أفلام داود عبد السيد: الحياة بعد ساعات العمل الرسمية
في عام 1985 صدر فيلم بعد ساعات العمل After Hours لمارتن سكورسيزي، والذي يقع في إطار شبه سريالي عن شاب تقليدي يدعى بول، يختبر الحياة الليلية لنيويورك في اليوم الذي قرر فيه المكوث خارجًا بعد ساعات عمله، يتسبب ذلك في عدة تعقيدات، من بينها جريمة قتل وتورط مع منظمات غير قانونية، يقضي بول الليل هاربًا رغبته الوحيدة أن يعود إلى المنزل، لكن رغبته الأولية كانت الاستكشاف ومحاولات البحث عن حياة بديلة غير التي تقدمها ساعات العمل الرسمية قبل أن ينتهي اليوم، أو بمعنى آخر تمديد الحياة وتذييلها بحياة جديدة بعيدًا عن القيود الرأسمالية والاجتماعية، حياة بين المخلوقات الليلية التي تحوم حول الحانات القديمة والمطاعم التي يزورها الأفراد وحيدين، وبدلًا من أن تصبح تجربة تنويرية تجعل حياته تتغير، فإنها تستحيل إلى كابوس، يجعله يندم على المغامرة والتجربة.
يقع ذلك الفيلم في مساحة زمانية ومكانية تتسم بالظلام، ويصبح الليل مساحة رمزية لا تنتهي وليس مجرد عدة ساعات يختفي فيها الضوء الطبيعي، عادة ما تقع الحكايات التي تكسر النظام الصارم للحياة خاصة للموظفين في الليل، من خلال التجول العشوائي في الليل تجد الشخصيات ما هو غريب وكابوسي وما هو مغير للحياة وللتكوين الشخصي، يمكن وصف شخصيات أفلام المخرج المصري داود عبد السيد بأنها قابعة في فترة ما بعد ساعات العمل، تتجول ليلًا باحثة عن المعنى وعن حياة أخرى غير تلك الجاهزة المعدة مسبقًا مجتمعيًّا، فهي أفلام تعتمد بشكل رئيسي على الرحلات التي يخرج منها الأبطال أشخاص آخرون، على الانتقال من عالم عادي إلى عالم غير عادي، عالم المغامرة، ثم العودة إلى العالم العادي أو الاحتجاز للأبد في العالم الجديد.
صعاليك ومتجولون
بدأت لفظة صعلوك كلفظة جاهلية تشير إلى جماعات من البدو المتنقلين الرافضين للقواعد الاجتماعية والسلطوية، نُبذوا من قبائلهم وتبنوا وجودًا أكثر فردية، واشتغل بعضهم بالشعر، انتقلت لفظة صعلوك من سياقها الأصلي، وأصبحت تطلق على أي شخص فقير متشرد، معادٍ للمجتمع أو خارج على القانون، يتجول ويهيم في المدن دون وجهة ويلقط رزقه بأساليب غير شرعية، لكنه بشكل رئيسي يتمتع بحرية خارجة عن النُّسُق الاجتماعية والنظامية، أسمى داود عبد السيد فيلمه الأول الصعاليك (1985)، وبه تناول صديقين لطالما عرفا بعضهما، يعانيان ماديًّا معظم الوقت، لكن راحتهما تكمن في السير والتنقل الحر «الصعلكة» في الشوارع وكسب الرزق بشكل يومي غير مستقر.
يتحول الصعلوكان إلى رجلي أعمال فاسدين، ويفقدان أرواحهما الحرة يومًا بعد آخر، تتماس بقية شخصيات عبد السيد مع فكرة الصعلكة، الهيام دون وجهة والخروج عن الأعراف المجتمعية المستقرة مؤقتًا، فهي شخصيات متحركة طول الوقت لا تحدها الأماكن المغلقة ولا تلتزم بوظائف نظامية، وحين تفعل ذلك تتحرر منها مؤقتًا أو على الأقل في مدة وقوع أحداث الفيلم، يتماس مصطلح صعلوك مع مصطلح آخر وهو الهائم Flaneur، وهو مصطلح يرتبط بطبقة أعلى من هائمي المدن الذين يتمتعون بقدر من الحرية يسمح لهم بالتمشية الحرة والمراقبة، ظهر المصطلح في القرن التاسع عشر لوصف شخصيات أدبية في الأدب الأوروبي، شخصية رجل يهيم في الشوارع مراقبًا طبيعتها الاستهلاكية والصناعية الجديدة، لا تنتمي شخصيات داود عبد السيد للهائم ولا الصعلوك بشكل كامل، لكنهم يقضون ليلة مغيرة للحياة في حالة الهيمان والطوف تلك، التجول في المدن واستكشافها خاصة في الليل بعد ساعات العمل الرسمية.
