«Darkest Hour»: في السينما فقط يتفق «ناصر» و«تشرشل»
تظل أفلام «السِيَر Biography»من الأنواع القادرة على اجتذاب المشاهدين، خاصة إذا كانت الشخصية معاصرة أو مشهورة، شاهد متابع الفيلم الكثير من المواد الأرشيفية لها من قبل بالفعل، هناك هذا الدافع لمعرفة كيف سيجسد هذا الفنان أو هذه الفنانة تلك الشخصيات، إلى أي مدى سيتقنها، وهل سينجح المكياج في تحويل الممثل إلى شكل قريب من الشخصية التي يؤديها أم سيظل الشبه حاجزًا؟
يضاف الفضول بالطبع كعامل لمشاهدة هذه النوعية من الأفلام، على الرغم من معرفة أن ما نشاهده لم يحدث بالضرورة بهذا الشكل في الواقع، فإن المشاهد يود أن يتابع ما يدور في الكواليس لدى هذه الشخصيات بعيدًا عن الصور والفيديوهات الرسمية، كيف يتعاملون داخل بيوتهم، كيف تفاعلوا قبل وبعد اللحظات الحرجة التي أحاطت بهم؟
عُرض حديثًا فيلم «Darkest Hourالساعة الأحلك»للمخرج الإنجليزي «جو رايت» الذي يجسد خلاله الممثل «جاري أولدمان» شخصية رئيس الوزراء البريطاني «وينستون تشرشل».
لم يكن تشرشل على وفاق مع شخصية الرئيس المصري الراحل «جمال عبد الناصر»، لكن السينما يمكنها أن تذيب هذه الخلافات، لدى المشاهد، لتجعله يقع في الإعجاب بالشخصيتين بنفس القدر. وهو ما يحدث إذا وضعنا هذا الفيلم في مقارنة مع فيلم «ناصر 56».
الموقف قبل الشخصية
ظهرت شخصيتا جمال عبد الناصر ووينستون تشرشل في الكثير من الأعمال الدرامية بأداء لعدد من الممثلين، سواء في أعمال يكون أي من الشخصيتين خلالها الشخصية الرئيسية أو حتى شخصية مساعدة، فلماذا توقفنا عند هذين الفيلمين تحديدًا؟
كلاهما من الشخصيات المثيرة للجدل، وخاصة ناصر، في كل مناسبة يرتبط بها تنهال الكتابات التي يجعله بعضها عظيمًا، وبعضها أسوأ ما يكون، بينما تشرشل كان عليه خلاف من الأساس وقت ترشحه، وكان ماضيه السياسي والقيادي شديد السوء، وكلا الشخصيتين معروفتان لأغلب المشاهدين، وببحث بسيط يمكن مشاهدة الكثير من الفيديوهات والأفلام الوثائقية الخاصة بهما.
إذن فالمهمة أصعب، شخصيتان جدليتان يعرفهما المشاهد ولديه رأي مسبق عنهما يجعله متحفزًا لما سيُقدم، لهذا على صناع الفيلمين استخدام أساليبهم لكسر أي توقع وتخيل مسبق وإدخال المشاهد سريعًا في تجربة الفيلمين.
يوجد الكثير من الأشكال أو القوالب المعروفة لبناء أفلام السير، أشهرها بالطبع متابعة قصة البطل منذ ميلاده وحتى نهايته، أو وصولًا إلى موقف معين في حياته. من أشهر هذه الأفلام «Gandhi»إخراج ريتشارد أتينبرو، الذي تتبع المراحل المختلفة لحياة المهاتما غاندي وصولًا إلى اغتياله، وفيلم «أيام السادات» لمحمد خان، الذي تابع أيضًا حياة الرئيس السادات حتى اغتياله.
على الرغم من وجود نماذج ناجحة لهذا الشكل كالمثال الأول، فإنه يجعل الشخصية هي المحور دائمًا، وليس الحدث، هكذا يُضطر الفيلم إلى تقديم الشخصية في مواقف مختلفة، ويضع على نفسه عبء تخيلها في كل هذه المواقف، هكذا يأتي نموذج آخر للكتابة: البناء على الموقف.
في فيلم «ناصر 56» اختار مؤلف الفيلم الراحل «محفوظ عبد الرحمن» موقفًا واحدًا من حياة عبد الناصر ليكون هو محور الفيلم، كما يبدو من العنوان، هو يتحدث عن ناصر في عام 1956، وتحديدًا مرحلة بناء السد العالي والذهاب إلى تأميم قناة السويس لتوفير الدعم المادي المطلوب للمشروع، وما ترتب على هذا القرار من تبعات. لم يذهب إلى علاقته بالفصائل السياسية المختلفة، أو المثقفين، أو القلاقل السياسية ومشكلات الحريات في عصره، اكتفى السيناريو فقط بهذا الخط، ومن خلاله بالتأكيد تعرض لملامح أخرى لشخصية الرئيس الراحل، وإن لم تكن هي محور الفيلم بل على الهامش.
