فيسبوك الأموات: أهلًا بكم في عصور الجثث الرقمية
إنه وقت فراغك… تشعر بالملل، فتمسك هاتفك وتضغط على أيقونة فيسبوك لتجد أحد أصدقائك يشارك منشورًا عن صديق توفّي، طالبًا الدعاء له بالرحمة والمغفرة، فتكتب تعليقًا يتضمن إحدى العبارات الشهيرة في هذا المقام: «البقاء لله»… «إنا لله وإنا إليه راجعون»… «الله يرحمه».
وبعد نشر التعليق تلاحظ أنك تطالع بصورة شبه يومية منشورًا أو أكثر عن وفاة أحد مستخدمي فيسبوك، حينها تذهب إلى حسابك الشخصي؛ لتبحث بين أصدقائك فتجد أن من بينهم متوفين، ربما عرفت بوفاتهم أو لم تعرف، فتضغط على رابط حساب أحدهم لتطالعك عبارات تذكر بسيطة:
حينها تتذكر الموت، لكنك لا تستطيع أن تُغالب وعيك وتساؤلاتك عن حسابات عدة على منصات التواصل الاجتماعي صارت حسابات للتذكر والترحم والدعاء؛ بسبب وفاة أصحابها. قد تعتقد أن الأمر لا يتعدى عشرات أو مئات أو ربما آلاف الحسابات على أقصى تقدير، وأن عدد المتوفين على فيسبوك أقلية، لكن دعني أصدمك وأخبرك أنهم صاروا بالملايين، وعما قريب سيكون الموتى أغلبية سكّان فيسبوك، بعدما تتحول المنصة وشقيقاتها إلى مقابر رقمية!
كيف ذلك؟
استمر في القراءة إذا كان السؤال يشغلك.
أهلًا بكم في المقابر الرقمية
غيّرت منصات التواصل الاجتماعي الطريقة التي نتواصل بها في حياتنا، وكذلك غيّرت طريقة تذكرنا بعد الموت، وبات الموتى أحياء ومؤثرين عبر الإنترنت، وتحولت حساباتهم إلى «نصب تذكارية» تتصدرها كلمات تذكر، وهي إحدى الخيارات التي باتت تمنحها المنصات لحسابات الموتى؛ بسبب كثرة الوفيات التي بلغت حوالي 30 مليون مستخدم لفيسبوك خلال السنوات العشر الأولى من عمر المنصة، ووفقًا للتقارير الصادرة عام 2016 فإن حوالي 8.000 مستخدم لفيسبوك يموت يوميًا، بما يعادل 428 مستخدمًا كل ساعة، وقد زاد العدد عام 2018 ليصل إلى أكثر من 300 ألف مستخدم شهريًا.
هذه الأرقام تشير إلى أن فيسبوك بات بالفعل مقبرة رقمية كبرى، إنها بالفعل أرقام ضخمة وحجم بيانات هائل يحتاج إلى دراسة وتعامل من نوع خاص، ولكن كيف؟
ماذا سيحدث عام 2100؟
هذا ما توصل إليه تحليل أكاديمي بمعهد أكسفورد للإنترنت، في إبريل/نيسان عام 2019، بعنوان «هل سيطر الموتى على فيسبوك: مستقبل الموت عبر الإنترنت»؛ لينذر بواقع ذي آثار خطيرة على كيفية تناولنا وتعاملنا مع تراثنا الرقمي في المستقبل، في ظل تنبؤ التحليل بأن عدد الموتى على فيسبوك قد يفوق عدد الأحياء بحلول عام 2070، إذا استمرت المنصة في النمو بالمعدلات الحالية، مع تنبؤات بوفاة 1.4 مليار مستخدم على الأقل، وقد يصل العدد إلى 4.9 مليار مستخدم قبل نهاية القرن، وحينها يمكن أن تصبح كلمة «المستخدمين» كلمة خاطئة.
يقول الباحثون في أكسفورد إن تحليلهم ليس تنبؤًا بالمستقبل أو تعليقًا على التطور الحالي للمنصات الاجتماعية، إنما هو جزء من النقاش حول الوفاة عبر الإنترنت وآثارها، وفرصة لتشكيل المستقبل، وطريق طويل يجب أن نسلكه شئنا أم أبينا؛ إذ ستؤثر إدارة «رفاتنا الرقمية» على عالمنا، لأننا نترك بياناتنا كجزء من تراث رقمي عالمي لم يسبق له مثيل من السلوكيات البشرية والثقافات والتقاشات، وسيكون التحكم فيه بمثابة التحكم في تاريخنا.
