اقتصرت شهرة دار العلوم – كمعهد ومدرسة ثم كلية جامعية- بأنها حصن العربية، برزت في الدفاع عن العربية ضد التغريب والتحديث الأعمى، لكنها لم تشتهر بأدوار أخرى لا تقل تأثيرًا في الهوية الوطنية والانتماء لقضايا الأمة، عبر مشاركتها المؤثرة في تفاعلات الحياة الاجتماعية وتطورات الحياة السياسية في مصر.


دار العلوم كفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية

يخبرنا تاريخ دار العلوم أنها كانت تشارك في الحياة السياسية والاجتماعية منذ إنشائها سنة ١8٧٢م، ففي أول حدث جلل يحدث في مصر منذ إنشاء الدار وهو الثورة العرابية، كان الشيخ حسن الطويل المالكي يحرض على المشاركة فيها، بل كان يدرب الطلاب على حمل السلاح لمحاربة الإنجليز في جبهات القتال، وكان ممن دربهم الأديب الكبير حفني ناصف، وكان وقتها طالبًا في الفرقة الثالثة.

ثم قامت ثورة ١٩١٩م وقد مر على إنشاء الدار نصف قرن تقريبًا، وقد نضج فيها الحراك الطلابي، فكان لها سهم وافر في الثورة إما من أساتذتها أو طلابها. كان من أعلام الحراك الثوري فيها الأستاذ زكي المهندس الذي صار عميدًا للدار بعد ذلك، ومن الطلاب محمد مهدي علام الذي أصبح من أساتذتها بعد ذلك أيضًا.

ثم جاء العقد الثالث من القرن العشرين، وقد أهلّ على الناس بانقلاب الكماليين في تركيا، ثم إعلانِهم إلغاءَ الخلافة الإسلامية، فكانت نكبة الأمة الإسلامية وداهيتها الدهياء، وانتشرت حركات التبشير والمذاهب المارقة عن الإسلام، وانتشرت الجمعيات الداعية لهذه المذاهب المروجة للتبشير وأفكارِه، فكان من الضروري وجود جمعياتٍ تجابه هذه الأفكار، فاقترح الطالب «عبد السلام هارون» تأسيس جمعية الشبان المسلمين وسعى بفكرته هذه إلى الشيخ الخضر حسين، وأحمد تيمور باشا ومحب الدين الخطيب وغيرهم من كبار العلماء، حتى تم تأسيسها وصارت من أكبر المؤسسات الإسلامية التي تضم علماءَ مسلمين من شتى الدول والمذاهب.

وفي أواخر هذا العقد نفسِه أسس الشيخ «حسن البنا» جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928م؛ أي بعد تخرجه في الدار بعام واحد، وفي العقد الذي يليه تخرج فيها الأستاذ «سيد قطب» أهم منظّر لجماعة الإخوان المسلمين بل للفكر الإسلامي كله في العصر الحديث، وفي سنة 1937م تخرج فيها الشيخ «محمد إسماعيل شلبي» مؤسس «جمعية الإرشاد والتقوى الإسلامية».


سر فاعلية دار العلوم

كان الطلاب يحملون هم الدين وهم استقلال الوطن عن الاحتلال، لكن ما سر هذه الحمية التي اتسم بها طلاب الدار على مر عصورها وعلى اختلاف مشاربهم؟، ما الذي يدفع فتى دون العشرين إلى أن يحمل إلى كبار علماء الأمة فكرته بتأسيس جمعية الشبان المسلمين؟، وما الذي حمل الفتى حسن البنا أن يغير نهج حياته كلها من أجل نشر دعوة الإسلام في القرى والنجوع وعلى المقاهي؟.

اكتسبت دار العلوم مكانتها المؤثرة سياسيًا واجتماعيًا، اعتمادًا على مناهجها القوية المتنوعة، وصرامة أنظمة القبول فيها، وثراء العطاء المعرفي والفكري الذي قدمه أساتذتها لطلابهم.

كانت مناهج دار العلوم لا تقل عن مناهج نظيراتها من كليات جامعة الأزهر، بل زادت مناهجها على مناهج الأزهر بدراسة التاريخ والجغرافيا والحساب والطبيعة وغيرها من المواد، وكانت الدار تؤهل خريجها للعمل في القضاء أو التدريس في تخصصات مختلفة على رأسها اللغة العربية والعلوم الشرعية.

ومصداق هذا الكلام أن كثيرًا من أساتذة مدرسة القضاء الشرعي، التي كانت متخصصة في تخريج قضاة شرعيين يجمعون بين دراسة الشريعة ودراسة القانون الحديث، كانوا دراعمة (خريجي دار العلوم)؛ كالشيخ محمد الخضري، والشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ حسن منصور، بل إن ناظر هذه المدرسة ذاتها كان الأستاذ عاطف بركات، خريج دار العلوم سنة 1894م.

