الجانب المظلم للتعاطف: لماذا نلقي باللوم على ضحية التحرش؟
وفقًا لهيئة الأمم المتحدة لشؤون المرأة، تعرضت 35% من النساء في جميع أنحاء العالم لعنف جسدي أو جنسي في مرحلة ما من حياتهن. وفي بعض البلدان، يرتفع معدل العنف ضد المرأة ليصل إلى 70%. وعلى صعيد الدول العربية، شهدت 37% من النساء العربيات شكلًا من أشكال العنف في حياتهن، وهناك مؤشرات واضحة إلى أن النسبة قد تكون أعلى من هذا.
بينما في مصر، ترتفع معدلات التحرش الجنسي بالمرأة عام بعد الآخر؛ حيث أعلن صندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2014 أن مصر تحتل المرتبة الثانية في العالم – بعد أفغانستان- من حيث معدلات التحرش الجنسي بالنساء. كما كشف البحث الاستقصائي الذي أجرته منظمة الأمم المتحدة لشؤون المرأة عام 2013، تحت عنوان «دراسة عن طرق ووسائل القضاء على التحرش الجنسي في مصر»، أن أكثر من 99% من الفتيات والنساء المصريات اللاتي شملتهن الدراسة أفادوا بتعرضهن لشكل من أشكال التحرش الجنسي في مرحلة ما من حياتهن. كما أفادت 82.6% من النساء أنهم لا يشعرون بالأمان في الشارع، وارتفعت النسبة إلى 86.5% في وسائل النقل العامة.
في معظم الحالات، تتردد المرأة عادةً عند الحديث بشأن التحرش الجنسي علنًا، وغالبًا ما تواجه إلقاء اللوم على الضحية عندما تفعل ذلك، خاصةً من قبل الرجال. لكن يظل السؤال مطروحًا: لماذا يُلقى باللوم على الضحية بدلًا من الجاني في قضية بهذا الوضوح؟ أو كما يُقال في مصر: «هي إيه اللي وداها هناك؟».
من أين جاء مصطلح إلقاء اللوم على الضحية؟
في كتابه «إلقاء اللوم على الضحية»، صاغ عالم النفس وليام ريان هذا المصطلح لأول مرة عام 1971، ووصف رايان إلقاء اللوم على الضحية بأنه أيديولوجيةً تُستخدم لتبرير العنصرية والظلم الاجتماعي ضد ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وجاء الكتاب لمواجهة تقرير دانيال باتريك موينيهان عام 1965، والذي يُلقي فيه باللوم على الأُسر الأمريكية من ذوي البشرة السمراء لارتفاع معدلات الفقر لديهم، بدلًا من التركيز على تعرضهم لكثير من العنصرية والتمييز آنذاك.
يُستخدم المصطلح بكثرة هذه الأيام، خاصةً في قضايا العنف والتحرش الجنسي ضد النساء، عندما يُفترض أنها ارتكبت خطأ ما لإثارة العنف ضدها، من خلال الأفعال والكلام أو المظهر والملابس. يصارع كثير من النساء الضحايا بالفعل شعورهن الداخلي بالذنب والخجل لما أصابهن، وهو ما يجعلهن يترددن كثيرًا في الإبلاغ عن مثل هذه الحوادث، ويعد إلقاء اللوم عليهن سببًا رئيسيًا في الخوف من الإبلاغ أو حتى الإفصاح لأقرب الناس إليهن.
الجانب المظلم للتعاطف
كان الاعتقاد السائد قديمًا أن إلقاء اللوم على ضحايا التحرش يرتبط بانعدام التعاطف مع الضحايا. ولكن في ورقة بحثية جديدة، نُشرت في مجلة علم النفس المرأة في أغسطس/آب الماضي، وجدت دراستان أن إلقاء اللوم على ضحايا التحرش الجنسي مرتبط بالتعاطف، ولكنه تعاطف مع الجاني. والرجال، على وجه الخصوص، أكثر عرضة للشعور بالتعاطف مع المتحرشين الذكور وإلقاء اللوم على الضحية.
