(1)

أتذكر تفاصيل تلك الليلة بدقة متناهية. كان أزيز المروحة يُؤنس عزلة الغرفة الصامتة، مُبعثرًا نسمات الفجر المائلة للبرودة، لكن النسمات في ليالي الصيف الحارة دائمًا ما تبعث في نفسي هواجس التأمل كدلائل على رحمة الخالق. ذلك التأمل الذي يمتد خيطه إلى مزيد من السخط والتساؤل عما لا إجابة له: ثُمَّ أمَّا بعد؟

الفكرة تتلألأ في الجوانب الخالية من عقلي، هاربة من كل محاولات السيطرة عليها. زحام الهموم داخل ذلك العقل البالي يساعدها جدًا. مع الأسف.

(2)

لم يُنِر القمر وجهي منذ أيام، أظنها شهورًا. غالبًا ما يتوه بين البنايات المرتفعة وتنشغل عيني، أثناء دموس الظلام، في رؤية سرابات من واقع غير مشهود، فلا يلتقيان إلا في أحلامي تقريبًا. الأخيرة تعيش حالة غريبة جدًا منذ فترة، وبعيدًا عما في ذلك من سخف وهزي، لكني في كل مرة أستيقظ أحتاج بُرهة لا تقل عن الساعة من أجل استعادة عافيتي من ذلك النوم، أو بالأحرى من الأحلام.

ما يجعلني غير مضطربًا بشأن ذلك، أنني لستُ الأول الذي تُرهقه أحلامه، ويعمل الباطن من عقله أكثر من الحيّ. تلك طبائع الأمور عند أكثرية البشر، مُتعددي التفكير منهم بالأخص.

الأهم، أن الليلة كانت عاتمة في غياب القمر عن رؤيايّ، واستغل الظلام الفرصة وبدأ في نسج خيالات في اللاشيء، مستبدلًا دور اللاوعي، والذي غالبًا ما تم إرهاقه فيما مضى. حسنًا.. فلتكُن جزيرة نائية، البشر الزائلون قد صدقوا الوعد ورحلوا عنها حتى لا أثر لهم، تبرأت منهم حبات الرمال، ولا يُوجد دليل واحد على أن قدم قد طرأت هُنا من قبل.

لن يقوى الطعام على إكمال الرحلة – طبعًا، ربما الماء يفعل، وربما سينسحب هو الآخر بعد مدة بسيطة من انقضاء الطعام، يعود ذلك لحسن الاستهلاك من عدمه. الحاجة للنور الشديد، كون الرؤية منسوجة في ظلام حالك، تضع الشمس بقوة كأنما تلك الجزيرة تقع على عطارد وليس الأرض، وكأني أشعر بتفاعلات الغازات منها وتلمس شُهبها الحارة نقطًا من جلدي. أحاول فتح عينيّ ببطء شديد، لأكتشف ما في تلك الجزيرة من فراغ، أشجار مرتفعة مناطحة السُحب، لكنها أضعف من أن تواجه أشعة الشمس، وآثارًا لطيور كانت قد تركت أيكها هاربة من خطر كانوا يظنونه قد اقترب، والآن قد جاء. أغلق جفوني وأفتحها مرتين. تختلف الرؤية، أو تنعدم.

(3)

يقولون إن جديّ لو أنه كان لحق بعام 2011، لَأقدم على الانتحار في غرفته.. وحيدًا.. مختنقًا بِرحيق الثورة. كان ناصريًّا إلى حد اعتناق الاشتراكية دون وعي بمفرداتها حتى. عشق تراب مصر، والتراب وحده، وعلى الأرجح، كان يعتقد أن تلك الأتربة التي تُغطي القاهرة إنما هي أحد عوامل الاستقرار الأرضي لتلك الرقعة من الكون. هناك شيئان فحسب لن تسمع غيرهما في شقة العائلة القديمة التي عاش فيها جدي أيام صباه وحتى شيخوخته، إلى أن رحل مُفترشًا أحد الأسرة بها، هما: صوت الشيخ «محمد رفعت»، قيثارة السماء، والبث الممل لإذاعة الشرق الأوسط. الأخيرة تسلب خيالي جدًا نحو أوقات الحروب، لكنها تُضيف لقلبي نفس الرهبة التي كُنتُ أشعُر بها وقت سماع صدى صوت سُعال جدي يرجُ أركان المنزل حين يكون عائدًا من المسجد، قاطعًا حالة اللهو العشوائية بين الأحفاد. لكنها على الهامش، ساعدت كذلك في تشكيل أول هواجسي، وهو دقات الساعة.

