داوود عبد السيد: الاعتزال ليس قرارًا لكنه توصيف للأمر الواقع
يبدأ عام 2022 بخبر حزين تمامًا على المستوى السينمائي المصري، وهو الخبر الذي تناقلته الصحف والمواقع الإخبارية عن اعتزال المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد، الرجل الذي ينتمي لجيل السينما المصرية الذهبي الأخير، الجيل الذي شهد توهجه أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، داوود صاحب 11 فيلمًا روائيًا طويلاً، وفيلمين تسجيليين.
الرجل الذي يعرفه الجميع بالتحفة المصرية الخالدة الكيت كات، والذي تم اختياره في المركز الثامن في قائمة أهم 100 فيلم عربي في التاريخ، القائمة التي تم التصويت عليها عام 2013، القائمة التي ضمت فيلمين آخرين له هما رسائل البحر وأرض الخوف، كما تم اختيار فيلمه قبل الأخير (رسائل البحر) كأفضل فيلم مصري في العقد الثاني من الألفية الجديدة، ضمن اختيارات مجموعة من النقاد المصريين الذين شهدوا سنواتهم الأهم بين 2010 و 2020.
الرجل أسطورة سينمائية حقيقية، قد يكون دون مبالغة أهم صانع سينما مصري على قيد الحياة، لماذا قد يتوقف رجل بهذه المكانة عن صناعة السينما؟ هذا ما نحاول معرفته من خلال حوارنا معه.
أستاذ داوود، ما حقيقة الأخبار عن قرار اعتزالك؟ الأمر فاجأنا جميعًا ونريد أن نتأكد منك.
هو ليس قرارً احتجاجيًا، الأمر الواقع هو ما صرحت به.
هل تقصد أن الاعتزال ليس قرارًا قدر ما هو تعليق منك لوصف الواقع الذي تعيشه حاليًا؟
بالضبط.
لكن هل لا يزال لديك رغبة وإرادة لصناعة أفلام جديدة؟
ماذا يعني صناعة أفلام جديدة؟ لأي جمهور؟ جمهور السينما المصرية حاليًا مختلف، تذكرة السينما تتراوح بين 70 و 100 جنيه، السينما أصبحت سينما مولات، الطبقات التي تعودت أن أتواصل معها لم تعد موجودة في السينما، الجمهور المتواجد حاليًا لديه اهتمامات مختلفة، تسلية بالأساس، وهذا النوع من السينما يتم تقديمه له، الجمهور الذي تعودت أن أخاطبه كان متواجدًا في التسعينيات وأوائل الألفينات، هذا جانب، الجانب الثاني الرقابة، بالإضافة لمنظومة الإنتاج، الحريات، كل هذه الجوانب تجعل الاعتزال أمرًا عاديًا، بالإضافة للسن بالنسبة لي شخصيًا.
منظومة الإنتاج في مصر محتكرة تقريبًا من قبل شركة واحدة، تنتج لأسماء محددة، الأمر ليس بيد الجمهور؟
يهمني أن أكون موضوعيًا، الأمر ليس مجرد احتكار، الأمر بدأ منذ بداية السينما النظيفة، كبار المنتجين قرروا أن يصنعوا سينما مناسبة للجمهور المستهدف الذي يملك المال، سينما نظيفة للأسرة بأكملها، فيلم لا يزعج أحدًا، نوع سينما بشروا به ونجحوا في صناعته، كل هذا كان في مرحلة ما قبل الاحتكار. في جمهور بالتأكيد له مكون ثقافي، لكني أتكلم عن أمر يتعلق بالأغلبية، بالنسب المئوية للجمهور، موزع مصري أخبرني أن إيرادات الفيلم المصري في الداخل تأتي بنسبة 45% من سينما واحدة، سينما سيتي ستارز، سينما مولات.