المتابع للفيلم سينجذب سريعًا لتفاصيل الحدث التي تنكشف له من المشهد الأول، وسيهتم بها قبل الشخصية، بالطبع لم ينسَ الفيلم المرور على بعض ملامح شخصية الرئيس، لكنها تبقى على الهامش وليست في القلب.
هكذا ينتقل الفيلم إلى الصراع حول فكرة تأميم القناة بين مؤيدين ومعارضين، والحِمل الواقع على الشخصية الرئيسية، عبد الناصر، للخوض في القرار أو العدول عنه، وصولًا إلى اتخاذ القرار، ثم يُفسح الفصل الأخير من الفيلم لعرض تبعات التأميم من هجوم سياسي وعسكري على مصر واستمرار ناصر في المقاومة استنادًا إلى شعبه.
الانتهاء عند نفس النقطة
بعد حوالي 22 عامًا من عرض فيلم «ناصر 56» يُعرض «Darkest Hour»،لكن بالتدقيق سنجد أن بناء الفيلمين واحد تقريبًا.
في «الساعة الأحلك» أيضًا يختار مؤلف السيناريو «أنتوني مكارتن» موقفًا واحدًا ليبني عليه فيلمه، إذ يبدأ الفيلم بسقوط هولندا وبلجيكا في قبضة النازيين في الحرب العالمية الثانية، ويكون على رئيس الوزراء الجديد وينستون تشرشل أن يختار الطريق الأمثل لمواجهة هتلر في هذه اللحظة الحرجة، خاصة مع حصار معظم الجيش الإنجليزي على شاطئ دنكِرك في فرنسا.
يحرص الفيلم على تقديم البطل بشكل مختلف، إذ لا نتعرف عليه من أول مشاهد الفيلم كما الفيلم السابق، لكنه أيضًا لا ينغمس في استعراض تفاصيل الشخصية أكثر من اللازم، بل سريعًا يعود إلى الحدث الأهم.
بينما يختار «ناصر 56» أن تكون نقطة الذروة هي نقطة انتصار بتأميم القناة، تكون الذروة في فيلم جو رايت في لحظة هزيمة، إذ يجد تشرشل نفسه محاصرًا بين الهزائم العسكرية والمطالب بالتفاوض مع هتلر على معاهدة سلام، ليُفسح فصله الأخير لإصرار رئيس الوزراء البريطاني على عدم التفاوض واستكمال المعركة عسكريًا مهما كلفه الأمر، لينتهي عند نفس النقطة تقريبًا التي انتهى عندها فيلم ناصر، بل بنفس المشهد، نقاط التشابه في الفيلمين كثيرة تستحق بعض التفصيل.
ناصر وتشرشل في المرآة
يركز الفيلمان على تفاصيل الحياة الأسرية للشخصيتين، يقدم لنا «ناصر 56» الرئيس في صورة متقشفة مع أسرته في هدايا العيد أو السفر، بينما في فيلم «Darkest Hour» تقول زوجة رئيس الوزراء البريطاني لزوجها «إننا مفلسون».
في عدة مشاهد يقدم لنا الفيلم المصري ناصر وهو يتعامل ببساطة شديدة مع الشعب، ويرد على التليفونات بنفسه ويعرض على السيدة التي اتصلت به خطأً أن يوصلها بمن تريد، وفي الفيلم الإنجليزي الأمريكي نرى تشرشل يخوض حوارًا مطولًا مع عدد من المواطنين يكون له بالغ الأثر في قراره النهائي بمواصلة الحرب.
كذلك يتشابه الصراع في الفيلمين ويتوزع على مستويين، إذ نرى تشرشل محاطًا بمجلس يحتوي على عدد من الأشخاص الرافضين لقراراته ويرون فيها انعدام الحكمة، بينما يشتعل بداخله صراع أكبر إذ يتنازعه التردد دائمًا في مدى صحة قراراته، بالطبع يعزز من هذا الأداء المذهل من جاري أولدمان، لكن للأداء حديثًا آخر. نفس الصراع يظهر مع عبد الناصر في الفيلم وإن كان بشكل تدريجي في صورة مشاهد منفصلة في مواجهة كل شخصية، وكذلك ظهر التردد في ملامح أحمد زكي، وإن لم يكن الصراع الداخلي هنا بنفس قوة الفيلم الأول.
