مجموعة «إعلان عن قلب وحيد»: شهادة ميلاد أقوى من الموت
هذا ما كتبه محمود درويش منذ سنوات، وهو ما تؤكده في كل مرة تجربة إبداعية ثرية، تفرض حضورها وسطوتها، رغم قسوة الموت والفراق والرحيل، يبقى الإبداع الحقيقي، وتبقى الكلمات، تتوارثها الأجيال وتحضر في كل مناسبة، ولعل حادث الموت المؤسف الذي أودى بحياة الشاب «محمد حسن خليفة» في أول أيام معرض الكتاب، قبيل ساعاتٍ من احتفاله بكتابه الأول، لعل ذلك الحادث كان إشارة أولى لأن هذا الشغف والحب وتلك الموهبة الحقيقية لن تنتهي بنهاية صاحبها، بل ستبقى طويلاً.
تبدو مجموعة محمد حسن خليفة القصصية الأولى، والتي شاء القدر لها أن تكون الأخيرة أيضًا، بمثابة شهادة ميلادٍ متأخرة قليلاً، لموهبةٍ حقيقية لا تملك فقط ما تود أن تقوله للعالم عن نفسها وعن موقفها المحدد بقوة ووضوح منه، ولكنها تملك رؤية وبصيرة تجعل من كاتبها قادرًا حتى على التنبؤ بالكثير من الأحداث والمواقف المحيطة به، والتي يمكن أن تكون وفاته واحدة منها.
تحتوي المجموعة على سبع عشرة قصة قصيرة، متفاوتة في الطول، تحمل عددًا من الرؤى والمواقف والأفكار، وترسم عالمًا قاسيًا جامدًا رغم ما يحتوي عليه من تفاصيل الحياة الواقعية، بل والشاعرية أحيانًا، ولكنه يبقى واقفًا بعيدًا عن كل ما يدور داخل شخصيات أبطال القصص على تنوعهم وثرائهم، الذين بدوا غير قادرين على التعامل والتفاعل مع كل ما حولهم، سواء كان ذلك في بيتٍ ريفي يسكنه أفرادٌ بسطاء، أو في غرفٍ يبدو أنها في المدينة البعيدة، حيث تفرض الغربة والوحدة نفسها على الصور والأشياء والأحياء.
تجليات الوحدة والاغتراب
لا يمكن أن نتجاهل حضور عدد من مفردات عالم الوحدة وهواجسها التي تسيطر على القصص، حتى لتكاد تكون السمة العامة والأساسية لها، ليس فقط من الانطلاق من العنوان الذي يحمل «قلبًا وحيدًا»، ولكن حتى في تفاصيل عدد من القصص نجد تجليات مختلفة لتلك الوحدة، ويبدو بطل كل قصةٍ منها واحدًا، وليس غريبًا أن يحمل في كل مرةٍ أيضًا أحد انعكاسات شخصية الكاتب نفسها، فهو في قصة «فكرة ظلٍ ما» متأثر بنيتشه، وفي قصة «بقايا ضوء» يحب القراءة والكتب ويحاول أن يعزف على العود، وفي قصة «روحي مقبرة» شاب لم يتعد الثلاثين يعيش وحيدًا في شقته، لديه مكتبة كبيرة، ويقرأ عن الحشيش، وفي «إعلان عن قلبٍ وحيد» يجلس في شقته وحيدًا ويتأثر برسومات فان جوخ وتأتيه هلاوس يرى فيها أشياء غير حقيقية! ويعلن تأثره ببيسوا في قصة «بيسوا وأنا» الذي يحضر في المجموعة مرتين، الأولى في المفتتح ومرة أخرى هنا في هذه القصة.
كل هذه التجليات تعكس إلى حدٍ كبير ذلك الشعور المتعمق بالوحدة والاغتراب الذي عاشه ويعيشه الكاتب، ويعبر بالتالي عن جيلٍ كبير من الشباب، يسعى للوجود، والتحقق، ولكنه في كل مرة يفاجئ بمعوقات وصعاب الحياة، التي لا تقتصر على المشكلات العابرة، مثل الحصول على وظيفة أو حبيبة وغير ذلك، بل تتعدى كل ذلك وما هو أقسى وأخطر، وهو الشعور باللاجدوى من الحياة، أو «اللاطمأنينة » على حد تعبير بيسوا في كتابه، كل تلك التجليات من جهةٍ أخرى استطاع محمد خليفة أن يعبّر عنها في تلك القصص بشكلٍ ذكي، وبطريقة غير مباشرة، ودون أن ينزلق في خطابية مزعجة.
تجليات عالم القرية
ليست الوحدة فقط هي الحاضرة في قصص المجموعة، وليست الهواجس والأحلام الذاتية فقط، ولكن ثمة عينا ترصد وتتأمل وتتوقف عند البسطاء والمهمشين، من الباعة الجائلين في قصة «العم إبراهيم ونعناع السبيل» أو «ليل قابلة» وكوبري سيدة وغيرها، مع قدرته على رصد تلك العوالم التي يمتزج فيها الواقعي بالخيالي والأسطوري، كما نرى في لعنة «موت نجمت» التي يستحضر فيها قدرًا من الأساطير المهيمنة على تفكير الكبار بشكل أساسي، كما يرصد بشفافية طرق تعامل هؤلاء البسطاء مع مشكلات حياتهم اليومية والمتكررة، نجد ذلك في «كوبري سيدة » واستعادتها الدائمة لوجود ابنتها التي يراوح الكاتب بين وجودها من عدمه، بحيث تبقى حالة من عدم اليقين متلبسة للكثير من القصص، نجد ذلك أيضًا في قصة «السعد أحمد عبد العظيم» التي تدور في أجواءٍ تجمع بين الشاعرية والرومانسية، ولكن يبقى القارئ على الحياد لا يعرف كيف تعيش حبيبة هذا الرجل «فريدة » رغم موتها منذ سنوات!
هكذا رسم محمد حسن خليفة عالمه، وهكذا جاءت قصصه القصيرة، وموهبته الكبيرة بالفعل، التي يلحظ كل قارئ للمجموعة خلوها من عثرات البداية، ففي القصص بغير استثناء قدرة عالية على التكثيف، والتقاط المواقف والأفكار والتعبير عنها بذكاء، كما تراوح لغة المجموعة بين الاستخدام الفلسفي والشاعري أو التعبير العادي المحايد تبعًا للحالة الخاصة بكل قصة. فاستطاع خليفة عبر كل ذلك أن يؤكد وجوده الأدبي المميز الذي سيبقى أثره طويلاً.