لذا، فمن المهم أن نضمن ألا يقتصر الوصول إلى هذه البيانات التاريخية على شركة واحدة تسعى إلى الربح، كذلك يجب التأكد من أن الأجيال القادمة يمكنها استخدام التراث الرقمي لفهم تاريخهم، كما ينبغي على علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن يهتموا بفحص «العلاقات شبه الاجتماعية» التي نشكلها مع الأموات على الإنترنت، وسيطرة الشركات الكبرى على رفاتنا الرقمية. لذا أشار الباحثون إلى وجوب دعوة فيسبوك للمؤرخين والعلماء؛ للمشاركة في تنسيق هذا الكم الهائل من البيانات؛ لأن الأمر لا يتعلق فقط بإيجاد حلول خلال بضعة أعوام قادمة بل هو أمر نحتاجه لعقود.
أين المشكلة؟
يثير تحليل أكسفورد تساؤلات حول صاحب الحق في كل هذه البيانات، وكيفية إدارتها واستغلالها، بعد تحول فيسبوك إلى «مقبـرة رقمية»، والذي ربما يدفع باتجاه «إعادة تدوير الجثث الرقمية»، وجعلها تراثًا رقميًا مؤرشفًا، يضم بيانات وأفكارًا ونزاعات وتعليقات وتدوينات في مختلف القضايا، تعد مصدرًا مهمًا في تدوين التاريخ بناء على «الترندات» والنقاشات والتعقيبات على الأحداث، وهو ما يدفعنا إلى التفكير في ما يمكن تسميته «إعادة تدوير المحتوى»، في ظل أن منصات التواصل هي مالكة المحتوى الذي يعد جزءًا من بصمتنا الرقمية لتشكيل إرثنا الرقمي.
وبالرغم من أن المنصات تمنح خيارات عدة لحسابات الموتى إلا أنها تبقى خيارات محدودة بتجميد أو حذف الحساب، لكنها لا تقدم تصوّرًا لطرق التعامل مع البيانات التي تتضمنها هذه الحسابات بعد وفاة أصحابها، وربما هذا هو ما يُقلق، في ظل أن المنصات لا تعرف عناية فائقة ببيانات مستخدميها، تشهد بذلك فضيحة كامبريدج أناليتيكا وغيرها.
ما يزيد الأمر قلقًا هو غموض المسئولية القانونية والمجتمعية التي تقع على عاتق المنصة عند استخدام حساب لشخص متوفى، خاصة أنه أمر لا تنص عليه قوانين واقعية أو افتراضية (خاصة بالواقع الافتراضي)، كما أن ترك حسابات الموتى دون آلية تحكم عملها قد يؤدي إلى استخدامها في تنفيذ عمليات سرقة هوية واحتيال مالي وإعلاني.
إلى جانب ذلك، فإن تعليق فيسبوك على تحليل أكسفورد لم يكن مطمئنًا، فقد صرّح متحدث باسم فيسبوك لجريدة تايم، أنه على الرغم من عدم موافقة الشركة على تنبؤات الدراسة، إلا أنها تدرك المشكلة الأكبر، و«لدينا احترام عميق لمكانتنا الفريدة في حياة الناس، ونأخذ دورنا في الحديث عن بناء إرث في العصر الرقمي على محمل الجد»، كذلك ذكر بيان صحفي في إبريل/نيسان 2019 أن الشركة تعمل على أن تظل «مكانًا يُحتفل فيه بذكرى أحبائنا ويعيشون به»، وهذه تعليقات فضفاضة تشير إلى مكاسب ومكانة فيسبوك لكنها لا توضح مسئوليتها وخططها.
أزيدك من القلق أبياتًا
إذا انتقلت إلى رابط تحليل أكسفورد السابق ستجد هذا الاقتباس يتصدره، من رائعة جورج أورويل (رواية 1984):
هذه العبارة مقلقة، وقد أكّد واضعا التحليل أن تضمينها ليس اتهامًا لفيسبوك، لكنه تحذير بشأن ما يمكن أن يحدث إذا لم نحرص على تحديد من تؤؤل إليه ملكية تاريخنا الرقمي الجماعي، فنحن بحاجة إلى تشكيل مؤسسات مناسبة للتعامل مع هذا الأمر، تضم مؤرخين وأمناء محفوظات وسياسيين؛ لأنها مشكلة أكبر من أن يتمكن فيسبوك من التعامل معها بمفرده.