لكن في الحقيقة ليست ملامح السيناريو فقط هي التي يظهر فيها هذا التشابه، إذ كانت هناك عدة حلول إخراجية متشابهة أيضًا، خاصة في مشاهد الخُطب، مهما كانت درجة تمكن الممثل من الشخصية ومهما كانت الخُطبة مؤثرة، يظل من الصعب في الأفلام عرض مشهد طويل متصل لخطبة ما. هكذا وجدنا في الفيلمين حلولًا تتمثل في الخروج بمشاهد مختلفة لكسر إيقاع الخطبة ثم العودة لها مرة أخرى بشكل يضيف إليها المزيد من الحماس، ففي خُطبة تأميم القناة ينتقل الفيلم إلى مشاهد الضباط وهم يصلون إلى القناة ويأممونها بالفعل قبل العودة مرة أخرى إلى الخُطبة، وفي خطبة تشرشل الأولى للبرلمان، نجد الفيلم ينتقل في مشاهد مختلفة تستعرض مراحل كتابة هذه الخُطبة.
وكما ذكرنا سابقًا ينتهي الفيلمان بخطبة أخيرة، ناصر في الأزهر وتشرشل مرة أخرى في البرلمان، وتنتهى كلتا الخطبتين بتفاعل حاد وتأييد تام من الحضور. ربما كان لدى من حضروا الخطبة في الواقع أسبابهم للتفاعل والتصفيق، لكن في السينما هناك أسباب أخرى هي الدافع لإعجاب جمهور الفيلمين، على رأسها الأداء الاستثنائي من أحمد زكي وجاري أولدمان.
وهو ليس تقليدًا
أثناء البحث عن ممثلين آخرين قدموا شخصية تشرشل، كان هناك «بريندون جليسون» في فيلم «داخل العاصفة Into the Storm»، في أحد مشاهد الفيلم يُلقي جليسون الخُطبة الشهيرة التي أعلن فيها تشرشل مواصلة الحرب وعدم الاستسلام، لكن ألقاها بطريقة هادئة وباردة تختلف تمامًا عن الأداء الحماسي الذي قدمه جاري أولدمان. بالاستماع إلى الخُطبة الأصلية، سنجد أن جليسون بهذا الأداء الهادئ أقرب لتشرشل من جاري أولدمان، لكن من قال إننا نشاهد مشهدًا وثائقيًا؟
بالعودة إلى الفيلمين، سنجد أن كلا الممثلين عايش الشخصية وجسدها بدرجة مُدهشة، لهذا فإنه يُعطي من روحه كممثل، وبالتالي يُقدم إحساسه بالشخصية في هذه اللحظة بعينها، لهذا لم يكن غريبًا أن نجد اختلافًا أيضًا في أداء زكي في خطبة تأميم القناة عن الخطبة الأصلية، لكن على الرغم من هذا الاختلاف لا يستطيع أحد ألا يستمتع بالشخصية إلى حد نسيان أنه يشاهد هذا الممثل في الشخصية، بل يشاهد الشخصية نفسها.
في حوار مطول علق الراحل أحمد زكي على أدائه لشخصية عبد الناصر مقارنًا بينه وفكرة التقليد التي تعتمد على محاكاة الملامح الخارجية وصوت الشخصية المقلَّدة، موضحًا أن هذا يختلف تمامًا عن فكرة التشخيص التي تعتمد على الإحساس بروح الشخصية وتخيل ما وراء كل صورة وكل حركة تفعلها لينجح للوصول للأداء المطلوب.
هكذا صار من الطبيعي أن يكون أحمد زكي هو أول من يحضر عند ذكر من جسدوا عبد الناصر، والأمر نفسه ينطبق على جاري أولدمان، الأمر ليس مكياجًا فقط، لكنه يعود إلى المخرج الذي قرر أن يعطي الممثل هذه الأريحية في الأداء، وإلى ممثلين من طراز خاص عايشا الشخصيتين بكل تفاصيلها.
ينتهي المشاهد من هذين الفيلمين وهو متوحد مع البطل الذي شاهده وتعرف على تفاصيل حياته، وعايش معه أزمته الكبرى وصولًا إلى الانتصار، لا يشغل باله بكل ما يحدث مع هذه الشخصية خارج الفيلم أو بعيدًا عن زمن الأحداث، هو يشاهد هذا البطل السينمائي ويستمتع به، في الأغلب سيعود سريعًا إلى قناعاته عن الشخصية، أو ربما يدفع به الفيلم إلى تكوين وجهة نظر جديدة، لكن متعته بالفيلم حاضرة، يصعب أن تُفسدها أية آراء مسبقة عن الشخصية الأصلية.