هزيمة لا انتصار: اليمين المتطرف بعد أحداث واشنطن
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
أعاد هجوم حشدٍ من أنصار ترمب على مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن يوم الأربعاء بعث المخاوف من تهديدٍ فاشي يطال الديمقراطية الليبرالية. ووصفت منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والمجلات الليبرالية هذا الهياج على أنَّه انقلاب. وفي خطابٍ أليم ألقاه جو بايدن، أثناء ما كان الهجوم مستمرًا، وصفه بأنَّه «هجومٌ غير مسبوق [على الديمقراطية الأمريكية]، لا يشبه أي شيءٍ رأيناه في العصر الحديث».
لكن رغم ما سببته هذه المشاهد في واشنطن من قلق، فإنَّ هذه الأحداث في حقيقتها تمثل هزيمة كبرى لليمين المتطرف. فقد بيَّنت أعمال الشغب ورفضها السريع من قبل النخبة السياسية والاقتصادية أنَّه ما من قاعدةٍ نُذكَر لانقلابٍ ترَمبي [نسبةً إلى ترَمب –م] داخل الدولة أو وَسْط رأس المال الكبير، رغمَ المشاركة الجلية– والمُقلِقة– للشرطة وقوات الأمن.
لقد كانت أعمال الشغب الأربعاء الفائت مثيرة للقلق بلا شك. بيد أنَّ التركيز المبالغ فيه على الصعود المحتمل للفاشية، يفوِّت علينا التهديد الأكثر إلحاحًا والذي يمثله رئيس جديد تدعمه كل قوى الدولة ورأس المال– دعم عززته أعمال الشغب الأخيرة– وهو عازم على استعادة الحالة النيوليبرالية التي كانت قائمة من قبل.
رد فعل النخبة
على مدى السنوات الأربع الماضية، غدت جماعات اليمين المتطرفة، كجماعة براود بويز (Proud Boys)، مكونًا أساسيًا في القاعدة «السائدة» للحزب الجمهوري. إذ وفر الأسلوب السياسي والخطابي للترَمبية مع ما خلقته من الصراعات السياسية، مساحةً لهذه الجماعات كي تحتشد وتنتظم. واختار ترمب، طوال فترة رئاسته، تعزيز هذه القاعدة المتطرفة بدلًا من تشكيلٍ تحالفٍ وسطي؛ ما سمح لهذه الجماعات بأنْ تشكِّل التيار السياسي السائد، وتنخرط فيه على نحوٍ متزايد.
كان ترَمب أول رئيسٍ منتخب في التاريخ الحديث لا يحظى تقريبًا بأي دعمٍ من رأس المال الكبير. كانت الطبيعة الفوضوية والشخصية والكليبتوقراطية لإدارته تعني أنَّه ما زال ممثلًا إشكاليًا لمصالح الطبقة الرأسمالية العامة. ورغم ذلك، فقبلَ الوباء، أتاحت له الإعفاءات الضريبية وتخفيف القيود التنظيمية والنمو الاقتصادي وازدهار سوق الأوراق المالية، التمتعَ بدعمٍ صامت في وول ستريت وبين الشركات الكبرى–وبناءَ قاعدةٍ شعبية كافية.
بيد أنَّ هذه القاعدة تقلصت إلى المكوّن الأكثر تشددًا مع رفضه نتائج الانتخابات الرئاسية. وفي أعقاب اجتياح الكابيتول، يبدو أنَّ أي علاقاتٍ أقامتها هذه القوى اليمينية المتشددة في التيار السياسي السائد قد انهارَت، أقله في الوقت الحالي. ولن يؤدي ذلك إلا إلى تعميق أزمة الحزب الجمهوري، الذي أيَّد أعضاؤه الترَمبية أو قبلوا بها على الأقل، بدرجاتٍ متفاوتة، خلال الأربع سنين الماضية.
كشف اجتياح الكابيتول عن افتقار شمولية اليمين المتطرف للدعم، سواء بين النخب الشركاتية أو داخل مؤسسات الدولة. على ما يبدو، ما يزال رأس المال متمسكًا بالديمقراطية الليبرالية، والتي عملت على حماية مصالحه عبر التاريخ الأمريكي. فيما لم يقدر ترَمب على بناء قاعدة نفوذٍ داخل الدولة تكفي للتأثير على عملياتها الدستورية والقانونية العادية– كما يتضح من معركته المستمرة مع «الدولة العميقة»، وإعراض أجهزة الجيش والأمن القومي.