كما أن «الاعتماد على شركة أمريكية ربحية في التعامل مع الإرث الرقمي العالمي بمفردها هي فكرة غير واقعية»، وذلك بحسب رسالة إلكترونية نشرتها التايم البريطانية لأحد مؤلفي الدراسة، والذي أكد فيها أن «السيطرة على الماضي ليست بالأمر البسيط، واقتصار ذلك على شركة واحدة يشبه تسليمها إلى حكومة شمولية»، وهو ما يدفع إلى بدء حوار حول الممتلكات والهوية الرقمية والموت الرقمي، لكونها أمورًا يتشكل منها التاريخ الرقمي للمجتمعات، آملًا أن يمنح تحليله فرصة للتفكير في تدخلات سياسية مدروسة وفعالة؛ لأن الأمر يتعلق بمعالجة إرث إلكتروني ضخم سيخلّفه الموتى، ولن تقتصر أهمية دراسته على المؤرخين بل هو جزء أصيل من سجل حيوات وذوات الأجيال القادمة، بما قد يشبه إحدى أفكار مسلسل Black Mirror، بأننا ربما نتمكن يومًا ما من تحميل محتويات عقولنا ووعينا على السحابة؛ لإنشاء نسخة افتراضية لأنفسنا يمكن للناس مواصلة التفاعل معها بعد وفاتنا، لكن الأمر هنا أخطر؛ إذ هو تراث ضخم تحت سيطرة شركة ربحية غير موثوق بها.
وأبياتًا أخرى…
إلى جانب الأكاديمي السابق، اسمح لي أن أقدم لك الطبيبة النفسانية «إيلين كاسكيت»، وهي صاحبة كتاب «جميع الأشباح في الآلة: أوهام الخلود في العصر الرقمي»، الذي تناولت فيه القضايا الأخلاقية والتقنية المحيطة ببياناتنا عندما نموت.
في مقابلة نشرتها الجارديان، أكدت إيلين أن في التكنولوجيا تمنح بيانات المتوفى التبجيل نفسه الذي حظيت به عندما كان حيًا، لكنها ليست موادًا ملموسة ليتم توريثها، كما أن فيسبوك يرفض المساعدة للوصول إلى بيانات المتوفى؛ بسبب ادعاءات حماية حقوق البيانات والخصوصية، وأشارت إلى حادثة مقتل فتاة بواسطة صديقها السابق، وكان حسابها على فيسبوك يضم صورًا لها مع قاتلها، ورغم ذلك رفض مسئولو المنصة في البداية السماح لعائلة الفتاة بحذف هذه الصور، مُدّعين أنهم يحمون خصوصيتها!
الأخطر في كلام إيلين كان تأكيدها على أن فيسبوك يجمع البيانات لأغراض تجارية، وإذا لم يعد الشخص حيًا ليشتري المنتجات فإن بياناته لا تزال ذات قيمة للشركة لأغراض عدة، لذا فهم يحتفظون بالملفات، لكنهم لا يعلنون عن التخلص منها أو كيفية استغلالها، وفي الحالتين سيكون للمنصة –غير الموثوق بها- الرأي الفصل في ذلك.
من ناحية إنسانية أشارت إيلين إلى أمرين: أولهما أن أحفادنا ربما لن يعرفونا إذا لم يطّلعوا على أرشيفنا الإلكتروني الذي لن تمنحه لنا المنصات الربحية. علاوة على ذلك، لا يمكننا توريث ملفات الوسائط الخاصة بنا على سحابات التخزين أو منصات التواصل؛ فهي ليست ملكنا، كل ما نملكه هو إذن بالاستماع والمشاهدة.
الأمر الآخر هو أن منصات التواصل الاجتماعي غيّرت طريقتنا في الحزن؛ لكونها تجعل المتوفى حاضرًا، فهي مصممة خصيصًا لاستمرار الروابط، والموتى يعيشون في التكنولوجيا، ولا يزالون نشيطين اجتماعيًا بطريقة غير مسبوقة، من خلال بياناتهم وتدويناتهم ومراجعاتهم، وتوصياتهم، وآرائهم… إلخ، وقد نصادف كلامًا يؤثر علينا وليس لدينا فكرة عما إذا كان صاحبه حيًا أم ميتًا.
أمر مقلق أخير قبل أن تنهي قراءتك، ورغم سخريته، إلا أننا يجب أن نأخذه على محمل الجد، وهو أن التاريخ الرقمي سيخلّد مبتكري «الميمز» و«الكوميكس» و«الترولز»، وربما حينها سيكون التراث الذي خلّفناه من «الترندات» والتفاهات النقاشية على منصات التواصل هو الضربة القاضية للعبارة التراثية الشهيرة «ولا يوم من أيام زمان… الناس زمان كانوا طيبين ومحترمين». فتحية للجثث الرقمية، وسكّان المقابر الافتراضية، وأصحاب التراث الرقمي المستقبلي، أنتم السابقون ونحن اللاحقون.