استكشاف المدن والذات
لم يطلق مخرجو الواقعية الجديدة ذلك المسمى على أنفسهم، لم يبدأوا حركة أو يلتزموا بمانيفستو خاص، بل أطلق عليهم ذلك بشكل نقدي واسترجاعي خارج عنهم من قبل الناقد سمير فريد، لذلك يصعب ضمهم جميعًا في أشكال ومضامين متشابهة، لكن الرابط الذي يجمعهم هو تركيز على المساحات المدينية المفتوحة والانطلاق من الخاص إلى العام، وبالطبع التركيز على المستضعفين والقصص التي لا تغير شيئًا أبعد من أصحابها، إذا كان اصطلح على تسمية المدينة كبطل لهؤلاء المخرجين أو تلك الموجة السينمائية، فإن الشخصيات التي تظهر في أفلام داود عبد السيد تستكشف المدن وتكتشف ذاتها بالتجول والتمشية، بطوف المدن، خاصة ليلًا بعد الساعات الرسمية، تحدث حياتهم بعد أن تنتهي أيام غيرهم، تعمل المدينة كأداة مكانية لتغيير الحياة واستكشافها، يستكشفها الشيخ حسني في الكيت كات 1991ويتحسسها بيديه فجرًا أثناء سيره لشراء الفول من عم مجاهد، أو يكتشفها نهارًا، فالليل والنهار سواء بالنسبة له على ظهر دراجة نارية هادمًا في طريقه كل شيء، أو على سطح مركب في نيل لم يعد يعرف لونه.
يصبح للمشي دور أكثر حيوية في فيلم أرض الأحلام 1993، الذي يوظف للتجوال وجهة محددة تتغير مع الوقت، عندما تكتشف نرجس (فاتن حمامة) أنها أضاعت جواز سفرها وميعاد سفرها باقٍ عليه ساعات، تنطلق في رحلة تجولية بها تحيد عن هدفها الأصلي، وهو البحث عن ضائع، ويصبح هدفها الجديد هو معرفة ما هو الضائع من الأساس، تكتشف نرجس أنها لم تعش، بل تركت أيامها تمضي، في قصة قريبة لكثير من النساء اللاتي اخترن أو كان قدرهن أن يكن أمهات، فإن نرجس لم تمتلك حياة خاصة، تكتشف ذلك عن طريق السير ليلًا والتجوال بعد الساعات الطبيعية، تقابل الغرباء، تفقد الأمل وتستعيده ثانية وفي النهاية بعد تمشية مضنية في الأمطار في ليل طويل تعرف أكثر عن نفسها وعن الحي الذي تسكنه.
بشكل ما تبدأ الحياة في لحظة اضطراب الروتين، في حالة يوسف (نور الشريف) من فيلم البحث عن سيد مرزوق 1991 يبدأ الاضطراب لحظة عدم انطلاق جرس منبهه ذات يوم، وحيث إن يوسف معتاد على الاستيقاظ في وقت محدد فإنه يصحو ويذهب لعمله في الوقت المعتاد ليكتشف أن اليوم هو الجمعة، فيبدأ في جولة تريه المدينة بعيدًا عن العمل، يقابل شتى أنواع الناس ويتحول الفيلم للحظات إلى مراقبة اجتماعية، تتتبع المعاناة اليومية لأفراد يسكنون الشوارع بشكل دائم أو عارض، وعلى الرغم من كون يوسف موظفًا متوسط الحال فإنه يقضي الفصل الأول من الفيلم في تمشية من شارع لآخر تشبه المتجول الأوروبي المستكشف Flaneur، لكن بشكل عرضي لأنه لأول مرة منذ زمن أن ينزل من بيته دون وجهة عمل محددة، فهو يتمشى بهدف التمشية نفسها، يتأمل يوسف الحياة المدينية في النهار أولًا، ويتأمل أحوال الآخرين، بحيث يصبح مراقبًا قبل أن يتحول إلى فاعل مشارك حينما يقابل سيد مرزوق (علي حسنين) الذي يمتصه داخل عالمه الغامض ليلًا.
في أول مقابلة بينهما يتحدث سيد مرزوق الكيان الغامض الذي يضفي على الفيلم إحساسًا سرياليًّا عن معرفة المدن والتجول فيها، وكيف أن لكل مدينة مفتاحًا وبابًا للدخول، تلك المعرفة التي تتأتى بالتجول المطول هي جوهر الفيلم وجوهر رحلات المعرفة لشخصيات داود عبد السيد عمومًا، لكن تلك الرحلات لا تنتهي دائمًا بالتنوير كثيرًا ما تنتهي بالفوضى والرغبة في الذهاب للمنزل، وهو ما يربط شخصية يوسف بشخصية بول من فيلم After hours، كلاهما يرغب في عودة الحياة لطبيعتها وانتهاء المغامرة التي تتحول من المتعة إلى الرعب.
الانتقال من الليل إلى النهار
تتعرف أفلام داود عبد السيد كلها بمفهوم التحول بالانتقال من حياة إلى أخرى عبر الاكتشاف المتدرج للعالم واكتشاف الذات، تسير الشخصيات داخل سياقات معدة لها بشكل كلاسيكي على الرغم من ابتعاد الأفلام عن التقسيمات النوعية، لكن كلها تتضمن بطلًا كلاسيكيًّا يضاهي أبطال الأساطير والقوانين الأسطورية المتعلقة بالانتقال من العالم العادي إلى عالم المغامرة والتحول داخليًّا من خلال سلسلة من التغيرات الشخصية والمحيطة.