ما يثير حفيظتي أكثر من القلق المصاحب للانتظار المميت حين تنظر إلى عقارب أي ساعة، هو الشعور بالعجز تجاه ذلك الشيء التافه الصغير الذي لن تتمكن من إيقافه مهما حاولت.

كان كل شيء في غرفة جدي لأبي منمّقًا حد الرتابة، وكأنها البيئة الخصبة الوحيدة الصالحة لإثبات قانون الفيزياء، المُدّعي بأن الساكن يظل على حالته ما لم تؤثر عليه قوى خارجية. وفي حالة غرفة النوم الملاصقة للشرفة الوحيدة بمنزل رأس العائلة التي اختارها القدر لتكون مكان موته فيما بعد، فإن كل العوامل الخارجية، مهما بلغت قوتها، لن تقوى على حراك أي ساكن قد وضعه «طُلبة» بيده في إحدى الزوايا. لم أشعر قط بأني محبوس في هذه الأجواء، بل بالعكس كان لدي حرية لم يحصل عليها أي الأحفاد، باعتباري الحبة الأخيرة في آخر عنقود العائلة من ذلك الفرع، مما يعني أني الحفيد المُدلل للابن المدلل.

لكن في كل مرة تواجدت فيها هُناك، كنت أظن أن روحي تركض في مساحة محدودة جدًا، الأحلام لن تتخطى خطًا مُعينًا. كان جدي دائم البحث بين النشرات الإخبارية عن شغفه بالزعيم الراحل، يتحسس رائحة فكره بين العقول، يُنصت للأخبار بِتَمعُن، علّه يجد طيف تلك الاشتراكية يعودُ للعالم من جديد. في حين كُنت أبحثُ أنا عن ثورة بسيطة في عالم أبسط.. أتذكر أنني خططت وسعيت ذات مرة لقلب نظام المذياع، وتحويل قناة النيل للأخبار طمعًا في الخروج من بوتقة السياسة المملة التي لم أفهمها، ولكني فشلت في هذه المرة، وفي كل مرة كان يتوق فيها خيالي لأن يكسر روتين ذلك المنزل. لم أكن محبوسًا في شقة جدي إطلاقًا، حتى بعد وفاته، لكن الشعور ذاته ظل مصاحبًا ليّ: القمع، الركض في مساحة مغلقة معروفة الحدود. أحلامي لا يتبعها الفشل، لكنها لا تقوى على إكمال الماراثون لنهايته، كما لو كان الملل يدب في عروقها فجأة. روحي الحرة الهائجة، يختنق هياجها في دائرة مُغلقة لا يمكن كسرها.

مات جدي، وظل صوت محمد رفعت ودقات ساعة الشرق الأوسط مرتبطين به، بالرغم من ندرة المرات التي صادفتُهما فيها من حين وفاته، ومن كثرة المرات التي يخالجني فيها الشعور الذي تذوقته بشقته طول حياته.

(4)

حاولت عدة مرات أن أضع أذني على الحائط الديكوري الواصل بين الكالوس وخشبة الأحداث، لأتأكد من الصوت، ربما أخطأت السمع، لكن لا أمل. ثارت جموع الحاضرين على العرض بالفعل، ولم تنجح البداية البراقة في خطف أذهانهم، ربما كان عليّ بذل عناء أكبر من أجل الظفر بتلك الأذهان التي تعرف الكثير. الحقيقة أنه أمل فعلًا، فقط هذه هي الإجابة الكاملة في تلك الليلة.

(5)

أنا شخصية مكشوفة للغاية، أتحدث كثيرًا، ثرثار جدًا، وهو عيب لا أرغب في إخفائه عند كل دخول جديد في أي علاقة. حتى لو حاولت ذلك فسُرعان ما سأمارس هواية الفشل بكل نجاح. بعد 10 دقائق فقط، ستكتشف أني قد استحوذت على أغلب الوقت في الحديث، مع عدم ترك أي فرصة للطرف الآخر. لذا أتعامل دائمًا بكوني كتابًا مفتوحًا، وكل من يعرفني لأيام بسيطة، يكشط على صفة الغموض من قائمة الصفات الشخصية، ثم نبدأ الرحلة سويًا.

لا أتذكر أحدهم قد سألني ذات مرة عن أحلامي للمستقبل، رؤيتي للقادم واضحة حد الرتابة، أو هكذا كانوا يظنون، حتى وصلتُ هُنا. بدا الصوت قادمًا من أمد بعيد جدًا، ربما لا تصله الرؤية، ولم يقترب، بل ظل بعيدًا على حالته، ومع ذلك أدركته جيدًا: سمعت ضحكات خفيفة تُزين كل ذلك المدى المديد، ومعه المساحة البسيطة من حولي. تُضيفُ نوعًا من الدفء على تلك الغرفة الباردة، دفئًا عاطفيًا معنويًا، كُنت في أمس الاحتياج إليه في تلك الحالة.

