انكشاف الدولة العميقة: الشعوب تريد إسقاطها
برز مصطلح «الدولة العميقة» (Depth-State) عقب ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 بشكل كبير وأصبح مصطلحًا متداولًا دون أن يعرف حتى مستخدموه معناه الحقيقي، وكنت قد استمعت للمصطلح للمرة الأولى بينما كنت أجري حواراتي مع المثقفين الأتراك حول طبيعة النظام السياسي التركي، وكانوا يستخدمون المصطلح دون أن يكونوا قادرين على تعريفه وتحديد معناه، لكنهم كانوا يشيرون إلى قوة غير مرئية ذات طابع أمني وعسكري، يمكن استخدامها خارج الأطر الرسمية والقانونية، لتنفيذ عمليات ذات طابع عنيف ووحشي لإرهاب من تريد ممن تراهم يمثلون تحديًا أو خطرًا على النفوذ والسلطة ذات الطابع الزبائني لتلك الدولة. وفي سبعينيات القرن الماضي ظهرت منظمة عُرفت باسم «الذئاب الرمادية» لمحاربة الحركات العمالية والطلابية ذات المنحى اليساري، وفي الثمانينيات ظهرت منظمة أخرى عُرفت باسم «حرس الدرك للاستخبارات ومكافحة الإرهاب» لمقاومة تمرد الأكراد، وحوكم أكثر من مئتي شخص بين عامي 2007 و2013 لانتمائهم لتنظيم «أرجينكون» أي الدولة العميقة باللغة التركية.
المراقبة والعقاب
وبينما كنت أحاول فهم الجذور الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للنخب العربية وللدول العربية التي نشأت بعد الاستعمار (Post-Colonialism) أو في ظله كما هو الحال بالنسبة لمصر التي حصلت على استقلالها عام 1922 عن الدولة العثمانية رسميًا، فإنني وجدتني أتعمق أكثر نحو مزيد من التشكل المعاصر للسلطة في مصر وفي العالم العربي أيضًا، والتي تبدو فيها الدولة العميقة حاضرة بقوة وعناد يحول دون التحول نحو دولة ديموقراطية مدنية تحترم الدستور والقانون والإنسان، وتعمل على خدمة مواطنيها وتقود لنقلة حقيقية تخرج بالشعوب من وهدة التخلف وأغلال الاستبداد إلى آفاق النهضة.
ما الذي يجعل الدولة العميقة في العالم العربي تواجه شعوبها الثائرة عليها والمنتفضة ضد قمعها ووحشيتها، وانتهاكها للدستور والقانون، وتفتح مصائر البلاد على الدماء والقتل والصراع السياسي المفتوح وبلا حدود للبقاء في السلطة؟ ما الذي يمنح تلك الدولة التي تتمدد بخبث وخفاء داخل المؤسسات المختلفة وبالتوازي معها قوتها، ويجعل منها مقصلة تعصف برقاب الشعوب حين تخرج مطالبة بالتحرر من الاستبداد والديكتاتورية؟
كتاب ميشيل فوكو بعنوان «المراقبة والمعاقبة: ميلاد السجن»، الذي نُشر عام 1975 بالفرنسية يتحدث فيه عما أطلق عليه «البانوبتيكون» وهو السجن الذي يقبع فيه المساجين في زنازينهم بينما يُراقبهم من بُرج علوي جندي يضع الجميع تحت المراقبة الدائمة، وهنا فإن الشعور بالمراقبة الدائمة من قبل المساجين يحولها من وجود حقيقي فعلي إلى وجود داخلي ذاتي عميق في النفس والروح حتى لو غاب المراقب في الخارج.