تميل تلك العوالم للوقوع ليلًا ليس فقط بشكل حرفي في الظلام لكن خارج المواعيد الرسمية للحياة، ينخلع البطل من مواعيد العمل أو مواعيد الحياة والصحو العام لكي يكتشف عوالم أخرى سفلية، على الهامش بعيدًا عن المتن، أن يهيم المرء على وجهه عن قصد أو غير قصد أو أن يحتجز رغمًا عنه في إطار خارج الحياة العامة، يمكن للتجوال في الليل أن يكون حرفيًّا يدور في وقت وزمان محدد أو أن يكون مجازيًّا مثل أكثر أفلام عبد السيد قتامة وشهرة أرض الخوف 2000، الفيلم كله هو تجول في عالم سفلي، انسلاخ من الجلد خارج الإطار الرسمي وداخل إطار هامشي غير رسمي وغير معترف به، لكنه يمتلك قوانينه الخاصة.
تتعامل شخصيات داود عبد السيد عادة مع اختيارات بديلة غير محافظة وغير رائجة، تأخذ الشخصيات نقاط متطرفة من الحياة لكي تعيش فيها، سواء كان ذلك عن اختيار واعٍ مثل الشيخ حسني الذي يختار أن يعيش خارج المركزية المجتمعية التي تقدس العمل والذوقيات الاجتماعية والضوابط العامة، أو يحيى أبو دبورة (أحمد زكي) الذي يجبر على التعامل مع فئة خطرة من الناس غير المقبولين مجتمعيًّا، كونهم مجرمين حتى ولو احتلوا طبقات ثرية في مجتمعهم، أو خيارات الحب التي يطرقها يحيى في رسائل البحر 2010 بتقبله الكامل للبقاء على علاقة بفتاة ليل، والتي بدورها تعمل في مجال غير مقبول مجتمعيًّا، وفي مسماه نفسه إشارة لطبيعة تلك الشخصيات الخفية المتحركة ليلًا.
بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، يتعرف يحيى (آسر يس) على نورا (بسمة) من خلال تمشيته وحده ليلًا، يتتبع صوت مقطوعة بيانو لشوبان من نافذة أحد المنازل، تتغير حياته وإحساسه بذاته بسبب جولة مدينية في الإسكندرية في الليل يكررها كل ليلة، حيث يبدو أن لا أحد غيره في الشوارع، هو وصوت العزف ومن حين لآخر أفراد الشرطة، حتى يجد صحبة في متجولة أخرى وحيدة، وتصبح اللحظة الأولى بينما هي تمشية طويلة في ليل ممطر أبدي.
في تلك الأفلام الجميع يرغب في الذهاب للمنزل، في الوصول إلى الصباح وعبور الليل، في أرض الأحلام تخشى نرجس حلول الصباح وبزوغ الشمس لكي لا تفوت موعد طائرتها، لكن الضوء الأول للفجر يحررها من حياتها القديمة ويغشى الليل الذي بدا وكأنه بلا نهاية، وفي رسائل البحر يغمر نور الشمس الشخصيات الرئيسية بينما يجد كل منهما ما فقد في حياته في الآخر.
في حالة أرض الخوف ينتظر يحيى عبور الليل المجازي، نظرًا لطبيعة الفيلم المجازية ككل، فهو يعمل كنص تحتي بشكل رئيسي للحالة الإنسانية، ينتظر أبو دبورة عبور الليل الذي يدوم لسنوات، الليل هو أرض الخوف، الحياة البديلة التي لا يعلم أيسكنها أم تسكنه، لكن بطلوع النهار أو بانتهاء المهمة لا تتبدد المخاوف ولا تتوضح الأشباح بل تبقى على غموضها، في البحث عن سيد مرزوق ينتهي الفيلم في الليل، ليل أبدي وهروب يبدو بلا طائل، البحث عن سيد مرزوق هو أكثر تلك الأفلام اقترابًا من الأحلام، الأحلام التي يصعب الاستيقاظ منها خاصة إذا تحولت إلى كوابيس، يتحول التجول من أداة تحريرية إلى عقاب مطول لخرق المواعيد الرسمية ومسار الحياة المكتوب.
تتسم أفلام داود عبد السيد بشعرية مثيرة للشجن، الجميع هائم في طرق لا نهاية لها، والمحظوظ من الشخصيات ينجو من ظلام الليل إلى ضوء الفجر الأول، تملك تلك الأفلام مساحات تأويلية لا نهائية، يمكن النظر إليها من جوانب سياسية، فالكثير منها تناقش طبيعة الانفتاح الاقتصادي والهزائم الماضية، ويمكن تحريرها من السياقات التاريخية والنظر إليها من منظور بصري ومكاني بحت، فتصبح عامرة بشخصيات تتحرك من مكان إلى آخر بحثًا عن معنى أو دون هدف في الوصول لأي شيء.