ديفيد لويز: ماكينة فاسدة أم لا يستطيع صاحبها تشغيلها؟
في عام 1993، اُفتتح مطعم برازيلي عند مدخل بوابة «بريطانيا جيت» المؤدية إلى ملعب «ستامفورد بريدج». حقق ذلك المطعم نجاحًا ملحوظًا مُستغلًّا العلاقة العميقة بين مُشجعي النادي ولاعبيه البرازيليين عبر تاريخه. فمن داخل المطعم وخارجه، تجد قمصانًا موقعة من «ويليان» و«جورجينيو» و«راميريس» تتدلى من الجدران.
ارتبطت العائلة البرازيلية المالكة للمطعم بكل لاعبي النادي بلا استثناء، لكنهم أوجدوا مكانة خاصة للمدافع البرازيلي «ديفيد لويز» داخل قلوبهم، وبلا سبب واضح. فقط علاقة حُب خالصة تصل إلى درجة الدموع عند ذكر اسمه، وذلك بسبب رحيله إلى شمال لندن لارتداء قُمصان أرسنال الغريم.
وضعت مديرة المطعم «جوانا ماجالي لورينتي» قميصًا بالرقم 30 موقعًا من لويز، على الطاولة التي تقضي عليها أوقاتها دائمًا، واختارت أن يكون اسم ديفيد على أحد أهم أطباق قائمة الـ«باستا».
لا يمكن اعتبار ديفيد أفضل لاعب برازيلي في تاريخ لندن، وكذلك لا يمكن اعتباره أسوأهم. هو دائمًا مثير للجدل كونه لا يُمكن وضعه في جانب ما بوضوح. لا يُصنف كمُدافع أسطوري، ولا يبرز ككارثة، لكنك بالرغم من ذلك تجده في مكانة مميزة مثل التي عند «جوانا» وبدون تفسير.
نشأة عاكسة للحقيقة
هل تتذكر اللحظة التي تعاقد فيها فريق ليفربول مع «فان دايك»، أغلى مدافع في العالم؟ احتاج المحللون وقتها لأعمق الطُّرق لشرح ضرورة المدافع الهولندي لفريقه الجديد وكيف يحتاجه الـ«ريدز» بشدة.
تلك هي العادة التي يتَّبعها المحللون في النظر إلى الحالات الشائكة المماثلة في اللعبة، لكن وبالرغم من كون لويز أكثر مدافع دُفع من أجله رسوم انتقال في كل مرات سفره من وإلى إنجلترا، وفي صورة تثير تعجب الجماهير في الغالب، فإنك لا تحتاج لأي تعمق لشرح حالته على الإطلاق، فهي واضحة بحد الرتابة أحيانًا.
في اللحظة الأولى له داخل المنافسات الأوروبية، وتحديدًا في أول مباراة لعبها بقميص نادي بنفيكا الذي كان بوابته إلى القارة العجوز، أمام فريق باريس سان جيرمان، أظهر لويز فشلًا واضحًا في أول اختبار حقيقي له كمدافع، بعد أن تخاذل في اعتراض كرة عرضية سهلة للغاية من جهة اليمين، والتي تسببت في إحراز هدف التعادل للفريق الفرنسي.
بدأ نجم الأرسنال الحالي حياته المهنية كمتوسط ميدان بقميص ساو باولو، لكن بعد عامين وجد مدربو النادي أنه قصير جدًّا ولا يستحق البقاء ضمن صفوف الفريق. تم الاستغناء عنه في عام 2001، لينتقل إلى صفوف نادي فيتوريا، والذي تدرج معه في المراحل السنية حتى بلغ الفريق الأول في مطلع عام 2006.
في فيتوريا، لم تكن الأرض مفروشة بالورود لاستقبال الشاب صاحب الـ14 عامًا آنذاك، بل كان على وشك الطرد لنفس السبب مرة أخرى، لكن تدخل أحدهم بتعديلٍ غيَّر حياة لويز للأبد. إذ نقله مدرب فريق النادي للشباب تحت الـ18 عامًا، والذي يُدعى «جواو باولو سامبايو»، من خط الوسط إلى قلب الدفاع.
حسب رأي «سامبايو»، لم يكن أداء ديفيد جيدًا حين كان يشارك في وسط الملعب، بالإضافة إلى وجود مشكلة طبية في نموه، وهو ما تسبب في قصر قامته أثناء طفولته، مع ذلك كان يتمتع بشخصية قيادية وقدمين يُتقنان التمرير والتصويب على حدٍّ سواء، فكان لا بد من إحداث تعديل تكتيكي لحل الأزمة.
لعب بثلاثة مدافعين في خط الدفاع، واستُخدم لويز كقلب لذلك الثلاثي، مع حرية بناء اللعب من الخلف بتمريراتٍ عمودية.
