الصياد الذي تناول حبة الفيل الأزرق: عن «موسم صيد الغزلان»
ليس لدي أدنى شك في أن «أحمد مراد» سيصبح يومًا ما واحدًا من أكبر كتاب السيناريو في مصر، وقد لا أبالغ حين أتوقع أيضًا أن
يجرب الإخراج السينمائي، وأن يبرع فيه إذا ما توفرت الإمكانيات الفنية والمادية التي تناسب موهبته وخياله وإيقاع قريحته الدرامية السريع.
مع روايته الجديدة «مواسم صيد الغزلان» لا أجد نفسي –مجددًا – أقرأ قصة أدبية ذات بناء تقليدي، أنا أقرأ سيناريو سينمائيًا، مشاهد سريعة، عبارات متعجلة تحاول ملاحقة خيال الكاتب بلا انقطاع، تكوينات بصرية غاية في الجمال والإبهار، مشاهد مرسومة بدقة مع عناية خاصة بالتفاصيل، ودراسة جيدة للخلفيات التاريخية والفنية المكونة لكل مشهد وعناصره، الشخصيات محدودة، والحوار بينهم مقتضب ولا يُستخدم غير للضرورة البالغة.أعمال أحمد مراد تذكرني جدًا بوودي آلان، بينهما قاسم مشترك أشعر به كلما شرعت في قراءة عمل جديد لمراد، تبدو كلها وكأنها سلسلة متصلة، أجزاء متممة لعمل واحد يحاول فيه مراد استكشاف ذاته واستكشاف الدنيا من حوله، لم يفرغ مراد بعد من مرحلة الاستكشاف والدخول في مرحلة الاكتشاف وتقديم النظريات والسرديات البديلة مثلما يفعل آلان، وبالطبع فارق المسألة بالنسبة لمراد مسألة وقت، خبرة وتجربة واكتمال تمكن من أدوات وتقنيات.بعين طائر محلق يأخذنا مراد لرحلة في المستقبل تدور أحداثها في عالم غير الذي نعرفه، عالم يجف فيه نهر النيل، وتصبح القاهرة فيه خرابًا، ويعيش فيه النخبة في مناطق تعزلها عن الحرارة والإشعاع والتلوث، ينتقون جينات أبنائهم بعناية ليصبحوا كائنات سوبر، بينما الفقراء يلدون أولادهم بشكل عادي ليصبحوا وقودًا للبغاء والعنف وتجارة المخدرات.
عالم يتواصل الناس فيه عبر عدسات تقنية فائقة تقرأ كل ما حولهم من معلومات وتعينهم على الاتصال فيما بينهم، وينجزون أعمالهم ومهامهم اليومية عبر تقنية الواقع الافتراضي VR والواقع المعزز AR، عالم يختفي فيه داعش ليظهر مكانه تنظيم أكثر عنفًا يستخدم القنابل النووية في محو عواصم أوروبية من فوق الخريطة، ينتقلون بالطائرات الشخصية وتخدمهم درونات وروبتوتات غاية في الدقة، ويمارسون الجنس مع عاهرات آلية مصممة من أجل تقديم أعلى درجات المتعة.تدور القصة حول «نديم» عالم النفس وبيولوجيا التطور والمؤمن بالطبيعة والعقل والغريزة والكافر بما عداهم، مدمن الجنس والعلاقات المتعددة، وزوجته «مريم»، روح معذبة مربوطة إلى «نديم» في زواج ثلث باهت وثلث فاشل وثلث مثقل بماضٍ متقلب يعتريه آلام قاسية، بنفس ثقل الأحجار التي وضعتها «فيرجينيا وولف» في جيوب ردائها قبل أن تقرر الانتحار غرقًا، «وولف» التي لا تفتأ «مريم» في الشروع بقراءة قصتها «السيدة دالاواي» مرة بعد مرة دون أن تنهيها.يعطي نديم محاضرات استعراضية وجودية حول الخالق والإنسان والطبيعة والأديان، يجزم فيها بأن كل شيء محض تفاعلات كيميائية، الروح كيمياء، والخلق كيمياء، والحب كيمياء، والعلاقات الإنسانية مرجعها لممارسات غرائزية تعود لفجر الإنسان البدائي، حيث الهدف هو البقاء، والوسيلة هي الصيد والافتراس، وحاسة أساسية مثل الشم كانت على قمة أدوات النجاة، وبدونها لا يمكن تحديد الفريسة ولا النجاح في الاصطياد، الاصطياد الذي طوره نديم ليصبح في حالة دائمة من اصطياد الإناث، يشم روائحهن، ويميز ما يثيرهن، يكاد يرى شفرة الـ DNA فيعتريه الشبق.