فيلم «Decision to Leave»: حين تصير الجريمة الكاملة إيماءة رومانسية
تمثل أغنية mist، التي ظهرت لأول مرة في فيلم بالاسم نفسه عام 1967 للمخرج الكوري سو يونج كيم، بارقة الإلهام التي تبعها بارك تشان ووك من أجل صنع أحدث أفلامه (قرار الرحيل- Decision to Leave) الذي يعود به للسينما بعد غياب ست سنوات، فحين جلس بارك إلى كاتبة السيناريو جونج سيو كيونج التي كتب رفقتها غالب أفلامه كانت هذه هي كل فكرته عن فيلمه القادم؛ أن يصنع فيلمًا يمزج فيه بين أفلام التحقيق والغموض والحس الرومانسي الذي يسكن أغنيته المفضلة.
هذا فيلم مختلف عن بقية فيلموجرافيا بارك، إنه بلا شك أقل أفلامه عنفًا وأكثرها رومانتيكية، ليس فقط لأنه قصة حب غير تقليدية أو لتخلي مخرجه فيه عن إفراطه المعتاد في تصوير ما هو عنيف ودموي، لكن هذا الفيلم يضم عددًا غير قليل من الإيماءات الرومانسية المبتكرة التي لم نشاهد مثلها مؤخرًا، حتى لدى أكثر المخرجين رومانتيكية.
تبدأ الحكاية بجثة رجل أسفل قمة جبلية شاهقة في مدينة بوسان. يبدو الأمر مجرد حادث في البداية، لكن كل ما تفعله زوجته الصينية (سونج سو راي) يثير شكوك محقق الشرطة (هاي جون). إنها لا تبدو حزينة كما يليق بأرملة، تخلع خاتم زواجها سريعًا وتعود لعملها بأسرع ما يكون. تصير المشتبه فيها الأولى للشرطة، يبقيها المحقق تحت عينيه وقيد المراقبة في محاولة لإيجاد دليل إدانة ضدها، وبينما يراقبها يصير منجذبًا إليها، يتحول الانجذاب إلى فضول، ويتحول بدوره إلى نوع من الاستحواذ.
مزيج نوعي مربك
أفلام بارك دائمًا عصية على التصنيف. تظهر براعة بارك هنا وبأسلوبية واضحة في مزجه دراما التحقيق والغموض بحكاية الحب، كيف تتحول المراقبة إلى طقس حميمي، ويتحول تحقيق بوليسي إلى ما يشبه مواعدة غرامية. لكن نسيج الفيلم يحتوى أيضًا على عناصر من أنواع سينمائية (genres) أخرى كالنوار والكوميديا. يتلاعب بارك خلال هذا المزيج بتقاليد كل نوع وتوقعاتنا منها.
داخل هذا المزيج يبرز النوار noir كنوع حاكم لطبيعة الشخصيات ومسار الحكاية. النوار باعتباره ربما أكثر نوع فيلمي قادر على تجسيد تراجيديا الحب بكل وضوح. لدينا محقق يمتلك ضعفًا خاصًّا تجاه الغموض والجمال الجريح لامرأة مغوية، هي نسخة بارك الخاصة من الـ «Femme Fatale»، امرأة القدر التي تدفع رجل الحكاية نحو الحافة.
(هاي جون) الذي يمتلك هوسًا بالقضايا غير المحلولة عالق في زواج بلاروح، زوجته واضحة ومتوقعة كمعادلة رياضية، وهو مفتون بالغموض. تدخل (سو راي) حياته كلغز، بل سلسلة ألغاز. تجسد الشخصية النجمة الصينية تانج وي بجاذبية لا تقاوم. بارك الذي يمكننا اعتباره معلمًا في تقديم تراجيديات معاصرة يمنحنا هنا قصة حب تراجيدية في فيلم أقرب لروح النوار بالنهاية المظلمة لغرامياته، وبالعواطف الغارقة دائمًا في ظلال/ ضباب الشك.
أصالة المنجز البصري للفيلم
يرى روبرت مكي في كتابه (القصة) أن الأصالة تمثل تجميعًا للمضمون والشكل. ما هو أصيل في فيلم ليس الحكاية فقط، بل الطريقة المبتكرة التي يرتب بها السرد ويتشكل على الشاشة. يعتبر بارك تشان ووك واحدًا من أكثر المخرجين أصالة في السينما المعاصرة عبر محاولاته الدائمة تقديم سرد مبتكر يلائم حبكاته المعقدة وغير التقليدية. الشكل هنا يحمل المعنى ويقدم لنا رؤية المخرج الخاصة للعالم، وهذه اللمسات الأسلوبية المبتكرة تشكل هنا روح الحكاية الذهنية والعاطفية.
