دارفور: حين يعجز الخيال عن مراقبة الواقع
من هنا تبدأ القصة..
قصة جديدة من قصص الصراع الأبدي بين البشرية، صراعات عادةً ما تخلّف وراءها مآسي وآلامًا، لا تخلو منها بقعة من بقاع هذه الأرض، صراعٌ لا يتوقف، يخمدُ هنا ويحيى هناك، فصراع البشرية لن ينتهي إلا بشروق الشمس من مغربها.
هذه المرة من السودان، حيث إقليم دارفور شاهد على سنوات طويلة من النزاع بين القبائل العربية من جهة والمزارعين من قبائل الفور والمساليت والزغاوة من جهة أخرى على ملكية الأرض وحقوق الرعي، وتطورت الأحداث فيما بعد بظهور مجموعات متمردة من أبناء الإقليم، ومن ثم قامت الحكومة السودانية هي الأخرى بحشد ميليشيات لمواجهة حركات التمرد، والتي أطلقت عليها «قوات الدفاع الذاتي».
بيد أن الحكومة السودانية تنفي أي رابط يجمع بينها وبين ما يسمى بميليشيات «الجنجويد»، والتي تُوجه إليها تُهمًا بالعنصرية، وذلك لما قامت به من طرد للأفارقة السود وتهم أخرى بالقتل والاغتصاب نفذت بحق أهالي القرى داخل الإقليم.
يقول البعض بأن الصراع الدائر داخل الإقليم هو صراع على الثروة، بينما يقول آخرون إنه صراع ذو طابع سياسي، ولكن من يدقق النظر إلى المشهد يجد أن الصراع أعمق من ذلك بكثير، فهناك تداخلات معقدة ما بين عوامل بيئية وعرقية من ناحية وسياسية واقتصادية من ناحية أخرى.
النزوح الكبير
كان لهذا الصراع الذي دام لأكثر من عقد بالغ الأثر على سكان الإقليم، إذ تخطى عدد النازحين داخل الإقليم على إثر النزاع 2.5 مليون نازح، منتشرين في معسكرات داخل الإقليم وخارجه، أُقيمت خصيصًا لهم.
تمتد هذه المعسكرات فى جميع أنحاء دارفور، ويوجد بولاية الشمال وحدها خمسة معسكرات أكبرها (أبو شوك)، حيث يعيش فيه نحو 50 ألف نازح، وبمعسكر (السلام) 49 ألف نازح، و(زمزم) 39 ألف نازح، و(كساب) 26 ألف نازح، و(فتى برنو) 24 ألف نازح، وبذلك يكون العدد الكلي للنازحين في تلك الولاية وحدها 188 ألف نازح.
أما في معسكرات (بوابة تابت، وهشابه، وسلومة، وأبو زريقة) وهي معسكرات تقع في خط واحد من الشمال إلى الجنوب، فالوضع أكثر مأساوية؛ حيث تفتقر المعسكرات إلى المياه، وقد تكون معدومة في معسكر تابت، يعيش النازحون وضعًا بالغ الصعوبة، فهم في انتظار الدعم من هنا أو هناك، هذه الأوضاع خلقت معاناة تواجه آلاف النازحين في المعسكرات المختلفة، حيث يتقاسم النازحون حصصًا غذائية شحيحة، ويعانون في الحصول على مياه الشرب خاصة في فصل الصيف!.
وزاد الوضع سوءًا تقلص الدعم الدولي لمنظمات الإغاثة العاملة في إقليم دارفور، ونقصت حصص الغذاء بنسبة 20% ثم 30% في معسكرات النازحين الفارين من الحرب، ومن ناحية أخرى تعيش المنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة ظروفًا صعبة وخطرة في نفس الوقت، إذ قتل حوالي 47 من العاملين في الوكالات الأممية في الإقليم، خلال الأعوام الماضية وأصيب نحو 139 آخرين، بات النازحون يواجهون مثلث الخطر بأضلاعه الثلاثة الجوع والعطش والمرض.