وكان عدد من طلاب مدرسة القضاء الشرعي يحرصون على الجمع بين عالمية القضاء، ومعادلة دار العلوم كالشيخ محمد أبو زهرة والشيخ محمد راضي عثمان، ثم لما أغلقت المدرسة سنة 1923م، انتقل أكثر طلابها للدراسة في مدرسة دار العلوم وعمل أكثرهم في سلك القضاء الشرعي؛ أي أن مناهج الدار كانت بديلًا كافيًا لهم عن مناهج مدرسة القضاء الشرعي، وأكثرهم تخرجوا في دفعة 1927، وهي دفعة «حسن البنا».

كان مقررًا على الطلاب دراسة القرآن الكريم والفقه والتفسير والحديث، وكانت آيات الجهاد تتلى عليهم ويتدارسون أحكامها، وكانت المدارس التي تعتني بالدراسة الدينية تهتم إدارتها بربطها بمسجد مجاور لها ليؤدي الطلاب فيه الصلاة، وللاعتناء بالتربية الروحية لهم.

أما الأساتذة فقد كانوا حريصين على زرع معاني الهوية والانتماء لقضايا الأمة، وغرس معاني العزة والفخر بدينهم ولغتهم، ودرء الشبهات عن عقولهم، وكانوا يشجعون الطلاب على الحديث في الشأن العام، ومناقشة قضايا الأمة. يقول الشيخ البنا: «لم تكن الدراسة في دار العلوم دراسة جامدة، فكثيرًا ما كنا نتناول في حجرات الدراسة كثيرًا من الشئون العامة في السياسة والاجتماع، ولم يكن الأساتذة يبخلون على الطلاب ببيان آرائهم الواضحة».

ولم يكن الأمر مقصورًا على شئون السياسة والاجتماع فقط، بل بكل ما كان يمس هوية الأمة، وقد شهدت دفعة 1927م العديد من هذه المعارك. يقول د. إبراهيم مدكور – خريج 1927م وصديق الشيخ البنا في الدراسة-: «وشهدت معركة الشعر الجاهلي وكان لأساتذة دار العلوم فيها موقف معارض لطه حسين، وثار بين الطرفين جدل طويل، ولاحظت أن أستاذ الأدب العربي كان يحاول أن يفتح أبوابًا من النقد والمناقشة».

أما الطلاب فكانوا لا يقبلون في الدار إلا بعد امتحانين شفهي وتحريري، فلما رأت إدارة الطلاب حينًا من الدهر أن الطلاب قد تدنى مستواهم، قررت إنشاء تجهيزية مدتها أربع سنوات تماثل الثانوية العامة في عصرنا تهيئةً للطلاب قبل دخول الدار، ولم تنزل عن مناهجها لأجل الطلاب، بل اتبعت طرقًا أخرى للارتقاء بمستواهم.


النواة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين

ذكرت من قبل أن العقد الثالث من القرن العشرين شهد أفجع أحداث الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث وهو سقوط الخلافة، وقد سبقه بأعوام دعوات غرضها النيل من الإسلام في عقيدته وفي صلاحيته منهجًا للحياة عامة وللسياسة والحكم خاصة.

يقول الشيخ البنا: «وكان لهذه الموجة رد فعل قوي في الأوساط الخاصة المعنية بشئون الأزهر وبعض الدوائر الإسلامية، ولكن جمهرة الشعب حينئذ كانت إما من الشباب المثقف وهو معجب بما يسمع من هذه الألوان، وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير في هذه الشئون لقلة المنبهين والموجهين». ولم يكن ثم وجود للجمعيات الإسلامية في ذلك الوقت سوى «جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية»، لكنها لم تكن كافية لمواجهة هذه الهجمة على الإسلام بجمعياتها وصالوناتها ومجالسها.

وهنا فكر «الطالب» حسن البنا في تكوين فئة من زملائه الطلاب في دار العلوم؛ للتدرب على الوعظ والإرشاد لنشر الدعوة الإسلامية في المساجد وعلى المقاهي ثم تكون منهم جماعة تنتشر في القرى والريف والمدن.

حدث بذلك زملاءه في الأزهر وفي دار العلوم، وكوّنوا مكتبة دعوية للاستعداد العلمي على مهمتهم، وجاء اليوم الموعود للتطبيق العملي لهذه الفكرة، فخرج هو وزملاؤه لدعوة الناس في المقاهي، فكانت تجربة ناجحة، وكان الناس ينصتون في إصغاء لهم ويطلبون منهم المزيد، وألقى البنا وحده في هذه التجربة الأولى أكثر من عشرين خطبة تستغرق من خمس دقائق إلى عشر دقائق.

زادته هذه الفكرة إصرارًا على إنشاء جمعية إسلامية تواجه هذا الهجوم على الإسلام، وترد عن الشباب هذه الأفكار، وتنشر بين العامة الوعي بقضايا الأمة وتبصرهم بدورهم للمشاركة فيها، فكان يكثر الحديث مع زملائه في دار العلوم في هذا الشأن، فكانوا جميعًا يتفقون معه على وجوب القيام بعمل إسلامي مضاد.