دولة في مواجهة المجتمع
هذا السجن بهندسته الجديدة وبثقله البصري المخيف صممه جيرمي بنثام (1748-1832)، وقد لفت نظري أن الفيلسوف والمحامي الإنجليزي كانت له مراسلات مع محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة، وكان مستشارًا له، فكتب له عام 1828، كما أشار تموثي ميتشل في كتابه المهم «استعمار مصر»، والذي تُرجم إلى العربية عام 1990 – لقد حزتم سلطة عظيمة، إلا أنه يتعين تحديد الخطة، ومفهوم الخطة لدى مصمم البانوبتيكون تعني: تطبيق نفس التصميم على النظام الجديد للدولة التي يريد الباشا أن ينشئها، بحيث تكون لديها القدرة على الاختراق والنفاذ والعمق في كافة أوصال المجتمع ومساحاته بلا ترك أي فراغ بلا معنى أو وظيفة، فالخطة تعني وضع إطار يمكن من خلاله تحويل ما أطلق عليه المستشرقون زائرو البلاد «الفوضى إلى النظام»، بحيث يمكن للسلطة العميقة أن ترى كل شيء وأن تؤثر في كل شيء دون أن يراها أحد، أن تكون إلهًا جديدًا لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
الخطة كانت تعني عسكرة المجتمع ونزع قطاعات من الشعب المصري من محاضنها الطبيعية وقراها، لتصبح جنودًا مميزة بزيها وبنظامها وانضباطها، والأهم انتمائها للمؤسسة وللإطار وللخطة وللنظام الجديد، الذي أصبح متجاوزًا للوجود الفزيقي للجندي العسكري، ليصبح آلة لا ترفض الأوامر حتى لو كانت في مواجهة المجتمع الذي جاءت منه.
وأصبح الجنود من المصريين هم الذين يقومون بفرض الرقابة والنظام على مجتمعهم، فهم من قاموا بسوق الأعداد الهائلة من المصريين لأعمال السخرة، وهم من قاموا بفرض النظام الجديد في الزراعة على الفلاحين وفرضوا عليهم البقاء في قراهم دون قدرة على مغادرتها إلا بإذن سابق. رفض الفلاحون سياسة الإخضاع والمراقبة والقهر والظلم والاستبداد فتمرد الآلاف منهم، وكان لافتًا أن من يقوم بقمع الانتفاضات الفلاحية والمجتمعية هم الجنود الجدد المصريون الذين أصبح ولاؤهم لمؤسسات الضبط الجديدة التي أصبحت تمثل قوة لاهوتية حلت فيها القداسة بحيث لا يمكن تصور مخالفتها أو عدم إطاعة أوامرها.
الحنين إلى البلد
كانت إحدى المشكلات الكبرى التي واجهت «البانوبتيكون» الجديد الذي أُريد فرضه على الفلاحين والجنود هو الحنين إلى البلد، فرغم توحش وقسوة الأدوات المتبعة لفرض الدولة العميقة الجديدة فإن الفلاحين قاوموها باستمرار الهروب من قراها، ورغم التحذير من حكم الإعدام لمن يأويهم، بينما انهار الجنود ولم يتحملوا الضغوط الجديدة المرعبة، فكان كثيرون منهم يضعفون بل ويموتون، كما عمد الكثيرون إلى تشريك أنفسهم بفقء عيونهم أو بتر أطرافهم أو كسر أسنانهم! وهو ما اضطر مؤسسات القمع الجديدة أن تكون أكثر لطفًا واحتشامًا، فسعت إلى محاولة إقناع الفلاحين ومراضاتهم، وذلك بالتحول نحو نظام سيطرة أقل عنفًا، عبر طبقة جديدة من ملاك الأرض المقيمين في الحضر من المصريين والأجانب، وذلك لضمان استمرار عملية الإنتاج الجديدة خاصة لمحصول القطن الذي كانت تنتظره بشغف المصانع الإنجليزية.
المدارس والبرلمان والطبقة الجديدة والتفكير الجديد والنشر والكتابة الجديدة، كلها كانت محاولات لإقناع الشعب بأن يكون أداة طيعة منتجة في يد أسياده كما يرون أنفسهم- بحيث لا يمثلون مصدرًا لتهديد سيطرتهم وسطوتهم وسلطتهم. وكان يُنظر إلى التعليم الديني والأزهري باعتبارهما تحديًا لا يمكن السيطرة على تلاميذه ولا مناهجهم ولا مشايخهم، ومن هنا امتدت محاولات الإصلاح داخل الأزهر لضمان دمجه في المنظومة الجديدة التي تخلق مواطنًا يرى نفسه جزءًا من آلة تُدار حيث لا يمكنه هو أن يرى محركها لكنه مؤمن بوجوده ووجوب الخضوع له.