فقام ديك تشيني– ما غيره– يوم الأحد، بالاشتراك مع وزراء الدفاع السابقين، ممن لا يزالون على قيد الحياة، بتوقيع مقالةٍ نُشرِت في الـ «واشنطن بوست»، تشجب تصرفات ترَمب وتشدد على أنَّ القوات المسلحة لن تشترك في أي محاولة لنقض الانتخابات. فيما أصدرت منظمات الأعمال الكبرى بعضًا من أقسى التصريحات في تاريخهم تندد بترَمب وتدعو إلى إنهاء فوضى رئاسته.
وفي السياق نفسه، دعت الجمعية القومية للمصنعين (The National Association of Manufacturers) – جمعية تميل عمومًا للجمهوريين وكانت أقوى مصدر من مصادر دعم ترَمب– إلى عزله من منصبه. وبالمثل، فقد نشرت الجمعية الأكبر والأكثر نفوذًا بيزنس راوندتابيل (Business Roundtable) تنديدًا شديد اللهجة وطالبت، مساء الإربعاء، بأنْ يمضي الكونغرس قدمًا في نفس اليوم لإعلان بايدن الرئيسَ المنتخب. كذا نشر لاري فينك (Larry Fink) المدير التنفيذي لشركة بلاك روك (BlackRoll) وجيمي ديمون (Jamie Dimon) الرئيس التنفيذي لشركة جي بي مورجان تشايس (JPMorgan Chase) تنديدهما الخاص، إلى جانب عددٍ آخر من الشركات الأمريكية.
لقد تخلت الطبقة الرأسمالية عن ترَمب قبل أحداث الأربعاء في الأصل. ففي الأيام التي تلت الانتخابات، اجتمع كبار المديرين التنفيذيين لتنسيق استجابةٍ شركاتية إزاء طعن ترَمب المتوقع في نتائج الانتخابات. وإذا كان اجتماع لجنةٍ ما لإدارة الشئون العامة للبورجوازية ككل يشير إلى أي شيء، فهو أنَّهم رأوا أنَّ تأمين الاستقرار السياسي وضمان سلامة المؤسسات الديمقراطية الليبرالية، يصبُّ في مصالحهم.
القمصان السود والقمصان البنية ومعاتيه MAGA
أتى صعود الفاشية الألمانية والإيطالية في سياق انقسامٍ شديد داخل الطبقات الحاكمة في هذه المجتمعات. إذْ لم تجد القطاعات الرأسمالية الديناميكية الجديدة، على الأخص قطاع التصنيع المتقدم، مساحةً ضمن مؤسسات الدولة القائمة للتعبير عن سلطتها السياسية. وردًا على ذلك، قاموا بدعم ورعاية القوى الراديكالية– الأحزاب الفاشية– والتي ستعيد هيكلة الدولة لاستيعاب تفوقهم المتعاظم وهيمنتهم داخل الاقتصاد القومي.
لم تصدر أعمال الشغب في واشنطن من انقسامٍ مماثل داخل النخبة الحاكمة، بل قد تركت الطبقة الرأسمالية موحدةً أكثر من ذي قبل. كما لم توسِّع من نطاق دعم إجراءات الدولة الديمقراطية الليبرالية في العموم، بل والحزب الجمهوري وجو بايدن على الخصوص.
من المؤكد أنَّ اليمين الترَمبي لن يختفي من المسرح السياسي حين يحدث انتقال السلطة. ولن تتوقف الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عن العمل كآلةِ تجذيرٍ لليمين المتطرف بمجرد مغادرة ترَمب من منصبه. في الواقع، ترَمب نفسه وليد هذه الديناميكية عينها.
لهذه الأسباب، ينبغي علينا أنْ نظل يقظين إزاء ما سيتخذه اليمين المتطرف من شكلٍ واتجاه بعد ترَمب. على وجه الخصوص، يجب علينا الاحتراس مما قد ينشئه هؤلاء من موطئ قدمٍ بين عناصر الشرطة وحرس الحدود، وكذلك على المستوى الانتخابي. سيكون هذا شديد الأهمية للمضي قدمًا، إذْ قد يشعرون بالجرأة بفعل اقتحامهم للكابيتول.
في الوقت الذي تسعى فيه المؤسسة الجمهورية إلى إبعاد نفسها عن ترَمب، سيتعيَّن عليها تجاوز التناقضات بين قاعدةٍ يمينية متطرفة غاضبة ومعبأة من جهة، وبين بناءِ تحالفٍ انتخابي أوسع من جهةٍ أخرى. لكن كان هناك عدد كبير من النواب الجمهوريين في مجلسَي النواب والشيوخ، كما بيَّن تصويت الكونغرس على تصديق النتيجة النهائية للانتخابات، على استعدادٍ للتشكيك في شرعية الانتخابات –فيما كان هؤلاء يجلسون في الغرف نفسها التي اقتحمها غوغاء اليمين الغاضبون قبل ساعات فقط.