جاذب للسخرية
بالعودة إلى رحلة سلفادور، فإن والده «لاديسلاو مارينيو» ووالدته، «ريجينا مارينيو»، قد أفنيا كل مُدخراتهما من أجل شراء تذكرة طيران إلى فيتوريا وكذلك شراء زوج من الأحذية للنجم المنتظر. سافر حوالي 1500 كيلومتر بعيدًا عن منشئه بمدينة ساو باولو. وظل بدون أبويه لمدة سنة ونصف كاملة.
تضحيات أهله جعلته لا يستسلم بسهولة للخطأ الأول الذي رسم السخط والسخرية على وجه زملائه في فريق بنفيكا، بعد أن تسبب في هدفٍ ساذج بعد دقائق قليلة من لمسه لأرض الملعب لأول مرة في أوروبا. في غرف الملابس، لم يستطع الهرب من نظرات زملائه، لكنه عاد إلى الملعب واستعاد الثقة بأداءٍ جيدٍ إلى حدٍّ بعيد.
وُلد لويز في بلدية «دياديما» بمدينة ساو باولو، عام 1987. وقبل أن يُظهر اهتمامًا واضحًا بكرة القدم، كان يكرس شغفًا بالتصوير. يُفهم أن تلك العادة من الصغر قد تركت أثرًا في لويز البالغ المحترف بكبار الأندية الأوروبية. حيث كان يَعرف كيف يظهر بشكلٍ مُلفت وجاذب للجمهور في كل لحظات نشوته.
لكن كما يتذكر الجميع لقطات احتفاله، ولا سيما احتفاله التاريخي بهدفه في تشيلسي حين كان لاعبًا لباريس سان جيرمان، فإن لقطات أخطائه الدفاعية كذلك لا يُمكن أن تُنسى. يظن المُحلل الإنجليزي «بارني روني» أن أحد أهم الأسباب التي دفعت لويز للوقوع في بحور من سخرية المشجعين هي ردود أفعاله عقب كل خطأ.
حيث ينظر لويز للكاميرا، يتوقع ردود الفعل القادمة من الجمهور، يرسم في عقله اللعنات التي تُطلق عليه في الإعلام وبين الحانات وفي مدرجات الملعب. فسُرعان ما ترتسم ملامحه بالندم والخزي، وهو ما قد يُضاعف فرصة السخرية على الخطأ أكثر من الخطأ نفسه، لكن من أين يأتي الخطأ أصلًا؟
لويز غير العاقل
لا تحتاج الحقيقة لشرحٍ مُطولٍ لكي تُفهم. مميزات ديفيد لويز لا تتناسب مع وسط الملعب، وكذلك لا تتناسب مع اللعب كقلب دفاع في خط رباعي. لذا فكلما توسطت الأمور بين ذلك وذاك، ظهر المعدن الحقيقي لـ«باولويستينيا» – لقبه أثناء الطفولة.
يُكرر المدافع البرازيلي دائمًا مقولة «جورج برنارد شو»، المؤلف الأيرلندي الشهير: «الرجل العاقل يكيف نفسه مع العالم. بينما الشخص غير العاقل يُحاول تكييف العالم مع نفسه. لذلك كل تقدم يحدث في العالم، يعتمد على الرجل غير العاقل».
في كل المرات التي تكيف فيها لويز مع أداء فريقه كان في أسوأ أحواله، وفي كل مرة شارك فيها بأسلوبه الشخصي ظهر منه ما تُحبذه الجماهير. شبهه أحد الصحفيين بموقع «The Athletic» بأنه لاعب وسط ملعب يرتدي – قهرًا – ملابس مُدافع.
في مطلع عام 2011، تعاقد تشيلسي مع المدافع الذي ذاع صيته في كل أرجاء أوروبا، الذي استعاد ثقته بعد خطأ أولي كاد يُنهي مسيرة لم تكن لتبدأ بعد. وضعت الإدارة اللندنية أمام بنفيكا 25 مليون يورو وتم البيع. وقبل أن يرحل في تجربته القصيرة نحو فرنسا، كان قد أثبت بالفعل أنه ليس بالمدافع الكارثة على أي حال.
خلال موسم 2013/14، وهو آخر مواسمه قبل رحلة قصيرة لفرنسا، أظهرت إحصائيات موقع «WhoScored»، أنه قد سجل متوسط تشتيتات 4.6 تشتيتة في المباراة، فقط أقل من «كومباني» قائد مانشستر سيتي، بـ 5.1 في كل مباراة، وكذا زميله في تشيلسي «إيفانوفيتش» بـ5.0.
يُضاف إلى ذلك مُعدلات مثل 1.2 تدخل مباشر ناجح خلال المباراة الواحدة، أفضل من جاري كاهيل 1.13 وجون تيري 0.85 لكل مباراة. لكن مع ذلك، انخفض عدد مشاركاته في الدوري الإنجليزي الممتاز من 30 مباراة في موسم 2012/13 إلى 19 مباراة في الموسم الذي تلاه، قد بدأ في 15 مباراة منها فقط.