حين يريد بارك أن يعبر عن انجذاب محققه للمشتبه بها أثناء مراقبتها، فإنه ينقله إلى داخل فضائها الحميم، بينما يراقبها، نشاهده بجسدها حولها وقريبًا منها، وهذه درجة انجذاب تتجاوز فعل المراقبة نفسه الذي يستمر الليل كله، أو حتى ما يتبدى في نظراته أو صوته أنها تجذبه إلى مدارها بدرجة لا تقاوم. لدينا أيضًا لمسات الإضاءة التعبيرية التى تعكس مزاج المشهد أو عاطفة الشخصيات. في واحد من مشاهد التحقيق تقترب سو راي من المحقق لتطلعه على بعض الوثائق من خلال هاتفها، يتلامسان مصادفة فيضيء الكادر المعتم بضوء ساطع. حين تساعده في أحد المشاهد على التخلص من أرقه بتكنيك مبتكر، تحمله على صوت أنفاسها صوب البحر فتتحول الإضاءة إلى مزيج بين الأخضر والأزرق. ضوء بريء وحميم.
يؤسس بارك للازدواج كتيمة بصرية حاضرة بقوة في الفيلم بحيث يبدو أن لكل الأشياء والشخصيات وجهًا آخر. بداية من ورق الحائط وغلاف مفكرتها الذي يبدو حينًا كموج البحر وحينًا كقمم جبلية، أو كالاثنين معًا. فستانها الذي يبدو مرة بلون أخضر ومرة بلون أزرق وصولًا لمشهد التحقيق الرئيسي في النصف الأول من الفيلم وفي ذروة انجذابهما إذ يحرص بارك على وجود مستويين للصورة عبر انعكاس بطليه على الحاجز الزجاجي لغرفة التحقيق، هذا هو المحقق والمشتبه بها، وهذا رجل يقع في الحب مع امرأة يحاول أن يتعرف عليها أكثر بحيث تتبادل الصورة وانعكاسها حيز الوضوح داخل الكادر. هذا المشهد تحديدًا أقرب إلى مواعدة. تخبره أنها لا تحب الجبال، بل البحر، فيخبرها وأنا أيضًا! يطلب لهما وجبتي غداء فاخرتين ويتناولانهما معًا. تفاصيل كهذه لا تظهر في سياق تحقيق رسمي.
في النصف الثاني من الفيلم مشهد تحقيق آخر معها مرتبط بجريمة ثانية هنا، وفي ضوء خبرته السابقة معها يحاول أن يلتزم بحقيقة أنه محقق وهي مشتبه بها، نشاهد مكانًا رسميًّا جدًّا بلا أي حميمية، لا يظهران معًا داخل نفس الكادر دون وجود حاجز، بالإضافة لضيق الكادرات، إنه يحاول حصارها هذه المرة لا التعرف عليها.
كثير من الأحداث تُستعاد من زاوية أخرى عبر السرد، والمرة الثانية دائمًا تكون مصحوبة بتبدل في إدراكنا ومشاعرنا تجاه الحدث والشخصيات، وكأننا في المرة الثانية قد شاهدنا وجهها الثاني. في المشهد الذي يخبرها فيه بمعرفته حقيقة ما جرى لزوجها وتواطئه معها، ثم قراره بالرحيل، نشاهده من زاوية وعبر إضاءة تظهر كآبة اللحظة والإحساس بالضآلة والضياع الذي تشعر به الشخصية حين يعود مرة أخرى للحظة نفسها، نراها من زاوية أخرى وإضاءة أخرى تبدو على نحو ما أكثر إشراقًا لأنه قرينة باكتشاف المحبة.
تعتمد أسلوبية بارك تشان ووك على الإفراط، يمكن اعتباره على نحو ما maximalist، فهو يحاول أن يستغل كل لحظة في زمن الفيلم في إضافة المزيد من التفاصيل التي تثري الحبكة وتعمق الشخصيات ممارسًا سطوته حتى على المشاهد التفسيرية والانتقالية من أجل أن يبقى التوتر على أشده.
استحواذ رومانسي متبادل
*تنويه: يوجد حرق لأحداث النهاية..
ليس من المفاجئ وجود تعليقات عن تشابهات بين «قرار الرحيل» وتحفة «فيرتيجو» لهيتشكوك، فكل منهما يمزج حكاية حب تراجيدية في ثنايا الجريمة والغموض، بالإضافة لتيمة الاستحواذ الرومانسي التي تتخللهما. في فيرتيجو كان الاستحواذ من طرف واحد، لكن بارك سرده على ما يمكن أن نسميه استحواذًا رومانسيًّا متبادلًا.