إضافة إلى ذلك، ما يزال الحزب الجمهوري ضاربًا جذوره في المجالس التشريعية للولايات، والتي صارت أكثر أهمية في أعقاب الانتخابات الأخيرة. فلكون هذه السنة سنة تعداد، ستكون السلطة داخل حكومات الولايات شديدة الأهمية، إذْ ستتيح لهم التلاعب بحدود الدوائر الانتخابية لصالحهم، ما يساعدهم في الحفاظ على القوة الانتخابية خلال العقد المقبل. وهم كذلك متغلغلون داخل المحاكم– يعود الفضل في جزء من هذا الأمر لترَمب.
لذا، فهذا مثير للقلق بشكل خاص في ضوء استطلاع حديث كشف أنَّ 45% من الناخبين الجمهوريين أيَّدوا اقتحام الكابيتول. ومع ذلك، فهذه النسبة بعيدة جدًا عن الـ87% من الجمهوريين ممن يؤيدون ترَمب– ما يشير إلى أنَّ الهجوم قد أثار الرفض عند العديد من أنصار ترَمب. بل إنَّها نسبة لا تُمَكِّن حائزها من الفوز في أي انتخابات وطنية، خاصةً في ضوء تناقض هذا الرقم مع المواقف تجاه الهجوم وَسْط الديمقراطيين (96% يعارضونه) والمستقلين (الثلثين يعارضونه). سيكون صعبًا على الحزب الجمهوري الحفاظ على قاعدته الراديكالية بينما يفوز أيضًا بمنصبٍ على مستوى الأمة.
مع ذلك، ما لم يُستقطَب ناخبو الحزب الجمهوري ضد اليمين المتطرف، وما لم يزدد الإقبال على المنافسات التمهيدية للحزب الجمهوري بشكلٍ كبير، سيظل الحزب وسيلةً لبناء القاعدة المتشددة هذه على مستوى الدولة وفي السباقات إلى الكونجرس. تشير أرقام الاستطلاع بالتأكيد إلى أنَّ لهذه القوى مجالًا كبيرًا للتنظيم والتجنيد.
لكن قدرتهم على فعل ذلك ستتوقف على مدى إبقاء تحالف اليمين المتطرف متعدد الأطياف هذا متماسكًا دون الاعتماد كليةً على مؤسسات الحزب الجمهوري. وبطبيعة الحال، فقدرة هذه القوى على الدفعِ بتهديدٍ حقيقي في وجه الديمقراطية الليبرالية ستعتمد على جذب الدعم من رأس المال الكبير– وهو احتمال بعيد في الوقت الحالي.
أعمال الشغب بوصفها لحظةً تعليمية
إنَّه لمن واجب اليسار أنْ يكشف الروابط بين الحزب الجمهوري وجماعات اليمين المتطرف التي حشَدَها وشَجعَها بشكل ممنهج– والتي ستخضع لمزيد من التدقيق الحكومي مع تسلم بايدن لمنصبه. يمكن لتسليط الضوء على هذه الروابط أنْ يخلق مزيدًا من الانقسامات داخل صفوف الحزب الجمهوري بهدف تقويضه وتفكيكه كقوة سياسية.
لكن لن يعمل التركيز الحصري على شبح التهديد الفاشي سوى على استعادة الاستقرار النيوليبرالي للحزبين تحت حكم بايدن– وهو بالضبط ما خلق الظروف لنمو اليمين المتطرف في المقام الأول. ومن المؤكد أنَّ سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ تحسن فرص اليسار في تقديم أجندةٍ تقدمية. لكن الاقتصار عليها وحدها لن ينقذنا من العودة إلى التقشف على المدى الطويل، أو يضع حدًا للدمار البيئي والاجتماعي.
ليس أمام اليسار سوى التنظيم والكفاح، على صعيد الدولة والشارع، ليأمل في إحراز تقدمٍ حقيقي نحو معالجة الأزمة المناخية، وتخفيف الأزمة الاجتماعية التي ولدتها عقود من النيوليبرالية، وزيادة البرامج الحيوية للضمان الاجتماعي، مثل برنامج الرعاية الصحية للجميع (Medicare for All). لن يعني هذا هزيمة اليمين وحسب، بل وتحدي بايدن والمؤسسة الديمقراطية المستعدة اليوم لتكون بمثابة أداة حيوية لتجديد الإجماع النيوليبرالي.