مسلسل «Dark»: الإنسان والزمن في ملحمة الأدمغة المتفجرة
لو أخبرني أحدهم أن مسلسلاً ألمانياً سيصبح شهيراً في مصر، سيتم استخدام أحداثه في صناعة الميمز والكوميكس، لم أكن سأصدق حتى ولو بعد عشرات السنين، السبب ببساطة أن اللغة الألمانية معقدة للغاية، كما أنها ذات وقع سيئ على الأذن، يضاف لذلك أن أسلوب صناعة السينما والتلفزيون في ألمانيا يجعل من الصعب جداً أن يصبح أي منتج فني ألماني منتمياً لنوعية أفلام ومسلسلات المشاهدة الشرهة Binge Watching.
لكن الأمر تحقق من خلال مسلسل Dark المسلسل الذي تدور أحداثه في مدينة ألمانية صغيرة يعمل بعض سكانها في مفاعل نووي، يبدأ الأمر باختفاء بضع أطفال من المدينة، ثم يتحول الأمر لدراما السفر عبر الزمن، قبل أن تنفجر السردية بأكلمها لنجد أنفسنا في الموسم الثالث في خطوط زمنية مختلفة في عالمين متوازيين، سردية تبدو في بعض لحظات الموسم الثالث مستحيلة الفهم.
نجاح Dark وصل لكل مكان، وصل لمصر بالتأكيد، وسنظل نتذكر طويلاً رد فعل الشاب الألماني الصغير لويس هوفمان الذي قام بدور يوناس/آدم، حينما سأله مذيع قناة Nile TV المصرية عن رسالته لجمهوره في مصر، لم يصدق يوناس السؤال، «أنا؟ … حقاً؟ لدي جمهور في مصر!».
رحلتنا اليوم عقب نهاية سردية الأدمغة المتفجرة، نحاول من خلالها الإجابة على سؤال واحد، ما الذي يدور عنه هذا المسلسل بحق الجحيم؟
الزمن… الإله والوهم
تبدأ أحداث Dark في زمننا الحاضر، يختفي طفلان، ثم يختفي طفل آخر هو ميكيل، بعد انتحار مفاجئ لوالد بطل المسلسل يوناس، كل حدث من هذه الأحداث يكتسب أهميته من حدوثه في الحاضر، نتوهم منذ هذه اللحظة أن هذا العالم هو الحقيقة، وكل شيء آخر أقل في القيمة والأثر، هكذا حينما يصل أبطال المسلسل بشكل ما إلى الماضي أو المستقبل، ما يهمنا ويهمهم هو إصلاح ما يحدث في هذا الحاضر الذي تركوه وتركناه، أي شيء خارج إطار هذا الحاضر مبرر.
في الجزء الأول من المسلسل، نتعرف شيئاً فشيئاً على جماعة Sic Mundus، المسافرون عبر الزمن، والذين يؤمنون بأن الزمن هو الإله، وأن تنقلهم في الزمن هو لغاية واحدة، ندرك في الجزء الثالث أنها نهاية كل هذا، حدوث الأبوكاليبس الذي ستنتهى معه المعاناة التي تستمر في الحدوث مرة بعد أخرى.
لا يمكننا هنا تفويت الفرصة للتذكير بالحديث النبوي «لا تسبُّوا الدهر، فإنَّ الله هو الدهر»، هذه لحظة تؤثر في قراءتك للأحداث كمشاهد عربي تربى في مجتمعات إسلامية، سنتركها هنا لك لمزيد من التفكر، دون تدخل منا.
على جانب آخر، فالمسلسل متأثر بشدة طوال أحداث مواسمه الثلاثة بفلفسة الألماني مارتن هايدغر عن الزمن، الزمن الذي لا فارق حقيقي فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل، الثلاثة حاضرون معاً في نفس اللحظة، فما نسميه ماضياً هو حاضر بأثره في اللحظة التي نتحدث فيها حالياً، وحاضرنا بالتبعية موشوم على وجه مستقبلنا.
يحاول هكذا أبطال المسلسل في الموسمين الأول والثاني تغيير حاضرهم بالتلاعب في الماضي أو محاولة الإصلاح من المستقبل، لكن كل شيء يؤدي في النهاية لنفس الحاضر، نفس النتيجة.
هذا أمر شاهدناه من قبل في دراما السفر عبر الزمن، كل ما حدث سيحدث مهما اختلفت السبل، لكن نهاية Dark في جزئه الثالث تثور على ذلك.