عمّق الاحتلال البريطاني لمصر نظام البانوبتيكون، الذي سبقه إليه محمد علي وإسماعيل، وكانت الفلسفة والأفكار والإطار والنظم مستوحاة من نظام ذات طابع استعماري يسعى للتغلغل والضبط وإخضاع الإنسان ليكون جزءًا من عملية سطو أوسع عليه وعلى مجتمعه دون أن يكون هو مشاركًا فيها أو أُحيط علمًا بمجرياتها.
دولة أكثر وحشية
قاوم المصريون لعشر سنوات بعد عام 1882 الوجود الإنجليزي في البلاد، واستخدم الاحتلال ما يعادل الأحكام العرفية في مواجهة الانتفاضات الريفية التي لم تتوقف، كما استخدم ما عُرف باسم «لجان قطع الطريق»، واستخدمت أشكال مرعبة من تقنيات القمع بداية بالغارات العسكرية والبوليس السري والمرشدين والسجن الجماعي والتعذيب بطرق وحشية وبدائية، وأنشئت وزارة الداخلية في سياق مزيد من السيطرة والضبط على الحياة القروية والمدينية للإنسان المصري، كما أن السكك الحديدية وإصدار تذاكرها لغير المشاغبين من السكان القادمين من الصعيد كانت جزءًا من آلية السيطرة والضبط، وكما يشير كرومر في كتابه «مصر الحديثة» فإن مع نهاية القرن التاسع عشر كان عدد أميال سكك الحديد في مصر بالنسبة لعدد السكان وللمساحات المأهولة واحدًا من أعلى النسب في العالم.
كان هدف المحتل البريطاني يسعى لتخليص المصريين من شر الإفراط في الحكم، حتى يمكن إطلاق الطاقة الإنتاجية للفلاح المصري، وكانت النخبة المصرية الجديدة قد أيقنت مع الاستعراض الجديد لقوة الاحتلال المدعومة بقوة النيران والتنظيم والخطط المسبقة لكل التفصيلات، أن العصر المقبل هو عصر اكتساح الحضارة الغربية، الذي لا يمكن إيقافها أو الانتصار عليها، وكان العرض الذي تم تقديمه أمام الخديوي نوعًا من الاستعراض الذي يحمل نوعًا من السيطرة على العقول والأفئدة بإقناعهم أن ما يجري هو قدر لا يمكن دفعه أو تجنبه.
الحكام الجدد
النخب الجديدة التي حكمت بعد رحيل الاستعمار ظلت تحمل مفاهيمه، فهم قد خضعوا للآلة السياسية البريطانية في الحكم والسياسة والتعليم والتفكير، ولم يكن هناك فرق كبير بين طريقة المستعمر الذي رحل والحاكم الجديد من أبناء الوطن الذي جاء، فقد ظل مفهوم «البانوبتيكون» لسجن جيرمي هو الثابت المستمر في التعامل مع الشعب، باعتباره موضوعًا للحكم والسلطة وليس مشاركًا فيها بأي حال من الأحوال، وأن النخبة الجديدة هي التي ستقوم نيابة عن المجتمع بالأخذ بيده وفق رؤيتها إلى التقدم، وظلت وسائل القمع والإخضاع والسيطرة مستمرة بلا توقف، وكأن الآلة التي تأسست وفق رؤية جيرمي بنثام لترى من وراء حجاب وترابق من دون أن يراها أحد، ظلت تعمل رغم طي الأزمنة والعصور والحكام.
هذا «البانوبتيكون» لم يعد قادرًا على الاستمرار أكثر، فقد اكتشف الشعب أن هناك سلطة ذات طابع جمالي ولطيف وغير عنيف يسري في روح المجتمع فيقبض عليها ويأسرها كما أسر من قبل أجسادهم داخل مفاهيم «متسمعوش كلام حد غيري» فأنتم لا زلتم بعد لم تبلغوا طور فهم مصالحكم. الشباب الجديد شب عن الطوق وكشف وهن الخيوط العنكبوتية التي تحيط بجسده وروحه وقرر التخلص منها إلى غير رجعة ليتحرر من الوصاية والمراقبة والمعاقبة.