أطفال في صحبة الموت
أما عن أطفال دارفور فحدّث ولا حرج؛ فقتل وتشريد وتجارة بشر، يعيش أطفال الإقليم في ظروف لا ترقى للآدمية بالمرة، فمنهم من ارتحل مع أهله وقت النزوح ومنهم من وُلد داخل معسكرات النازحين فلا رعاية ولا تعليم، فطبقًا لما نشرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، فإن أكثر من نصف النازحين من الأطفال دون الثامنة عشرة، انتشرت بينهم الأمراض والأمية، ووصل عدد الأطفال الذين يتلقون العلاج بسبب سوء التغذية الحاد نحو 48 ألفًا و952 طفلاً.
كما ذكرت منظمة اليونيسيف أن 88% من حالات الوفاة بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات جاءت بسبب ضعف خدمات المياه والصرف الصحي والمشكلات البيئية، كما أشارت التقارير كذلك إلى انتشار الهزال الحاد وسط الأطفال دون الخامسة يتراوح بين 2.3% في جنوب دارفور و6.5% في شمالها.
بات الأمر خطيرًا؛ فالأوضاع تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، حيث تفشت الأمراض بين سكان الإقليم وغابت الرعاية الصحية، فقد أشار مركز أبحاث الأمراض الوبائية الناتجة عن الكوارث في بروكسل إلى أن 80% من وفيات دارفور لم تكن بسبب العنف داخل الإقليم، ولكن كانت جراء الأمراض التي انتشرت وتوغلت بالإقليم بسبب سوء الأوضاع المعيشية والظروف غير الصحية ونقص أو انعدام البنية التحتية الاستشفائية، حيث انتشرت أمراض البلهارسيا والملاريا والفلاريا، كلها أمراض فتاكة، ووصلت نسبة الإصابة بتلك الأمراض في بعض الأوقات إلى 90% مما ينذر بكارثة إنسانية.
كل ذلك وأطراف النزاع بمنأى عن تلك الكوارث، شغلتهم الحرب، وضريبتها يدفعها سكان الإقليم على غير رغبة منهم، في حين أشاح العالم بوجهه عنهم، بات المشهد صعبًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
أما عن التعليم داخل الإقليم فقد ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة، في واحد من تقاريرها، أن نسبة الأمية بين الأطفال في دارفور بلغت أكثر من 40%، وهي النسبة الأعلى بين أقاليم السودان، في حين ذكرت وزارة التربية والتعليم بولاية غرب دارفور أن نسبة الأمية في الولاية وصلت إلى 46%، وأرجعت الوزارة هذه النسبة إلى النقص الحاد في الفصول التعليمية وعدد المعلمين والذي انخفض بشكل كبير، إضافة إلى الوضع الأمني المضطرب.
بالرجوع إلى الأرقام الواردة كنموذج لمؤشرات التعليم في الإقليم؛ نجد هناك إشكاليات كبيرة إذا تداخل بعضها مع بعض ارتقت إلى مستوى الكارثة، فإن الإقليم يعاني من عجز في المعلمين بلغ نسبة 35% في مرحلة الأساس و31% في المرحلة الثانوية، وأن المتوفر من الكتاب المدرسي لمرحلة الأساس 25% فقط، وللمرحلة الثانوية 10% فقط، كما كشفت إحصائيات رسمية عن عجز كبير لمخرجات التعليم الفني تراوح ما بين 64-99%.
كما يعاني الإقليم قلةً في عدد المدارس مما أدى إلى تكدس أعداد هائلة من الطلاب في قاعات الدراسة مع استحالة توفير قاعات دراسية في كثير من المناطق، حيث يتلقى الطلاب دروسهم في العراء أو تحت الشجر. ويؤدي المعلم مهامه في أغلب الأحيان تحت ظروف صعبة تنعدم فيها وسائل التدريس من (السبورات والأقلام والطباشير) ومستلزمات أخرى، ونادرًا ما يتقاضى راتبه بشكل منتظم، ناهيك عن المتطلبات الأخرى من السكن والعلاج والملبس.