ما وراء الشر والخير
عبر الجزء الثاني تتغير رؤيتنا للخير والشر، هنا يتحدث المسلسل بلسان نيتشه في كتابه الشهير «ما وراء الخير والشر» ويخبرنا أن تقييمنا لما هو الشر وما هو الخير يتأثر بشكل كبير بالزاوية التي ننظر منها، في الجزء الأول نظن في البداية أن نوح وآدم هما الشر، يوناس ومارتا هما الخير، لكننا مع مرور الأحداث تتبلور لنا رؤية بأن هناك فريقين، يوناس تحول مع الزمن إلى آدم، مارتا تحولت مع الزمن إلى حواء/إيف، كل منهما كون فريقه، كل منهما يظن أنه الخير، وأن الجانب الآخر هو الشر، آدم وفريقه يرون أن الأبوكاليبس هو الحل، تدمير العقدة التي تربط العالمين بكافة خطوطهم الزمنية، حواء وفريقها يرون أن الحفاظ على العقدة التي تربط العالمين هي الحل.
لكننا كمشاهدين نصبح شيئاً فشيئاً مؤمنين بأن هذه الثنائية غير دقيقة، لا خير وشر، لا أبيض وأسود، الأمور لا تحدث في الحقيقة بهذه الصورة.
التضحية والأضحية
الإشارات الدينية من الديانات الإبراهيمية تفرض نفسها على المشاهد، أولاً بالطبع من خلال أسماء الشخصيات، لكن الأمر الذي سنركز عليه هنا هو تكرر مفهوم الأضحية من خلال الأحداث، تضحية المرء بمن يحب من أجل الزمن، وفي لحظات أخرى كأحد أفعال الزمن، الحبيب يقتل حبيبته، الحبيبة تقتل حبيبها، الابنة تحاول ذبح الأم، والأم تقتل الابنة، الابنة تقتل الأب، والأخت تقتل الأخ، والابن يقتل الأب.
كل حوادث القتل هذه تحدث خارج الخط الزمني الذي بدأت منه الأحداث، تحدث جميعها سواء في الماضي أو المستقبل، أو في العالم الذي نظن أنه مواز، الجميع يظن أن هذا سينقذ عالمهم الحقيقي، والبعض يظن أن هذا سيمنحه قيمة في الجنة، التي وعد بها المسافرون عبر الزمن تابعيهم عقب الأبوكاليبس.
القتل يمكن تقبله من أبطالك المفضلين، يمكن تقبله منك شخصياً، إن لم يكن في واقعك، إن كان في حلم، أو ما تظن حلم أو واقع مؤقت.
القوة المحركة للتضحية في كل مرة هي الحب، كل ما يحدث في Dark محركه الحب، نحن لا نقبل بفقد من نحب، وسنفعل كل ما نستطيع لاستعادة أحبائنا الذين فقدناهم، حتى لو أدى هذا لتدمير العالم، والعوالم الأخرى أيضاً.
ثورية النهاية
العود الأبدي فكرة شديدة القسوة، كل خطأ سترتكبه سيظل في مطاردتك مرة تلو الأخرى، سيظل يتكرر ويدفعك لبؤس لا مفر منه، هذا ما بدأنا منه من خلال كلمات كونديرا، وهذا ما يجد يوناس بطل Dark نفسه فيه في أحداث المسلسل، وبالخصوص في الجزأين الأول والثاني، حينما يقتصر دوره كبطل سلبي على سؤال الجميع عما يحدث بحق الجحيم، كيف يمكنه إنقاذ الطفل الهارب، وكيف يمكنه إنقاذ حبيبته التي قتلت أمام عينيه!
تستمر الأحداث في التكرر، المآسي في التكرر، مهما حاول الجميع تغييرها، تنطبق نظرية الأوتار الفائقة بشكل كلي على المسلسل، وهي النظرية التي يمكن اختزالها بشكل مخل على أن الكون ليس وحيداً، ولكنه عدة أكوان تتفاعل مع بعضها البعض كسمفونية شديدة الدقة.
يبدع صانعا المسلسل، السويسري باران بو أودار، والألمانية جانيتجي فريسي في إدماج تجربة قطة شرودنجر في تفسير الأحداث، فالقطة المحبوسة في صندوق به مادة سامة في إناء زجاجي، قد تكون ميتة، وقد تكون حية، وما دمنا لم نفتح الصندوق، فكلا الاحتمالين قائم، وكل احتمال يصنع عالم مختلف عن الآخر.
النظريات تتوالى عبر أحداث المسلسل، مفارقة Bootstrap، وهي التي تنص على ماذا لو أن شخصاً ما أخذ أحد الكتب التي نشرت في زمانه، ثم سافر إلى الماضي وأعطاها لمؤلفها قبل أن يكتبها، هل هذا الكتاب إذن من تأليف المؤلف؟ أم أنه فقط قد قام بنشر ما حصل عليه؟ ولو كان قد نشر ما قد حصل عليه، كيف وصل الكتاب من الأصل للمسافر عبر الزمن في أول الأمر؟!
المفارقة الشبيهة هنا هي مفارقة الجد، ماذا لو عدت في الزمن وقتلت جدك قبل أن يتزوج جدتك؟ في هذه الحالة فوالدك لم يظهر على قيد الحياة، وبالتبعية فأنت غير موجود، كيف يصبح هذا معقول إذن؟!
