غريزة الموت بين السيكولوجيا والأدب: نجيب محفوظ نموذجًا
عندما تُطرَح مسألة تأثر نجيب محفوظ بمدرسة التحليل النفسي وأستاذها الأول «سيجموند فرويد»، نجد أن النقد منصبًا على رواية «السراب» من دون غيرها، وكأنها تجربة شاردة للكاتب لا تتوازى مع أفكاره في تلك المرحلة (ما قبل الثلاثية). ومن أجل تحليل أكثر ترابطًا، قررنا تركيز العمل على قضية من القضايا الوجودية التي تأثر محفوظ برؤية فرويد لها، قضية تحمل دلالات ثرية استخدمها محفوظ لتعميق جذور أفكاره الفلسفية والتقدم خلال مراحل إبداعه الروائي.
أسبقية الموت
في افتتاحية «الحرافيش» يوحي محفوظ بأسبقية الموت على الحياة في فلسفته الأدبية، فالرغبة في الحياة بما هي حركة تنافي الحالة الأولية الساكنة «لا تبدأ بالولادة بقدر ما تتخلّق بيقين الموت». [1]
وهو ما يتطابق مع رؤية فرويد للموت كـ«غاية» تنزع إليها دوافع تدمير الذات عن طريق عملية تلقائية تهدف إلى إحياء حالة قديمة، حالة مبدئية تركها الكائن الحي وراءه في زمن ما. هي الحالة اللاعضوية [أي: حالة المادة الجامدة قبل التطور العضوي وظهور الحياة مع الخلية البدائية]، وهي نقطة اختزال كامل للتوتر ينحو إليها الإنسان كهدف قديم ترسخ في أعماقه اللاشعورية، وهجره تحت ضغط الظروف الخارجية، فالكائن الحي لم يكن لديه من مبدأ وجوده ميل إلى التغير أو الحركة، وإنما للحفاظ على حالة السكون والثبات. «إن الموت غاية كل حي، وإذا ألقينا بنظرة إلى الوراء قلنا: إن الميت قد وُجد قبل الحي». [2]
إنكار الموت
بعد الصدمة التي تلقاها جلال بموت أمه، لحقت به المأساة مرة أخري بموت حبيبته «قمر». هام بالمستحيل، وأنكر الموت فاعتبره مصير العاجزين فقط. وشرع في بناء مئذنة أسطورية يتحدى بناءها الموت والعدم.
يفترض فرويد أن الإنسان يعلم أن الموت شيء طبيعي لا يمكن إنكاره ولا سبيل إلى الإفلات منه، لكن سلوكه يُظهر خلاف ذلك، فهو يستبعد الموت ويُخرِسه. وعندما يفكر الإنسان في الموت لا يستطيع تصور موته هو، بل يتخيله بوصفه متفرجًا يشاهد موت الآخرين. «لذلك فإننا قلنا من خلال التحليل النفسي إننا في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت، وإننا بمعنى آخر نعتقد في لا شعورنا أننا خالدون». [4]
يُعرِّف فرويد اللاشعور بأنه الطبقات الأعمق من العقل التي تتألف من الدوافع الغريزية، وهو لا يعرف السلبيات أبدًا، لذلك لا يعرف أنه سيموت- لأن الموت معنى سالب- ومن ثَمَّ كانت كل غرائزنا لا تعرف الموت، ولا تخشاه تبعًا لذلك.
اقتنع جلال بأن الانسان حين يتكيّف مع فكرة الموت يمنحها قداسة ما، ويُشجِّعها كي تصير حقيقة خالدة لا يرقي إليها الشك. فاستهزأ بالحارة وسُكّانها حيث رأى رضاهم عن الموت، عبادةً له. وبعدما ناشد الخلود عند «شاور» وآمن بأن الموت قد مات. ازدراه الموت بأن جاءه في حوض للدواب، فغاص في الماء العكر ومن حوله العلف والروث.
وتلك الرؤية قد تشرّبت بها روايات عديدة لمحفوظ لا الحرافيش فقط. فهو يقول في أصداء سيرته الذاتية:
في رواية «قشتمر» يقول أحد الصغار: «نينة قالت لي إننا كلنا سنموت». ويُعقِّب الراوي قائلًا: «لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس في قوله جديد في ما يبدو ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتمٌ مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نُسلِّم بالموت بألسنتنا، أمّا قلوبنا فترمي به إلى موضع في الزمان قصي».
يشير فرويد إلى أن الحالة التي التقت فيها النظرتان المتعارضتان للموت، كانت حالة البدائي في العصور القديمة حين يموت أحد أحبابه. فهو لا يعي الموت إلا بوصفه انتهاء للحياة، ولكنه أمام الحزن والأسى الذي يوِّلده موت أحبائه، رفض الاعتراف بالموت بشكل كامل. فهو يتقبّل الموت كحقيقة، ولكنه سيرفض بعد الآن أن يعترف بأن الموت نهاية الحياة، فذكرى الميت لن تُفارقه، وسيعتمد على تلك الذكرى ليتصور نمط لحياة أخرى بعد الموت، حيث أوحت إليه التغييرات التي يُحدثها الموت بتقسيم الفرد إلى جسد وروح، بل إلى أرواح عديدة، وأصبح تذكُّر الميت لفترة طويلة، هو الأساس لافتراض أنماط أخري للوجود، وأعطاه تصور الحياة التي تستمر بعد الموت الظاهري.
إذًا فقد كان الموت دافعًا لنشأة تصورات الإنسان القديم عن الحياة الآخرة، والروح، والخلود، والأخلاق.
أمّا في العصر الحديث، فإن الموت يعد دافعًا إلى التفكير في الحياة والخوض في تجربتها كما يُصرِّح محفوظ، ومن جانب آخر يرصده فرويد، فإن مقاومة الميول العدوانية التي تدفعنا إليها غرائز الموت هي سبب تقدم الحضارة وارتقاء الثقافة.
- يحيى الرخاوي، “قـراءات في نجيب محفوظ”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992.
- سيجموند فرويد، “ما فوق مبدأ اللذة”، ترجمة: إسحاق رمزي، الطبعة الخامسة، ص71.
- نجيب محفوظ، “ملحمة الحرافيش”.
- سيجموند فرويد، “الحب والحرب والحضارة والموت”، ترجمة: عبد المنعم الحفني، الطبعة الأولى، 1997، ص28.
- المرجع السابق، ص 33.
- نجيب محفوظ، “ملحمة الحرافيش”.