عزيزي الإعلامي المخضرم: لماذا أحببنا أحمد خالد توفيق؟
عزيزي الإعلامي المخضرم/…
تحية طيبة وبعد..
لقد بلغنا استياؤك التام، وإننا لآسفون لك أن يصيبك عمل درامي أو أدبي بكل هذا الضجر، أظن أنك واعٍ بما يكفي لتدرك أن الحياة قصيرة، وليس عليك أن تأخذ الأمور كلها على محمل الجد إلى هذه الدرجة؛ لهذا اطمئن، فنحن لسنا ممن يأمرون الناس بالبرِ وينسون أنفسهم، ولسنا هنا لنحاور ونجادل، إنما نحن فقط بصدد لسان حال جيل، ولسان حال «مؤلف وروائي راحل شديد الانتشار والنجاح» على حدِ قولك.
«راحل» يعجز عن الرد والتبرير ونشر التغريدات المضادة، ولكنه قبل أن يرحل ترك إرثًا عظيمًا، ليس فقط من مؤلفات وقصص قصيرة يجدر بها أن تتحول إلى أعمال سينما وتلفزيون، وإنما خلّف معها جيلًا بأكمله يحمل له عرفانًا لن ينكره أبدًا، عرفانًا ليس له قيمة إن لم يُتوَّج بردٍّ لغيبته ودفاع مستميت أظن أنك رأيته، ولكن لا مانع من تكراره، فإن التذكِرة تنفع المؤمنين.
أما بعد..
دعنا في البداية نقرّ بحقيقة جازمة اتفق عليها القراء جميعهم من المشرق إلى المغرب، ألا وهي حتمية فشل أي عمل درامي قُدِّم استنادًا على عمل أدبي مهما بلغت قوة إنتاجية العمل الدرامي أو براعة أداء ممثليه ومخرجيه، وخصوصًا إذا شهد العمل الأدبي من البداية نجاحًا وحفاوة وقوبل بالترحيب من القراء، فإنه حتمًا ولا بد أن يصيبهم العمل الفني بخيبة الأمل، ليس أبدًا لقصور في العمل الفني أو لضحالة فنية مقدمة من خلاله مثلًا، ولكنك تعرف وأنت أكثر العارفين أيها الإعلامي المثقف -كما أعتقد- أن للقرّاء عمومًا ولقرّاء هذا النوع من أدب الرعب خصوصًا خيالًا واسعًا خصبًا بإمكانه إخراج أعتى قصص الرعب على الوجه الأكثر حبكة على الإطلاق دون أبدًا المساس بعقلية القارئ كما يحدث من القائمين على إخراج هذا النوع من الأفلام والمسلسلات ضاربين بالجمهور الأصلي للرواية عرض الحائط، ولكنك على أي حال لا تتبع كلا الفريقين، لقد تنزهت عن كونك مشاهدًا وسخرت من كوننا قرّاء، ولك مطلق الحرية، ولنا مثلها.
ولكن من وجهة نظر فريق عمل كامل قائم على مسلسل كالذي تتحدث عنه، فلا يمكننا الإنكار أبدًا أن ذوق المشاهد العصري يحتم عليهم الخروج لنا بنفس النوعية من الأعمال الدرامية، بنفس العدد القصير من الحلقات التي تصدر الواحدة منها مرة أسبوعيًا على إحدى المنصات الشهيرة التي بدورها سهلت عملية الإنتاج وجعلت من الفن بوجه عام سبوبة لمن استطاع إليه سبيلًا.
دع عنك حداثة المنصات، وارجع معي لعصر لم أكن وُلدت فيه بعد، باعتباري من جيل الكاتب الذي تهاجمه. عصر سمعنا وقرأنا عنه وشاهدنا أفلامه تباعًا، عصر جاء فيه نجيب محفوظ بجلالة قدره طالبًا من الناس ألا يصدروا أحكامًا على كتاباته من خلال أفلامٍ معروضة على شاشات السينما، رُغم كونها علامة من علامات السينما إلى يومنا، نعم تمامًا كما خطرت الثلاثية في ذهنك لأول وهلة، التي رغم نجاحها المدوي فإنه لم يكن راضيًا عنها سينمائيًا، ما دفعه بعد ذلك للمشاركة في كتابة السيناريو بنفسه ليضمن أن يخرج العمل ببصمته ليستحق أن يُنسَب لاسم حاصل على نوبل.
وهذا هو جوهر الاختلاف هُنا أيها الإعلامي، فصاحبنا الذي تهاجمه لا يملك من أمره أن يعود لدنياه كي يشرف على أعماله ويضمن أن تخرج بالصورة اللائقة به وبقرّائه المخلصين وبالنقّاد، هو ليس هُنا ولم يتبقَ منه سوى بعض الروايات المصحوبة بقصص الجيب وعدد وافٍ من المقالات والاقتباسات التي تزعجك وزملاءك لأنها أوقعتنا في مفارقة عجيبة أن يصادف خيال صاحبنا واقع مرير نعيشه، وهو لم يعشه معنا، ومع ذلك يُحاسب عليه.
