الطب الدفاعي: حين تصبح أولوية الطبيب حماية نفسه
قصص يومية
القسم الداخلي بأحد المستشفيات الجامعية الكبرى …
نظر المريض في ذهول إلى ورقة إقرار دخول العمليات التي أعطاها له الطبيب.
من مكتب المدير الطبي لأحد المستشفيات الاستثمارية الكبرى..
حوار بين طبيبيْن مقيمَيْن أثناء وقت تسليم النوبتجية ..
النماذج الثلاثة السابقة، وأشباهها، تتكرر آلاف المرات يوميًا، مع اختلاف السياق، في مختلف قطاعات المنظومة الصحية، وليس في بلادنا فقط، فحتى البلاد ذات المنظومات الصحية المتكاملة، تعاني من مثل هذا، وإن بشكل أقل، وبقدرة أكبر على تخفيف الأضرار.
للأسف لم يعد الجانب الطبي هو الشغل الشاغل للقائمين بالخدمة الطبية، ولم يعد أولوية الطبيب الأولى والأخيرة هي الحالة الطبية لمريضه فحسب، إذ أصبحت الجوانب القانونية والإدارية تبتلع الجانب الأكبر من اهتمام الأطباء وتفكيرهم.
الطب الدفاعي defensive medicine مصطلح كثُر تداوله في الأعوام الأخيرة ليعبر عن ظاهرة انشغال الأطباء بتأمين أنفسهم قانونيًا أثناء التعامل مع المرضى، خوفًا من التشهير، وكذلك من قضايا التعويضات، والاتهام بالإهمال الطبي، فيدفعهم هذا إلى القيام ببعض الممارسات الطبية التي لا يكون الدافع الأول لها مصلحة المريض، وخدمة حالته الصحية، بل قد تسبب للمريض أضرارًا جسيمة ..
وهناك نوعان من الطب الدفاعي ..
الأول، هو النوع السلبي أو التجنبي .. كأن يرفض الأطباء، خاصة أصحاب التخصصات الجراحية بأنواعها، أو الطب التداخلي كأخصائيي القسطرة القلبية التداخلية … إلخ القيام بإجراء صعب يحتاجه المريض، والطبيب يستطيع القيام به، وذلك خوفًا من المضاعفات المحتملة التي قد تحدث نتيجة صعوبة الحالة، والتي قد تُستغَل في إحدى قضايا التعويضات أو الإهمال الطبي. بل قد يحاول الطبيب مخاطبة المريض وذويه بطريقة تخيفهم من عواقب التدخل، وذلك بالتركيز على الآثار الجانبية له، وإبرازها في مقابل الفوائد المرجوة، حتى يكون الرفض من جهتهم.
ويندرج تحت هذا النوع أيضًا محاولة إزاحة الحالات شديدة الخطورة، وتجنب الإشراف الطبي عليها، أو اشتراط موافقة الحالة أو ذويها على إقرارات غير قانونية، تتضمن تحميلهم كافة المسئوليات الطبية المباشرة وغير المباشرة، عن أي مضاعفات قد تحدث للحالة.
النوع الثاني، هو النوع الإيجابي، والذي يتضمن على سبيل المثال، طلب الكثير من الأشعات والتحاليل قبل إجراء العمليات للمريض، وذلك خاصة من طرف أطباء التخدير، دون أي داعٍ طبي، وذلك بحجة الحكم الجيد على الحالة، ومدى خطورة الجراحة عليها، بينما السبب الحقيقي هو المبالغة في التحوط من حدوث أي مضاعفات، وتقليل الثغرات التي قد ينفذ منها محامو التعويضات لاتهام الأطباء بالإهمال.
ما أضرار الطب الدفاعي؟
هذه الظاهرة منتشرة بشكل لا يتصوره الكثيرون، وهذا يفسر فداحة. أظهرت دراسة أمريكية أن حوالي 92% من الأطباء قيد الدراسة طلبوا من مرضاهم أشعاتٍ وتحاليل زائدة لمجرد تسكين قلقهم، وتجنب المساءلة القانونية، وأن أكثر من 40% منهم تجنبوا القيام بتدخلات خطيرة في مرضاهم خوفًا من مضاعفاتها، رغم أهميتها.