ثم تخرج الشيخ حسن البنا وعيّن مدرسًا بالإسماعيلية، وأسس بها «جماعة الإخوان المسلمين» سنة 1928م، وصارت لها شهرة عظيمة ودور فعال في السياسة المصرية والعربية فتباينت مواقف الدراعمة منها، فمن منضم تحت لوائها، ومن مؤيد لها، ومن معارض لخوضها المعركة السياسية، ومن مبغض لها كاره، وصار من طلابها أعضاء كثر إلى يومنا هذا حتى عرفت بمعقل الإخوان المسلمين.


«سيد قطب» في ظلال دار العلوم

كانت النواة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين، مجموعة من طلاب دار العلوم تدربوا على الوعظ والإرشاد لنشر الدعوة في المساجد وعلى المقاهي ثم في القرى والريف والمدن، وهي ما حولها «البنا» إلى «الجماعة» بعد تخرجه بعام واحد.

كان سيد قطب شابًا مهتمًا بدراسة الأدب منبهرًا بالثقافة الغربية، كان يميل إلى مدرسة الديوان التي أسسها العقاد والمازني وشكري، بل عدّه أستاذنا عبد اللطيف عبد الحليم من شعراء هذه المدرسة، وكان من كبار تلامذة العقاد، دخل معارك أدبية بين مدرسة العقاد ومدرسة الرافعي، كان هو فيها الناطق باسم العقاديين.

تخرج سيد قطب في دار العلوم عام 1933م، وهو غير راضٍ عن مناهجها، وعاد إليها بعد 20 سنة ليدرّس للطلاب القرآن الكريم وتفسيره «في ظلال القرآن».

دخل تجهيزية دار العلوم سنة 1925م، ثم مدرسة دار العلوم سنة 1929م، وتخرّج فيها سنة 1933م، ولم يكن راضيًا عن مناهج الدار لقصورها في دراسة اللغات الأجنبية، وفي الاطلاع على الآداب الغربية، بل كان يتطلع للدراسة في كلية الآداب، ولكنه لما اطلع عليها وجدها دون ما يريد، ورضي عن مناهج دار العلوم بعض الرضا.

حتى مادة التفسير لم يكن سيد قطب راضيًا عن منهجها في دار العلوم، وكان يقول إنها طمست كل معالم الجمال في القرآن التي كان يشعر بها.

بالرغم من كل ما مضى، كانت دار العلوم أهم رافد لثقافة سيد قطب الدينية التي ظهرت بعد ذلك حينما سافر إلى بعثة أمريكا ثم عاد منها وقد زال عنه انبهاره بها.

وكان سيد قطب بالرغم من ذلك أيضًا يشعر بانتمائه إليها؛ لذلك شارك في تأسيس «جماعة دار العلوم» سنة 1933م، وكان ينشر في صحيفتها قصائده ومقالاته، وقبل سفره إلى أمريكا أقام له أعضاء النادي حفلة وداع كان من حضورها الأديب الكبير وديع فلسطين الذي يروي أن الشاعر محمود حسن إسماعيل ألقى فيها قصيدة في تحيته، لكن هذه القصيدة أسقطت من ديوانه.

ثم لما عاد بكليته إلى ثقافته الدينية الأولى التي أمدته بها دار العلوم في دراسته فيها، أراد أن يؤدي للدار منّتها عليه بأن يدرس فيها تفسير القرآن، فاستقدمه الأستاذ إبراهيم عبد المجيد اللبان عميد دار العلوم سنة 1953م، ليدرس للطلاب القرآن الكريم.

وذكرنا أن سيد قطب كان لا ترضيه طريقة التفسير التقليدية، وكان قبل عامين من وقت استقدامه للتدريس قد بدأ في نشر تفسيره «في ظلال القرآن» في مجلة «المسلمون»، فاتبع طريقته هذه في التفسير مع طلابه، يقول الشاعر فاروق شوشة: «كان يدرس لنا سورة البقرة، ويقول: (أنا أريدكم أن تعيشوا معي في ظلال القرآن)، يريد أن نسمع الكلام ونتخيل أن هذا الكلام شجرة ضخمة نحن نعيش في ظلها، وكنا ننظر ونحن مندهشون من إيقاع القرآن ومن طريقة أدائه».


أخيرًا، فقد أصبحت الدار منبتّة عن كل ما كان قبل، ألغي نظام امتحان القبول، وصارت لا يلتحق بها إلا كل مدفوع بأبواب غيرها، بل إن بعض الطلاب الذين التحقوا بها كانوا يظنونها كلية العلوم أو كلية تدرّس موادًا علمية.

ولولا بقية من أساتذتها، وأفراد من طلابها لا يكتفون بمناهج الكلية بل يستزيدون من كتب الأصول في العلوم التي يدرسونها، ويلزمون أئمة هذه العلوم من المشايخ وأهل العلم، لصارت الدار أثرًا بعد عين، هؤلاء هم الذين تسير بهم الدار، ويتجدد ذكر تاريخ الدار وعصور مجدها بهم.