بقدر ما كُنتُ أملكه حينها من إدراك، أكاد أجزم أني وإن كُنتُ قابضًا – حينها – على قطعة من الجليد بقبضة يد، لما تغيرت حالتها الفيزيائية إطلاقًا، لكن يبدو أن درجة إدراكي حينها كانت أقل من درجة حرارة جسدي – رقميًا على الأقل. بعد قليل، بدأتُ أشعر أنني السبب الوحيد في تلك الضحكات الدافئة، سيرتي واسمي كانا المُشترك الوحيد بين كل الحوارات التي لم تكن موجهة إليّ أولًا، ثم سمعتُ أحدهم يسألني عن أحلامي، لأول مرة. بدا ذلك كهاتف من السماوات السبع، وكأني أُحاسب الآن على ما مضى. الآن فقط، أنا كتاب مكشوف فعلًا، ولم يُعدُ الكذبُ مُنجى بعد. سُألت عن طموحي، عما أسعى إليه، عن رضائي عما أنا فيه، عما مضى، عن شعوري تجاه الآخرين، وعن رؤيتي في شعور الآخرين تجاهي. لحظات، وتوقفت الضحكات، حين أقسمتُ بصوت ثابت لا ينم عن شخص يعود لتوه من غيبوبة التخدير، أني لم أعد أُريد العيش بعد، وإن تعارضت رغباتي مع القدر الأقوى، فأني والأحلام من الليلة، لسنا أحبة، وهذا فراقٌ بيننا.

انتهى العرض الضاحك، واقترب صوتهم جدًا حتى تيقنت أنهم فوق رأسي مباشرة. بدت على وجوههم نظرات من البلاهة، البعض حاول خداع نفسه بأن كل إجاباتي المُحبطة وجزعي ويأسي ما هُم إلا خطرفة من آثار المُخدر، والتي تُعد طبيعية بعد دوام ساعات داخل غرفة العمليات. لكن العاقلين منهم كانوا يُدركون أن الأمر أصعب من ذلك، وأن الباطن رُبما يُخرج إجابات غير مُرتبة عما يدور داخل العقل بشقيه، لكنها مع الأسف حقيقية. يتفقون جميعًا في أني لستُ بخادعهم في كل ما مضى من سنين. فقط شيء ما حوُّل ذلك العرض من الضحك إلى تلك الحالة من الغموض الذي يدفع به إلى النهاية دفعًا، وبنفس السرعة التي يمر بها عرضٌ سريعٌ لحياة كاملة من الذُنوب، يُعاد قصرًا أمام أعين صاحبه، في المسافة بين الصراط وملامسة أول لهيب مُرتفع من نار جهنم.

(6)

يقطع أزيز المروحة كل سكينة تتكون لثوان في الغرفة، وفي ليلة أقضيها وحيدًا بلا واجبات تخص العمل أو أنيس أصم أذانه بثرثرتي عديمة الفائدة، فإن ذلك يبدو في البداية مُزعجًا، لكن مع الوقت أكتشف أن ساعات الوحدة موحشة، وتُثيرُ في نفسي ما لا أرغب في إثارته أبدًا، لكن وبالرغم من ذلك، أطفأتُ تلك المروحة عمدًا بعد أن ثَبُتَ فشلها في تخفيف وطأة ذلك الحر الذي أشعر به منذ أن طلع النهار، قاطعًا كل الظلمة المُلهمة بالغرفة، مُنبهًا إيايّ، بلهيب حرارته، لما قد فَوّت بطول سرحاني وتأملي في اللاشيء، فقد ذهب القمر إلى حيث لن أراه إلا بعد ساعات مملة كثيرة لا تنتهي.

تصطحب الشمس تساؤلات مُختلفة عند كل نهار، لكن يظل سؤال واحد ثابت مُتكرر مُنذ مدة طويلة: أَيظهر لهذه الليلة قمر؟ أم يختفي – بدلال – كما يفعل منذ شهور؟

كان عن يساري رواية تُشبهني كثيرًا، يبدو أنها سقطت مني سهوًا في تلك السرحة، حتى أني نسيتُ في أي فصل كُنت حين أقرأ. لا يهم.. النهاية تبدو واضحة في كل الأحوال.