ولكن شئنا أم أبينا، فهذا لن ينفي أبدًا الضجة التي أحدثها المسلسل، والجمهور الكبير الذي انضم إلينا من دون أن يقرأ له ولو قصاصة واحدة مما حرصنا على ابتياعها صغارًا. جيل فور أن أتمَّ الحلقة الأخيرة ذهب ليبحث عن أصل الرواية، ومن ثم باقي الأعمال، ليظفر صاحبنا _وهو ليس معنا_ بقطاعٍ عريض جديد، يكتب لك ليدافع عنه، وهو هادئ كعادته، ربما من أجل كل هذا أحببنا أحمد خالد توفيق!
ما أنا واثقة منه تمام الثقة أنه لو بيننا اليوم لخرج العمل مختلفًا تمامًا عما هو، ببصمة كاتبه وخياله مخاطبًا كل الفئات والأعمار، ليس فقط رعبًا موجهًا لقرّاء قصص الجيب، فالمقارنة هُنا غير عادلة، أن تقرأ وأنت في عمر الخمسين قصة تندرج تحت بند أدب الأطفال ثم تنعتها بالسذاجة، فكان من الأحرى أن تترك كلًا وشأنه، كعادتك دومًا، مُحايدًا مُسالمًا كالماء، لم يخرج لك يومًا تصريح مثير للجدل، ويوم خرج جئت مُهاجمًا شعبية مُمثلة في رمز لجيل كامل من الشباب، رمز من جعلهم يقرؤون.
أهملتَ السياق الزمني الذى أسهم بقوة في التفاف الشباب حوله، حيث بدائية الإنترنت وقتذاك، وفي الوقت ذاته انحسار ما يقدمه التلفزيون -قبل تطويره- بما لا يناسب العصر، حيث تيه الشباب وسط عظام السلف من الأدباء القدامى المخاطبين شريحة المثقفين من آبائنا، فلم يقوَ كثير من أبناء الجيل الجديد على مواكبتهم، وتيههم الآخر وسط تيار الحداثة الغارق في الإسفاف المدقع، وقت كانت محاولات التمصير التي تستخف بها هي بمثابة إبهار لجيل كامل؛ فليس لنا سبيل للاطلاع على الأدب العالمي كما هو متاح في وقتنا هذا، كانت الترجمة والاقتباس والتصريف بمثابة شبّاك لنا على العالم يشكّل وعينا دون تذمر فلولا هؤلاء الكُتّاب لصار الاطلاع على هذا النوع من الأدب دربًا من الاستحالة!
ثانية، ربما من أجل كل هذا أحببنا أحمد خالد توفيق، والتففنا حوله التفافًا أثار غضبًا غير مُبرر لكثيرين أنت منهم، ربما لأنه طبيب الغربية البسيط، الذي أغرم بأدب الرعب وطب المناطق الحارة وأغرمنا بهما معه رغم غرابتهما، غرامٌ يجعلنا نشفق على جيلٍ آتٍ ليس له كاتبٌ مفُضّل ولا أديبًا ينتظر أعماله أو حتى مدوّناته الأسبوعية أو الدورية بشكل عام كمجلّتنا تلك التي كان يطل من خلالها أديبنا على قرّائه بين كل حينٍ وحين، جيل لا يعرف معنى أن تتنافس مع أصدقائك حول كُتّابكم المُفضّلين وأن تفاضلوا بين أعمالهم وتتباهى بنجاح كاتبك تارّة وتُدافع عنه حين نقده تارّة، أن تكتشف لاحقًا أن نزاعاتك مع أصدقائك تلك لهي بمثابة ندوة ثقافية، فتصطحبا بعضكما البعض لنادي قُرّاء تدلوا فيه بآرائكم وينشأ من بينكم مجموعة قُرّاء وكُتّاب جُدد، جيلًا حُكِم عليه بالفقر المعرفي إلا من خلال حلقاتٍ تُذاع له مرة أسبوعيًا تخبره أن كاتبًا بمثل هذا الخيال قد مرَّ من هُنا، رحل وأدبه باقٍ لمراهقين وأطفال جُدد، علّه دون أن يشعر ينتشلهم من فقر فكريّ ينتظرهم بترحابٍ شديد ليبتلعهم كما ابتلع كثيرين غيرهم، وخلّفهم ماسخين بلا هوية، لم يبقَ لهم سوى الحياد الإيجابي والتعايش السِلمي.
أعتقد أن تلك القضية أولَى بالنقاش في إحدى حلقات برنامجك.
والسلام..