مما يجعل من نهاية Dark ثورية على مستوى السرد، أنها ورغم كل هذه النظريات المدمجة التي تؤدي دون شك لانفجار الأدمغة، فإنها نجحت في النهاية في الوصول بسلام إلى نهاية تتفق تماماً مع كل القواعد التي بناها صناع المسلسل منذ البداية، تضيء هنا الجملة المحورية في أحداث المسلسل «البداية هي النهاية، والنهاية هي البداية».
يمكن تفسير مفارقة Bootstrap ببساطة عبر نظرية الأوتار، الأكوان المتعددة المتصلة عبر حلقات، يعود المسافر عبر الزمن إلى الماضي في حلقة كونية مختلفة عن الحلقة الكونية التي أدت إلى حاضره، هكذا يصبح معقولاً أن يهدي الكتاب لمؤلفه في هذا البعد الكوني قبل أن يكتبه، في هذا الكون إذن الكتاب ليس من تأليف مؤلفه ولكنه أنزل عليه، أما في أحد الأكوان، فالكتاب من تأليف مؤلفه حقاً، هنا البداية، وهنا يمكن الوصول للنهاية.
تنتهي الأحداث باكتشاف كلاوديا المسافرة الخبيرة عبر الزمن أن كل ما يحدث يدور في حلقة مفرغة لأن البداية في كون مختلف عن الكونين اللذين يتصارع فيهما مارتا/حواء ويوناس/آدم، البداية في كون مؤلف الكتاب، صانع الآلة، وبتغيير البداية في هذا الكون، تأتي نهاية الكونين الآخرين، إذا ما ذهبت لشرودنجر ومنعته من وضع القطة في الصندوق، سيتلاشى الكونان الناتجان عن وجودها في الصندوق رفقة المادة المميتة.
لم يقبل صناع Dark على الاستمرار في حلقة مفرغة، كما حدث في العديد من الأعمال الفنية عن السفر في الزمن، الحلقة التي ينهزم فيها الإنسان أمام الزمن، يصبح لا حيلة له، هنا يثور الإنسان على الزمن، وفي النهاية يكسر هذه الحلقة، يتحرر.
كيف تصنع عملاً فنياً عظيماً؟
انشغلنا طوال هذه المراجعة بتحليل ما حدث، الأفكار المتداخلة التي تستحق التأمل، لكن السبب الرئيسي في كون مسلسل Dark عملاً فنياً عظيماً هو في طريقة التنفيذ وليس في هذا المحتوى المعقد للغاية. صناع المسلسل هنا لم ينشغلوا بالمحتوى عن الشكل، طريقة الحكي في Dark توفر متعة يصعب مقارنتها بالحكي والسرد في أي عمل عن السفر عبر الزمن شاهدناه مؤخراً.
يبدأ الأمر بخط زمني واحد، ثم خطين، ثم ثلاثة خطوط، ثم كون مواز، ثم خطوط مختلفة في الماضي والحاضر في هذه الأكوان، التنقل يصبح سريعاً ودون إشارة في الجزء الثالث، يصبح الأمر أقرب للدوران السريع في القطار الأفعواني في مدن الملاهي، لكن صناع Dark لا يفوتهم في نهاية كل حلقة أن يكافئوا مشاهديهم بكولاج يجمع بين كل بطل من أبطال العمل على حدة بين ماضيه وحاضره، بين هذا الكون والكون الآخر، رفقة موسيقى «بين فروست» التي تصنع إحساساً ميلانكولياً تأملياً لا يفارقنا حتى النهاية.
التأمل في التفاصيل الصغيرة هو ما يؤكد عظمة الصنعة، وأبرز هذه التفاصيل في Dark هي كينونة البشر، الإنسان هو الوجود، كل ما دونه هو وهم، هذه تفصيلة لم تكن لتنجح على الإطلاق لو لم يكن اختيار الممثلين بهذه العبقرية، العبقرية وصف مبالغ فيه نحاول كنقاد الابتعاد عنه قدر الإمكان، لكن التقارب الشكلي والروحي للممثلين الذين يؤدون نفس الشخصية في أزمان وأعمار مختلفة يبدو عبقرياً بحق.
اصنع عملك الفني على مهل، لا تغير في سرديتك إذا شاهد مسلسلك 10 ملايين بدلاً من 10 آلاف، ممثلونك هم أدواتك، لا تخدع مشاهدينك، احترمهم واحترم تفاصيل الصنعة، وأخيراً لا تخشَ من التجريب والثورة على الطرق التقليدية، والأهم لا تصبح أمريكياَ لو لم تكن أمريكياً، في Dark يكتسب المسلسل قيمة مضافة من بيئته، من ألمانيته، من لغته الأصلية ومن مواقع تصويره.
مع نهاية مشاهدتك لمسلسل Dark ستجد نفسك مدفوعاً لمشاهدة الموسم الأول مرة أخرى بعد نهاية الموسم الثالث، لعنة العود الأبدي لا تصيب فقط شخصيات Dark ولكنها تصيب مشاهديه أيضاً.