في الدراسة الأولى، طُلب من المشاركين قراءة قصة عن طالبة في الكلية تقدمت ببلاغ ضد أحد الطلاب الذكور بسبب التحرش الجنسي. وفي القصة، وصفت الطالبة حوادث خطيرة ومتكررة وواضحة من التحرش الجنسي ضدها، ثم سُئل المشاركون عن ردود أفعالهم حول هذه القصة. وجد الباحثون أن الرجال كانوا أكثر عرضة لإلقاء اللوم على الضحية، وفي نفس الوقت أظهروا تعاطفًا أكبر مع الجاني.
كرر الباحثون التجربة، ولكن هذه المرة بعد أن قرأ المشاركون القصة، طُلب منهم أن يكتبوا فقرة من وجهة نظر الطالب والطالبة. كان المشاركون الذين تناولوا وجهة نظر الطالب المتحرش أكثر عرضة لإلقاء اللوم على الضحية، لماذا؟ مرة أخرى، لأنهم كانوا أكثر عرضة للتعاطف مع الجاني.
حتى أن النساء المشاركات اللاتي تناولن وجهة نظر الجاني، أظهرن مزيدًا من التعاطف معه، وكانوا أقل تعاطفًا مع الضحية، وألقوا عليها باللوم أكثر. بينما كان الرجال الذين تناولوا وجهة نظر الطالبة أقل تعاطفًا مع الجاني، وأظهروا مزيدًا من التعاطف مع الضحية، ولم يلقوا عليها باللوم. لتسلط هذه الاكتشافات الضوء على الجانب المظلم من التعاطف.
بدلًا من تشجيع الرجال على زيادة التعاطف تجاه النساء الضحايا، يشير الباحثون إلى أنه يجب علينا التركيز على الحد من التعاطف مع المتحرش. ويقترحوا أن تتضمن الجهود تذكيرهم الدائم بأن حياتهم المهنية وإنجازاتهم سوف تتأثر سلبًا إذا تم إثبات ارتكابهم هذه الأفعال، بدلًا من أن نفعل العكس ونتعاطف معهم بسبب حياتهم المهنية أو مركزهم المجتمعي، سواءً كانوا ممثلين مشاهير أو لاعبي كرة قدم في المنتخب الوطني.
فرضية العالم العادل
وجدت الأبحاث السابقة أن إلقاء اللوم على الضحية نابع من رغبتنا في التفكير بالعالم كمكان آمن وعادل، وهو ما يُطلق عليه علماء النفس «فرضية العالم العادل»، وهي تقترح أن البشر ينحازون إلى الاعتقاد بأن الآخرين ينالون ما يستحقونه دائمًا.
ويؤمن هؤلاء بأن ما يحدث ويؤثر على حياتهم عادل وشرعي وله ما يبرره دائمًا. ولكن تواجه مثل هذه المعتقدات تحديًا صعبًا عند التعامل مع ضحايا أحداث عشوائية، مثل جرائم العنف. حيث يتصور هؤلاء أن الأشياء الجيدة تحدث لأهل الخير، والأشياء السيئة تحدث للمخطئين دائمًا.
لذا فلا بد أن من تعرضت للتحرش كانت هي السبب في ذلك، من خلال ذنب اقترفته، والمثال الأشهر هو وضع المكياج أو الملابس اللافتة. وبهذه الطريقة، يحافظ هؤلاء على إيمانهم بأنه ليست هناك ضحية بريئة تعاني من جريمة، ولكنها مخطئة، وتستحق ما حدث لها. وعلاوة على ذلك، تقدم هذه الفرضية العالم كمكان آمن، حتى في مواجهة المصاعب، وأن هذا لن يحدث لي لأنني شخص جيد.