يتبادل بطلا الفيلم المتحفظان في التعبير الصريح عن مشاعرهما الدور في تقديم إيماءات الحب ورسائله المبطنة. بماذا يمكن أن نصف حال هاي جون الذي يتخلص من أرقه المزمن وينام أثناء مراقبته لسو راي لأنه فقط يتخيل نفسه إلى جوارها، سوى أنه واقع في الحب دون حتى أن يدري. في النصف الأول من الفيلم الذي يدور في بوسان يستحوذ حبها عليه. هو من يقدم إيماءات وأفعال الحب قبل أن يتخذ قراره بالرحيل. في النصف الثاني يستحوذ حبه عليها، وتبدأ هي في مراقبته. كل ما تفعله هو إيماءة رومانسية ورسالة محبة له حتى تتخذ قرارها هي الأخرى بالرحيل. تدور أحداث النصف الثاني في مدينة ايبو الغارقة دائمًا في الضباب، حيث تصبح محيطًا مناسبًا للفصل الأخير في علاقتهما الملتبسة، كما تحقق تواصلًا مع الأغنية التي منحت الفيلم إلهامه.
قرب نهاية الفيلم تخبره في سياق بحثه عن هاتف يحتوي تسجيلًا صوتيًّا ألقت به في البحر، يسألها عن طبيعة هذا التسجيل فتخبره أنه صوتك وأنت تعترف لي بحبك. فيجيبها في شك هل فعلت ذلك؟ متى اعترفت لك بحبي؟ تضحك في أسى.
في فيلم in a lonely place للمخرج نيكولاس راي كاتب يدعى ديكسون ستيل يؤديه همفري بوجارت، يخبر حبيبته في أحد المشاهد بعد أن أبدت إعجابها بمشهد حب في سيناريو فيلمه؛ يخبرها:
هذا ما يصنعه بارك شان ووك بمشهدية الحب في فيلمه، إنها مشهدية مشحونة بإشارات الحب وأفعاله دون حاجة إلى تصريح واضح. مشاهدته يطهو لها بينما هي تدخن إلى جواره تنطق بالحب. حين يكتشف ضلوعها في قتل زوجها الأول فإنه يتواطأ معها، يخبرها أن تلقي بالهاتف الذي يشكل دليل إدانتها في البحر عميقًا حتى لا يعثر عليه أحد، بالنسبة إليها يصير هذا الفعل كلمة أحبك التي تستعيدها مرارًا.
حين تكتشف المشهد الدموي لمقتل زوجها الثاني فإن كل ما تفكر فيه هو هاي جون الذي اعترف لها سابقًا؛ أن أكثر ما يخيفه هو موقع جريمة غارق في الدماء، بسبب الرائحة. يصير كل همها أن تخلص مشهد الجريمة من الدم ورائحته دون تفكير في كون ما ستفعله يورطها أكثر، كونها تمحو أدلة جنائية.
في النهاية، حين تقرر الرحيل مرتكبة ما يراه بارك الجريمة الكاملة، حيث تختفي دون أثر، فإنها هنا تصير قضيته غير المحلولة، كأنها تزرع نفسها داخل أرقه وداخل استحواذه لتضمن بقاءها معه إلى الأبد. اختفاؤها هنا هو إيماءتها الرومانسية الكبرى. لسنوات طويلة فكر بارك كيف يمكن أن تختفي جثة ما دون أن تترك وراءها أي دليل أو أثر، سيكون الأقرب للجريمة الكاملة، وهداه تفكيره إلى ما فعلته سو راي في نهاية الفيلم.
هذه قصة حب دون كلمة أحبك وفيلم ايروتيكي دون مشهد جنس واحد. إن غياب كلمة أحبك يجعل كل إيماءة وفعل أكثر سطوعًا وأكبر أثرًا وغياب الجنس يشحن كل نظرة، لفتة، وسلوك، بايروتيكية طاغية.
العالم لدى بارك تشان ووك تراجيدي بامتياز، سقوط دائم، حيث يد القدر تدفع كائناته نحو الحافة، تنكسر الكائنات البريئة، ويتحول الضحايا إلى وحوش. أفلامه دائمًا عن السلوك البشري في غموضه والتباسه، وعن مشاعر في حالات قصوى، وهو هنا يقدم استقصاءً سينمائيًّا بأسلوبية فاتنة لحكاية حب غريبة مشغولة بنفس تراجيدي.
لقطة من تتابع النهاية – في النوار دائمًا الرجل في قبضة الأنثى المغوية، والاثنان في قبضة الرغبة.