، وتتحقق عن كلٍ منهما درجة مختلفة من الشعور بالذنب عند اكتشاف الحقيقة، لكنهما يختلفان عن مفهوم «الجهل المذنب» أو «الجهل الجاني». وهو جهل غير مقصود، وليس بدافع العناد مع الحقيقة، كجهل الطبيب بالآثار الجانبية لإجراء طبي، أو أية حقائق طبية لعملية جراحية سيجريها، لأنه قرر القيام بأشياء أخرى بدلًا من قراءة آخر الأبحاث العلمية. لم يفعل الطبيب ذلك بنية البقاء جاهلًا بأية حقائق طبية، عكس ما فعله شبير الذي أراد أن يكون جاهلًا بحقيقة أنه كان يجهل.