هذا يحدث للآخرين فقط
سأقتبس هنا جملةً من أسطورة «رونيل السوداء» للراحل دكتور أحمد خالد توفيق:
هناك نظرية أخرى تحاول تفسير إلقاء اللوم على الضحية، وهي نظرية الحصانة الشخصية، أو هذا يحدث للآخرين فقط؛ حيث يساعد هذا الاعتقاد النفسي في إبعاد الشخص عن الأحداث المؤسفة، ليُطمئن نفسه بأن الضحية هي المسؤولة عمّا حدث لها بسبب إهمالها على سبيل المثال، ولإنكار أننا أنفسنا قد نكون عرضة للخطر في أي وقت.
ومن أجل تجنب مواجهة مخاوفنا بالعجز، نفترض أن الضحية كان لديها القدرة على منع ما حدث، ولأنها لم تفعل ذلك، فنحن أكثر حكمة، وأكثر قوة، وأكثر حظًا مما هي عليه، وما حدث لها لن يحدث لنا إطلاقًا، وهو ما يعطينا شعور بالسيطرة على حياتنا.
حتى أقرب الأصدقاء وأفراد العائلة للضحية قد يلومونها ليُطمئنوا أنفسهم، ليقولوا لها عبارات مثل «لماذا تأخرتِ في العودة للمنزل؟»، أو «لماذا تمشين في هذا الشارع المليء بالشباب؟»، أو «إيه اللي وداها هناك؟».
وحين يقرروا أن الضحية جلبت هذا الاعتداء على نفسها بسبب أفعالها، يخلق هذا لديهم شعورًا زائفًا بالأمان، وأنهم إذا لم يفعلوا ما فعلته لن يصيبهم شيء مماثل.
خطأ الإحالة الأساسي
هناك نوعان من الإحالة وهما الإحالة الداخلية والخارجية؛ يستخدم الأشخاص الإحالة الداخلية عندما يقررون أن ما حدث لهم أو للآخرين كان بسبب صفات شخصية داخلية لديهم، بعيدًا عن المؤثرات المجتمعية الخارجية. بينما يستخدمون الإحالة الخارجية، عندما يعزون تصرفاتهم الشخصية أو الأحداث التي تصيبهم إلى البيئة والظروف المجتمعية المحيطة.
صاغ عالم النفس الاجتماعي لي ديفيد روس مصطلح خطأ الإحالة الأساسي في ورقته البحثية الشهيرة عام 1977، وذكر أنه يشكل حجر الأساس المفاهيمي الذي يقوم عليه مجال علم النفس الاجتماعي. ويحدث هذا الخطأ عندما يفرط الشخص في التأكيد على دور الصفات الشخصية الداخلية، والتقليل من قيمة الظروف البيئية، عند الحكم على الآخرين، مما يؤدي إلى إلقاء اللوم على الضحية.
حيث يعتبر الشخص – الذي يرتكب هذا الخطأ- أن الضحية مسؤولة جزئيًا عما حدث لها، ويتجاهل الأسباب الظرفية. ولكن على العكس من ذلك، قد يعزو فشله الخاص إلى الظروف البيئية المحيطة، ويعزو نجاحاته لسماته الشخصية الفريدة.
وختامًا، إلقاء اللوم على الضحية يسبب العديد من الآثار السلبية والمدمرة على نفسية الضحايا الأبرياء، الذين يتم تحميلهم خطأ عن جريمة تُرتكب ضدهم، فلا نكتفي بآثار الجريمة نفسها، بل نُلقي سبب حدوثها عليهم كذلك.
سواءً كان ذلك لأننا نتعاطف مع الجاني، أو لأننا نقنع أنفسنا بأننا نعيش في عالم عادل، أو نتصور أن هذا يحدث للآخرين فقط، أو نعزو الأمر بشكل خاطئ، لوم الضحية أمر في غاية السوء، وليس منطقيًا من الأساس. فالأولى أن نركز على من يرتكب الجريمة، بدلًا من التركيز على من يعاني آثارها المدمرة.