من القادر اليوم على دخول السينما؟ في الماضي القريب كانت تذكرة السينما بخمسة جنيهات، سينمات الأحياء انتهت، الآن فقط سينما المولات، بالإضافة للمواصلات، خروجة السينما الآن لأربعة أفراد تقترب من 1000 جنيه. الجمهور الذي سيدفع هذا المبلغ له اهتمامات وهموم مختلفة عن ما أراه عند الطبقة الوسطى.
من فترة قريبة كنت كتبت عن فعاليات بانوراما الفيلم الأوروبي في وسط مدينة القاهرة، تم بيع 40 ألف تذكرة، أفلام سينما أوروبية غير تجارية، كنا تحدثنا في لقائنا الأخير أن نوعية الأفلام الأوروبية غير التجارية، الموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية، كانت من ضمن الأسباب التي ألهمتك في شبابك لصناعة السينما، سينما شبيهة تحقق الآن 40 ألف تذكرة في 10أيام، الفعاليات كسبت أموالاً وقدمت سينما مختلفة والجمهور أغلبه من الشباب، هل هذا الجمهور غير كافٍ بالنسبة لك لصنع أفلام؟
السؤال ليس إن كان كافيًا لي، ولكن هل هو كافٍ للمنتج؟ إذا كان الجمهور فردًا أو فردين سيكون كافيًا لي، السؤال: هل هو كافٍ للمنتج؟
السؤال هنا للاستدلال إن كان توصيف الاعتزال نابعًا منك شخصيًا أم نابعًا من المنتج؟
نابع من ظروف كاملة، ظروفي وظروف الإنتاج وظروف الرقابة وظروف الحريات، ظرف كامل.
هل لو اختلفت المعادلة من ناحية الإنتاج، إذا كان هناك منتج يرى أن هذه الشريحة من الجمهور بالنسبة له كافية، هل حينها ستعود للعمل على أفلام جديدة أم لا؟
لو هناك منتج بهذا الشكل، ورقابة ستمرر الفيلم، سيكون أمرًا هائلاً، هذا هو المطلوب، لكن المنتج يشترط دائمًا كم سيصرف وكم من الأرباح سوف يحقق، السيناريو الذي أكتبه مشروط بأن توافق الرقابة عليه.
هل قدمت مؤخرًا مشاريع للرقابة أو المنتجين وتم رفضها؟
تم الرفض وأحيانًا يصل الأمر لشكل مهين، أحيانًا لا يتم الرد، الرفض ليس عيبًا، لكن عدم الرد أمر آخر.
هل هناك مشاريع لك حاليًا متوقفة في الرقابة؟
منذ فترة توقفت عن تقديم المشاريع للرقابة، لكن ما أسمعه يجعلني لا أريد أن أقدم، هناك نقاشات غريبة في بعض الأحيان، مثلًا تم سرد حكاية لي عن ساعات من النقاش لسؤال المؤلف لماذا خلع أحد الشخصيات النظارة في أحد المشاهد، هذه اللمحات الأمنية المتذاكية هذا ما أسمعه، بالطبع لا تكتب الصحافة عن هذا، لكن ما أسمعه يخيفني، ويجعلني أفهم ما هي طبيعة النظام.
ما هو آخر مشروع حاولت تقديمه لمنتج؟
من سنتين، لا أريد أن أحكي حقًا، هناك أشياء أعتبرها إهانات، تجلس مع شخص، ليعرض لك ممثلة معينة في دور معين، فأخبره أنها لا تصلح لأسباب محددة، وأنا أختار ممثلة في هذا الدور، ليتم رفضها، نجم العمل هو من فعل هذا، وهو لا يرفضها لأسباب شخصية، هو يرفضها لأسباب احتكارية وأمنية، هذا رأيي دون معلومات واضحة، أفضل ألا أصرح بأسماء. هذا كله جعل إحساسي بأن هذا الجو غير صالح لصناعة السينما، هو صالح فقط لتربية الدواجن.
هذا هو آخر مشروع إذن؟
نعم، وهناك من قبله مشروع تم إرساله لشركة إنتاج كبيرة، لم يردوا على الإطلاق، الأمر بالفعل إهانة، أنا غير متعالٍ، لكن هناك أشياء تظهر أن منظومة الإنتاج لا تريدك. حديثي ليس احتجاجيًا، أنا لن أغير شيئًا، لكني أصف الوضع الحالي فقط، الوضع مغلق.