يظهر في السماء مذنب يدور في الفضاء دورة زمنية هائلة، فلا يصادفه المرء في حياته سوى مرة واحدة فقط، تشرئب أعناق الناس بعدساتهم المتطورة إلى المذنب بذيله الثلجي الطويل وهو يضيء السماء ليلًا كمصباح نيون متوهج وبعيد معلنًا عن حدث غير معتاد، ومثيرًا أسئلة وحنينًا وغموضًا أعطى قصة مراد مذاقًا فضائيًا ممتعًا، كـ E.T. جديد يثير الشجون والأمل.يتقاطع مسار نديم ومريم مع مسار «تانيا» و«طارق»، الأولى امرأة متفجرة الأنثى حمراء الشعر أوروبية المنشأ تثير غريزة الصيد في نفس «نديم» فيسعى وراءها في رحلة صيد محددة بقواعد يبرزها «مراد» في رءوس فصول روايته، والثاني زوجها الذي يدير مع زوجته ملجئًا غريبًا في أحراش حي الزمالك المهجور، يرتاده المتطهرون الذين يريدون الخروج من فتنة العالم المادي وخراء التكنولوجيا المانع للاستبصار، وإعادة الاتصال بأرواحهم والعالم ما وراء المادي، وذلك عبر المرور بثلاث مراحل، في ثلاث غرف معتمة وغامضة، تضع الإنسان في حالة صوفية نقية لينقي دماغه تمامًا استعدادًا لاتصال بشرى فائق يجيد الإحساس بما وراء العقل.يجيد مراد نسج المسارين، طارق المؤمن بالماورائيات الذي يتحدى «طارق» ليثبت له أنه عقل أعمى، و«نديم» الذي يقبل التحدي من أجل إتمام عملية الصيد بنجاح والنيل بالغزالة «تاليا» التي أثارت جنونه لأقصى حد. وفيما بين المسارين يدير «مراد» جدالًا قويًا ومثيرًا وجريئًا حول أصل الإله، وأصل الإنسان، وأصل الشيطان، وأصل الأديان، وصراع السلطة/ الكهنوت/ وقطعان الجماهير من البشر.
رواية مراد مشبعة بثلاثي مثير دائمًا، الجنس، الشك، المستقبل، لا تزال تحمل عيوب «مراد» في التعجل في السرد، وسطحية الحوار الذي يأتي دائما ذا تون واحد وكأنه خارج عن شخصية واحدة – شخصية مراد ذاته-، والتنظير غير المتعمق الذي لا يحاول الاقتراب من الأسئلة الحقيقية، لأن مراد ذاته – كأغلبنا – لم يقترب من عتبات الإجابات الوجودية الشافية بعد، فنراه مثلًا يصول ويجول في مساحة الأجوبة المريحة من نوعية «الروح كيمياء» و«الإنسان خلق الدين»، لكنه لا يخاطر باكتشاف المناطق غير المأهولة حيث الأسئلة الأعقد «كيف بدأ كل ذلك؟»، و«من وراء كل ذلك؟».لكن يزال اجتهاد مراد مبهرًا، والتزامه بإخراج عمل دسم كل عام ونصف أو عامين مثيرًا للإعجاب، وجرأته على التصادم مع «تابوهات» المجتمع العربي –المتدين بطبعه – جديرة بالاحترام، ودافعًا لإعمال العقل وتحريك المياه الآسنة بأسئلة لا محدودة، ولا يزال المرء في كل مرة يصدر لمراد عمل أو يعرض له فيلم في السينما ينتظر عملًا أكثر نضجًا واكتمالًا.. والذي لم يأت بعد حتى في «موسم صيد الغزلان».يجيد مراد اختيار عناوين أعماله بذائقة تسويقية حرفية، ودمجها مع أغلفة يضع فيها مجهودًا كبيرًا لتصبح جزءًا لا يتجزأ من تجربة القراءة، مع الاهتمام بالبعد الصوتي أيضًا الذي ساهم فيه مطرب «مسار إجباري» الفنان «هاني الدقاق» لتصبح للرواية «صوتا» أيضًا عبر تراك «موسم صيد الغزلان» الذي صاحب صدور الرواية على ساوند كلاود ويوتيوب.الخلطة التي تستهدف جمهور وسائل التواصل الاجتماعي العصري ترضي مزاجًا متشوقًا للتوتر واستطعام الأعمال غير التقليدية التي تندمج فيها الكلمة مع الميديا لتصبح تجارب مراد دائمًا خارج تصنيف العمل الأدبي المكتوب، وتصير أقرب لتجارب الهلوسة الآمنة التي لا تحتاج لمخدر ولا لأقراص الفيل الأزرق وإنما تكفيها عقلية متذوقة متفتحة لاستيعاب ألعاب فكرية جديدة، لتغوص في ساعتين أو ثلاثة – مدة تناول / قراءة العمل – ينفصل فيها الإنسان عن الواقع تمامًا، وهو الأمر الذي يعد إنجاز مراد الأكبر الذي ربما يجيده أكثر من أي أبناء جيله من الروائيين.