تخزين البيانات في الحمض النووي: ثورة تقنية جديدة
بعد مرور ثلاثين عامًا على تأسيس الويب، ازدحمت الشبكة العنكبوتية بمئات الملايين من المواقع المختلفة، التي تنوعت وتشعَّبت وتضخمت وشملت جميع جوانب حياتنا، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من المعرفة البشرية.
ومع الانتشار الكبير لمواقع الويب، التي حوت بيانات ومعلومات ضخمة، ظهر مصطلح البيانات الضخمة Big Data، وهو يشير لحجم المعلومات التي تُخزِّنها مواقع الويب يوميًّا، فعلى سبيل المثال يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم حاليًّا 4.2 مليار شخص يتبادلون في الثانية الواحدة قرابة ملياري جيجابايت، أو اثنين إكسابايت (إكسابايت = مليار جيجا) من البيانات، ما يعني أنهم يتبادلون قرابة 172.8 ألف إكسابايت في اليوم، ولا تشمل هذه البيانات المعلومات والبيانات المخزنة على جميع الحواسيب والخوادم في العالم كله. وتُقدَّر كمية البيانات التي يتم تخزينها وتبادلها عالميًّا بـ 1.6 تريليون جيجابايت سنويًّا.
ومع التزايد الرهيب في حجم هذه البيانات تكبر التحديات الخاصة بحلول التخزين، ورغم أن العلماء حاولوا خلال السنوات الماضية إيجاد بديل لأنظمة التخزين المغناطيسية القديمة، عبر استخدام أنظمة تخزين ضوئية للبيانات، فإن الاستهلاك الكبير في الطاقة يجعل إمكانية نجاح هذه الفكرة محل شك.
ومع استحالة الاعتماد الكلي على أساليب التخزين التقليدية مع التزايد الكبير في حجم المعلومات، ظهرت فكرة التخزين اعتمادًا على الحمض النووي الصناعي، الذي يتكون من سلاسل طويلة من نيوكليوتيدات الأدينوزين والثيامين والسيتوزين والغوانين، وبيولوجيًّا فهو المكان الذي يُستخدَم لحفظ البيانات والمعلومات في حياتنا، وهو ما يجعله أسلوبًا جديدًا للتخزين ومكانًا آمنًا لحفظ البيانات التي تتضخم وتزداد يومًا بعد يوم.
أقدم أساليب التخزين عبر التاريخ
قبل تطوير الأقراص الصلبة وأساليب التخزين الحديثة كانت الشفرة الوراثية تُخزِّن بيانات ومعلومات البشر مثل الذكريات والمعلومات المختلفة وجميع الخبرات الحياتية، ولقد أدرك العلماء أهمية ذلك، فمع الكم الهائل الذي يُنتِجه البشر يوميًّا من المعلومات، أصبحت البنية التحتية لتخزين هذا الكم الضخم من البيانات وحفظها تتطلب إيجاد طرق جديدة للتخزين أكثر مرونة وقدرة على استيعاب كميات أكثر ضخامة من البيانات.
ومن هنا وُجدت الحاجة لاستبدال تقنيات التخزين القديمة مثل الأقراص الصلبة وغيرها بوسائل أكثر ابتكارًا مثل الحمض النووي الصناعي، والذي يُعد وسيلة أكثر كفاءة من الوسائل التقليدية، فبحسب العلماء القائمين على المشروع، فإن جرامًا واحدًا من الحمض النووي يمكنه حفظ ما يقارب 455 إكسابايت من البيانات، مما يعني أننا سنحتاج لعدة جرامات من الحمض النووي لحفظ جميع البيانات التي أنتجها البشر منذ اختراع الإنترنت وحتى الآن.
كيف يتم تخزين البيانات في الحمض النووي؟
من المعروف أن الحواسيب تعتمد على ما يُسمى النظام الثنائي، أي أن هناك رقمين فقط (1 وصفر)، وهما الأساس، حيث يمثلان التشغيل والإيقاف اللذين يمكن للحاسوب فهمهما، حيث لا تُفهَم الكلمات أو الأرقام بالطريقة التي يتعامل بها البشر.
أمَّا الحمض النووي فيعتمد على نظام ترقيم رباعي مكون من 4 قواعد بروتينية يُرمَز لها بالأحرف A-C-T-G، حيث يرمز الحرفان A-C للصفر وT-G للواحد، وبذلك يصبح الحمض النووي كأي مصفوفة مكونة من أصفار ووحدات مثل أي ملف آخر، وبدلًا من أن يكون ملف التشفير في الحاسوب 10011101110 سوف يكون في الحمض النووي AGTTCACCGTA، بنفس آلية العمل وكفاءة القدرة على تخزين الكم الهائل من المعلومات.
بعد ذلك يأتي دور البرنامج الذي يقوم بتحويل البيانات الرقمية التقليدية إلى بيانات مكتوبة بلغة الحمض النووي، ثم يقوم جهاز خاص بتركيب تلك الجزيئات بشكل مناسب على شكل سلاسل طويلة، بينما تقوم مضخة صغيرة بدفع السائل إلى قوارير تخزين لحفظها.
عقبات استخدام الحمض النووي للتخزين
من خلال البحث والتجارب المستمرة كانت أهم عقبة في تبني التقنية الجديدة هي أن الحمض النووي يتفاعل مع بيئته، مما يعني أنه سيتحلل عند درجة حرارة المكان، إلا أن العلماء استطاعوا إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال تغليف عينات الحمض النووي في غلاف مصنوع من السيليكا يشبه الحفريات المتحجرة، ثم تخزين العينة عند درجة حرارة من 60 إلى 70 درجة مئوية لعدة أسابيع لاختبار قدرتها على التحمل، وعندما استعادوا العينة كانوا ما زالوا قادرين على قراءة البيانات المُخزَّنة.
عقبة أخرى تواجه التقنية، وهي أن البيانات التي يتم تخزينها في الحمض النووي غير قابلة للبحث بعد، وهذا يُعد مشكلة كبيرة بالنسبة للمستخدمين، فعليك أن تتخيل كم سيكون الأمر مُرهقًا جدًّا إذا كنت تريد إيجاد ملف مفقود على محرك الأقراص وعليك البحث وتفقد كل الملفات المخزنة لإيجاد ما تبحث عنه.
التكلفة المرتفعة للمشروع تعد عقبة أساسية لتبني التقنية وطرحها بشكل تجاري في الأسواق، فتخزين جيجابايت واحدة من البيانات كلَّف 13 ألف دولار أمريكي، واستعادة البيانات المخزنة يُكلِّف 220 دولارًا للجيجابايت الواحدة.
رغم أن تقنية تخزين البيانات في الحمض النووي تعد فكرة مستقبلية وحلًّا ثوريًّا لمشاكل تخزين الكميات الهائلة من المعلومات والبيانات التي ينتجها البشر يوميًّا، إلا أنها لا تزال تواجه مشاكل كثيرة كما أسلفنا، ولكن وبحسب العلماء فإنه خلال الخمسين عامًا القادمة ستكون التقنية أكثر واقعية وقابلية للتطبيق، حيث سنتمكن من حل أغلب العقبات والمشكلات التي تواجهها.