سقوط داروين
لقد بقيت نظرية داروين المادية ذات الخطوط المستقيمة، النظرية الثابتة لتفسير أصل الإنسان. ذلك الثبات الناتج عن تفسير أحادي لطبيعة الإنسان من رؤية خارجية مادية صرفة.
سقطت النظرية سقوطًا حرًا نتيجة عجزها الكامل عن تفسير أساس وجود الإنسان. لقد فشلت النظرية المادية عن تفسير الشعور الديني والسلوك الأخلاقي والإحساس الفني للإنسان البدائي الذي يضن داروين أنه نتيجة تطور وارتقاء أرقى أنواع الحيوان.
إن الحيوانات في أرقى تطورها لم يُلمس فيها أي سلوك ديني ولو بدائي في حين ارتبط الدين والفن بالإنسان منذ نشأته. الارتباط الإنساني بالسماء تجلى وفق منظومة المحظورات الأخلاقية (التابو) التي أنشأها منذ البداية. تلك القناعة بوجود حياة داخلية روحية هي التي تحدد التميز الإنساني عن الحيوان؛ ما عبر عنه بلوتاخ بقوله: «يمكن أن نجد مدنا بلا مسارح و مدراس ولكن لا يمكن ان نجد مدنا بدون معابد».
فشل داروين في تفسير الظواهر الأخلاقية والالتزامات القيمية المعبرة عن الحياة الداخلية للإنسان البدائي اذ أن الدراسات اثبتت أن الطبيعة النفسية التي لم تختلف بين الانسان البدائي والإنسان العصري.
إن نظرية التطور الخارجي لداروين لم تسطع تفسير ظاهرة التدين عند الإنسان. الظاهرة التي لا تتناسب طردا مع التقدم المعيشي والعلمي. فكيف للانتحارات أن تشق طريقها وتنتشر في الحياة المتقدمة. وعَكَس ذلك كيف للفن واستشعار الجمال والتعبير عنه أن يسود وسط الحياة البدائية. يظهر لنا أن عملية التطور يمكن أن تعطينا كمبيوترا يقوم بكل الوظائف الإنسانية لكن لا يمكن أن تعطينا كمبيوترًا متدينًا أو يكتب شعرًا كما يقول الشاعر السوفيتي بروزنسكي!
لقد تعامل الماديون بعنجهية وغرور مع حقيقة الإنسان وأصل الحياة. لقد جهلوا جهلهم، بل جعلوه، تكبرًا، معرفةً، وهنا تتجلى أدنى درجات الجهل الإنساني المركب، عندما يظن بنفسه معرفة المطلق، عندما يظن الإنسان الإحاطة بكل شيء فيعطي أجوبة فارغة لكل سؤال، ويوم لا يقر بوجود لغز فيحرم عقله من الانبهار بالوصول إلى جواب على سر. يحرم نفسه من أول نقطة للحق؛ السؤال عن الحق. عندما يجعل الماديون هذا الجهل حكمة!
الفرق بين الجاهل والحكيم لا يكمن في درجة الاطلاع؛ فمن الممكن أن يشتركا في اطلاع يسير على بعض جزئيات المعرفة. الفرق يكون في وعي الحكيم بجهله.
إن الدين والفن هِبَات ربانية توجه الإنسان إلى استخدام عقله في البحث، تشجعه على استفزاز عقله للوصول لأجوبة للأسرار بل وطرح أسئلة عن الأسرار. الإسلام هو المنهج القويم الذي يدفع الإنسان نحو تحقيق معرفة ما، كما أنه يوصله إلى وعي جهله!
إن الإنسان يشترك مع الحيوان في بعض الوظائف الآلية في حين يختلف معه اختلاف النوع لا اختلاف الدرجة. يسعى الماديون إلى التركيز على مواطن التوافق مع الحيوان فيدفعون بالإنسان إلى البهيمية! في حين يسعى الدين المسيحي على التعامل بسلب البهيمية ونقيضها فيركز كل التركيز على مواطن الاختلاف. في حين يسعى الإسلام أن يكون وسطا بين ذلك فلا ينكر ثنائية التشكيل الإنسان من جسم وروح مؤكدا أن الإنسان ابن السماء وخليفة الله في الأرض. فينهاه عن التخلي عن إنسانيته بإنكار سر وجوده العبودية لله، فينزل به المقام إلى البهيمية الجارية وراء المادة، وتنكر عليه العزلة والرهبانية وإنكار الطبيعة من خلال تذكيره بدوره في التفاعل مع الطبيعة والتمتع بخيراتها لتحقيق المهمة الوجودية!
إن نظرية الخلق تقف مع الإنسان والثقافة ضد المادة والجهل. إن نظرية الخلق تعني الحرية الإنسانية. فكون الإنسان حر في أفعاله وأقواله دليل على وجود الله تعالى وإنكار حرية الإنسان إنكار لوجود الله تعالى.
الحرية أساس نظرية الخلق الإلهي للإنسان. الله عزوجل هو القادر الواحد على خلق مخلوق حر. بالتالي، لا يمكن للحرية أن تكون نتاج التطور، فالتطور لن يشيد ويصنع حرية.
فكما أن عالم نبوتن ليس هو العالم الحقيقي، إنسان داروين المادي الخارجي الحيواني المتقدم ليس هو الإنسان الحقيقي. فالعالم ليس مفصلًا على طراز نيوتن، كما أن الإنسان ليس مفصلًا على طراز داروين!