أما عن حال المرأة في دارفور؛ فهي تعاني كما يعاني الآخرون بين قتل وتشريد وإذلال، إضافة إلى ذلك حالات الاغتصاب التي سجلتها تقارير دولية، حيث ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش وقوع أكثر من 200 حالة اغتصاب في هجوم واحد على بلدة تابت في العام 2014، بالإضافة إلى حالات الاغتصاب الفردية في أماكن متفرقة، كل ذلك كان له بالغ الأثر على حال الأسرة الدارفورية ومن ثم المجتمع الدارفوري، فقر وتشريد ومرض وجهل، هكذا هو الحال في دارفور .
هل من حل لإنهاء الصراع؟
دعت مجموعات الأزمات الدولية، وهي من أهم مراكز البحوث التي يستند عليها متخذو القرار في الغرب، مجلس الأمن الدولي للاتفاق حول إستراتيجية للسودان، ودعمه سياسيًا وبالموارد اللازمة، محذرةً من استمرار الفوضى المتصاعدة في دارفور.
وفي أحد تقاريرها أكدت مجموعات الأزمات الدولية أن العنف في دارفور يستمر بلا هوادة، مما دفع الآلاف إلى النزوح خارج قراهم، وأضافت أن موجة التشريد الحالية وصلت إلى مستويات قياسية لم تحدث منذ عام 2004.
وأضاف تقرير المجموعة أن إستراتيجية الخرطوم لمكافحة التمرد ترتكز على الميليشيات، مما أدى إلى نتائج عكسية، على الأقل لأنها أزكت العنف المجتمعي وفاقمت العنف والتشريد، وهاجمت المجموعات غير العربية بدعوى أنها موالية للمتمردين، إضافة إلى أن الميليشيات تحارب بعضها البعض بل وأحيانًا تهاجم القوات الحكومية النظامية.
وقال التقرير إن صراعات دارفور المعقدة والمتشابكة محليًا ساء فهمها بسبب نقص المعلومات والقيود المفروضة، كما لا يزال مجلس الأمن الدولي غير قادر على إيجاد توافق في الآراء حول إستراتيجية سلام جديدة ويدعم إلى حد كبير الوضع القائم الذي لا يمكن الدفاع عنه.
ودعا تقرير مجموعة الأزمات الدولية إلى بدء ودعم الحوار المجتمعي ووضع آليات للسلام والمصالحة، التي تشمل الزعماء التقليديين وقادة الميليشيات وترك الوساطة لشخصيات سودانية محايدة ومحترمة بما في ذلك من هم خارج دارفور، والحد من دور الحكومة لتسهيل ودعم وضمان الاتفاقيات، وإلى السيطرة على سلاح الميليشيات ونزعه والبدء في عملية التنمية وذلك مع الإجراءات القسرية، بما يشمل اعتقال ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم.
وأوصى التقرير بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار في دارفور والاتفاق على إيصال المساعدات الإنسانية دون قيود، ووضع مقترحات لمعالجة شواغل جميع المجموعات في دارفور حول قضايا الأمن وملكية الأراضي والخدمات والتنمية، كما دعا الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي إلى الاتفاق حول إستراتيجية للسودان ومن ثم دعمها سياسيًا وبالموارد اللازمة.
تقارير إقليمية ودولية تفيد بأن الواقع الآن في دارفور واقع كارثي لا يجب السكوت عنه، أكدت جميعها على وجوب التحرك لحل هذه الأزمة بشكل جذري، ولكن تبقى تلك النداءات حبرًا على ورق لا أثر لها على أرض الواقع، ويظل أهالي الإقليم في انتظار غد يحمل لهم الأمل في النجاة من الموت والتشريد والمرض الذي عم المكان حولهم، هم في انتظار يوم تشرق فيه الشمس على دارفور حاملةً لهم طوق النجاة، فهل يأتي؟.