أظهرت الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية أن التكلفة المادية للطب الدفاعي سنويًا تقدر بـ 60 مليار دولار، رغم امتلاك الولايات المتحدة لواحدة من أكبر المنظومات الصحية في العالم، وشبكة تأمينية صارمة الحدود، لا تسمح للطبيب بطلب ما يشاء دون المرور بمراحل من مراجعة القرار، فما بالنا ببلاد أخرى كثيرة تغرق فيها الممارسة الطبية في الفوضى الشاملة؟! مثل هذا المبلغ الضخم المهدور دون فائدة حقيقية للمرضى، كان يمكن أن يمول منظومة صحية متكاملة لعدة دول.
والثمن الصحي والإنساني أفدح كثيرًا. فمئات الآلاف من الحالات الخطيرة، والتي تحتاج لتدخلات طبية جريئة وقوية، قد تتعرض لمضاعفات جسيمة، وللوفاة، رغم توافر العلاج المناسب لها. وحتى على أصغر مستوى، فتعريض المريض لبعض الأشعات الضارة دون داعٍ يجعل الفائدة أولى من الضرر المحتمل، هو جريمة من المنظور الصحي. ومثل هذا إيلام المريض بسحب عينة من دمه، لإجراء تحليل غير هام.
كمريض .. كيف أتجنب أضرار الطب الدفاعي ؟
للأسف القضية أكبر من الأفراد، وأكبر حتى من الدول، وتحتاج لحلها إلى جهود دولية واسعة في الاتفاق على تعريفات موحدة متوازنة لكلمات خطيرة فضفاضة مثل الإهمال الطبي، والمسئولية الطبية، ودور التقاضي في العملية الطبية .. الخ، وكذلك لوقتٍ طويل من النشر المكثف للوعي لدى الجمهور حتى لا يكون عاملًا مساعدًا على تفاقم هذه الكارثة.
يمكننا كأفراد أن نخفف من وطأة هذا الأمر علينا، وفي محيطنا، وذلك بزيادة المعرفة الطبية بشكل منهجي من مصادر موثوقة، وكذلك الوعي بالأمراض والأعراض الشائعة، مما يسهل التواصل مع الأطباء، وفهم شرحهم للحالة الطبية لنا أو لذوينا، ومساعدتهم على اتخاذ القرار الأنسب. زيادة المعرفة، سيقلل القلق الشديد والاضطراب عند الإصابة بالأمراض، مما سيجعلنا أكثر ثباتًا في التفاهم مع الطبيب، وفي حسم القرارات الهامة، وأيضًا لا يكون القلق الزائد ضاغطًا على الطبيب للقيام ببعض الإجراءات غير الضرورية لمجرد تسكين هذا القلق الزائد. كذلك يجب النقاش الموضوعي مع الطبيب، دون اتهام أو تجريح، في طلباته من الأشعات والتحاليل، ومدى الفائدة الطبية التي ينتظرها من كل هذه الإجراءات في قراره النهائي في الحالة.
كذلك يجب عدم وضع الطبيب تحت ضغوط كبيرة – خاصة في حالات الطوارئ، والخطورة المرتفعة – مثل التوصية الزائدة على الحالة، فمثل هذا يؤثر على كفاءة الأطباء، ويجعل أيديهم مرتعشة في اتخاذ القرارات المصيرية للحالات.
ومن أشهر الممارسات السيئة التي ينبغي تجنبها كذلك، الإلحاح الزائد على الأطباء للقيام بإجراء معين، لأن الطبيب ببساطة في غالب الأحيان سيفعل هذا لإراحة نفسه ومريضه، وتجنب المزايدة عليه.
وكطبيب؟؟
لا نملك كأطباء إلا تحقيق المعادلة العسيرة بين تجنب السجن، وتجنب جريمة الطب الدفاعي! ورغم أن حل القضية كما ذكرت أكبر من الجهود الفردية، فيمكن لنا تخفيفها بالآتي..
- تخصيص أكبر وقت ممكن للحديث مع المرضى وذويهم، والشرح الجيد بلغة تجمع بين البساطة والاستفاضة، لكل تفاصيل خطوات العلاج، فهذا هو السبيل الأهم لتبديد الشكوك، وتوثيق الرابطة بين المريض والطبيب.
- نشر الوعي في محيط كل منا بالنتائج الكارثية للطب الدفاعي. والتحذير من مبالغات الإعلام بخصوص قضايا الإهمال الطبي.
- العمل في إطار أكبر، كالإطار النقابي مثلًا، للضغط من أجل قوانين أكثر منطقية وعدالة تضمن حقوق المرضى والأطباء على حدٍ سواء، وتبدد مخاوف عموم الأطباء من المساءلة القانونية بداعٍ ودون داعٍ، والتي تدفعهم دفعًا للطب الدفاعي.