وقع المدير الفني «جوزيه مورينيو» في فخ معضلة لويز، واضطر للتنويع بين مشاركته كوسط ملعب أحيانًا وبين مشاركته كمدافع في أحيانٍ أخرى، في الختام، لم يتفقا على طريقة لإيجاد حل مناسب، حيث لم يفضل «سبيشال وان» خيار اللعب بثلاثي خلفي، فكانت رحلة فرنسا مفيدة لكل الأطراف.
مثير للجدل
انتهى التفاوض بين الطرف الفرنسي والإدارة في لندن على أن ينتقل لويز بحوالي 50 مليون يورو، أغلى مُدافع في العالم وقتها. لكن لم يسع المحللين حينها التعمق في تحليل السبب وراء ذلك، واكتفوا بذكر كونه يُتقن مركزين داخل الملعب، وأن ذلك المبلغ لا يزيد كثيرًا عن الذي دفعه تشيلسي من قبل.
لكن هذه المرة، هدم لويز كُل التحليلات في مباراة واحدة فقط. أمام منتخب ألمانيا بكأس العالم 2014، حيث كان أحد الأعضاء المُشاركين في صمت ملعب «ماركانا» صمتًا أشبه بالموت. حين هُزمت البرازيل بسبعة أهدافًا مذلة أمام أعين مواطنيهم.
خرج لويز من مواقعه في خط الدفاع عدة مرات بشكل جنوني، حتى ظهر متوسط تمركزه داخل دائرة المنتصف، تاركًا مهمة التغطية الدفاعية على عاتق زميله «دانتي» فقط، وكانت تلك هي النتيجة.
إن كان دفع مبلغ 50 مليون يورو في نصف مدافع قادم من تشيلسي أمرًا مُثيرًا للجدل، فإن التعاقد مع مدافع بهذا الشكل أمر أكثر إثارة للجدل، أيًّا ما كان سعره، لكن الجدل لم يتوقف عند تلك الإثارة فحسب.
عند عودته لإنجلترا من جديد، وعلى عكس مورينيو، فإن «كونتي»، الذي كان يتولى إدارة تشيلسي آنذاك، قد جهز للعب بثلاثي خلفي، فكان وجود لويز أساسيًّا في موقعه المُحبب. في تلك الآونة، يسهل اكتشاف كيف ارتفع نسق أداء لويز مع كونتي، حتى إن أرقامه الدفاعية كانت تزداد أيضًا، وليس فقط دوره كمتوسط ميدان يلعب في ثلاثي قلب الدفاع.
ارتفع متوسط تدخلاته المباشرة من 1.27 في موسم 2016/17 إلى 1.93 في الموسم التالي. كذلك زادت تشتيتاته من 2 إلى 2.57، والأهم، أن فرص تسجيله للأهداف قد ارتفعت من 0.94 إلى 1.17.
لم يتوقف ذلك التطور على كل الأصعدة في الموسم الأخير بقميص تشيلسي، بل ربما زاد، لكن بوجود «فرانك لامبارد» كانت فرصه في البقاء داخل الركن الأزرق من لندن أقل من المتوقع، فاتخذ قراره بالرحيل عن النادي، والذي تبعه مباشرة عرض من قبل إدارة أرسنال، فتم الاتفاق.
مثير جدًّا للجدل
هل تريد أن تعرف ما هو مثير جدًّا للجدل في مسيرة لويز مع أرسنال؟ أنه حتى الآن لا يوجد دليل قوي على تباين الأداء الذي كان يُظهره مع تشيلسي أثناء وجوده في ستامفورد بريدج.
اعتادت جماهير أرسنال على أن يُخطئ اللاعب فيعتذر ويعود لخوض التجربة مرة أخرى فيخطئ ثم يعتذر … إلخ. لكن حتى إن افترضنا أن لويز قد فعل ما هو أسوأ من كل من سبقوه، فالسبب الدائم في السخرية هو ما قاله بارني روني من قبل، أنه نبيل للغاية عندما يقع في خطأ ما.
أما من النواحي الإيجابية، فإن لويز يمتلك 16 بطولة في رصيده، أكثر لاعبي النادي، وكذلك يمتلك 1481 تمريرة مكتملة خلال موسمه الأول مع أرسنال، كثاني أفضل معدل تمريرات مكتملة بالفريق بعد «تشاكا» وكذا يُتقن التمريرات إلى الثلث الأخير من الملعب كرابع أفضل لاعب بالفريق في ذلك بـ 100 تمريرة للبرازيلي، متفوقًا على الألماني مسعود أوزيل!
يتبنى أرتيتا فلسفة «كرويف» وتلميذه «جوارديولا» في أرسنال، تلك المبنية على البحث عن أعمق لاعب، أكثر لاعب يتمركز في عمق دفاع الخصم. ينجح لويز في إيصال 19 تمريرة في كل مباراة مع أرسنال إلى ذلك اللاعب العميق.
المؤكد أن أحدًا لن يقوم بكل ذلك إن لم يكن ديفيد لويز، لأنه وحده هو من سيفعل كل ما سبق، ويظل محتفظًا بجدلٍ مُثار حول السبب في إعطائه عقدًا جديدًا في ظل أخطائه الدفاعية المعتادة.