هل أفهم من هذا أنك لم تعتزل ولكنك أجبرت على الاعتزال؟
لا، أنا اعتزلت، هناك جانب شخصي، السن والصحة، وهناك جانب يأس من قدرتك على تحقيق ما تريد، وليس أنا فقط، أنا وآخرون كثيرين.
سمعت تصريحًا أنك لا تريد أن تلجأ للمنح الإخراجية الخارجية لأنك ترى أن المنح المدعومة من دول أخرى تؤثر على الرؤية الإبداعية؟
لا، هي لا تؤثر على الرؤى الإبداعية، هي تؤثر على اختيارك للموضوع وكيف تقدمه، أنا حاولت دائمًا أن أقدم أفلامًا جماهيرية، وليست أفلامًا نخبوية، أفلام جماهيرية تحمل عمقًا معينًا، لكن الآن لو قدمت مشروعًا مثلاً، لن تختار الجهة المانحة الأوروبية الموضوع الجماهيري قدر ما ستختار الفيلم الذي يحقق رؤيتها عن المجتمع، النتيجة النهائية قد تكون فيلمًا هائلاً لكنه فيلم لا يحب الجمهور المصري أن يشاهده. هذه هي الأزمة، أنك لن تستطيع أن تجمع بين الجانبين، فيلم يكون جماهيريًا وفنيًا على مستوى جيد، وهذا النوع لم يعد ممكنًا حاليًا.
ولماذا لا يمكن أن تصنع هذا النوع من الأفلام الآن؟
التمويل. سواء من الأفلام التجارية المصرية، أو التمويل الخارجي، يجب أن تدخل الدولة وتقوم بدعم للسينما. الدولة حاليًا تدعم وتصنع أفلامًا لكنها أفلام دعائية، أفلام دعائية لأجهزة أمنية، وتصرف عليها الكثير، آخر منحة دعم حقيقية للسينما من الدولة كانت 50 مليون جنيه، وهو مبلغ محدود تمامًا لصناعة السينما، في حين أن رئيس الدولة يتحدث عن المليارات، وحينما تشاهد الأفلام والمسلسلات التي تنتجها هذه الأجهزة، ستجد أن هذه المنحة لا تكفي لحلقة واحدة من المسلسلات التي ينتجونها، لكنهم لا يريدون، لا يريدون هذا النوع من السينما الذي نقدمه، ولا يهمهم هذا النوع من السينما.
وحينما أتحدث مع أعلى منصب يمكن أن أصل له، تحدثت شخصيًا مع وزيرة الثقافة، وهي متفقه مع ما أقول في أن الدولة يجب أن تدعم السينما، وإن شاء الله سوف نقوم بذلك، لكن لا شيء يحدث.
أنا لا أتحدث كي أخرج فيلمًا، لا يهمني اليوم أن أصنع فيلمًا، أتحدث فقط من أجل السينما المصرية، من أجل المواهب التي في السينما، من أجل الجمهور المصري المعزول عن دخول صالات العرض، والذي يكتفي حاليًا بمشاهدة الأفلام والمسلسلات من البيوت.
هل يمكن أن نقول إن غياب التمويل هو السبب الرئيسي لقرارك؟
بالتأكيد، فالجمهور لم يعد متاحًا له دخول السينمات، صالات العرض في الأحياء غير موجودة، الأفلام التي تتحدث عن هموم الطبقات الوسطى والفقيرة غير موجودة، انظر للأفلام التي صنعها الجيل السابق لنا، صلاح أبو سيف وكمال الشيخ ويوسف شاهين في بعض فتراته وهنري بركات، هناك أفلام كثيرة كانت ممولة من شباك التذاكر، وهي أفلام غير أرستقراطية، السينما هي فن الطبقة الوسطى.
هذا الشكل من الإنتاج لم يعد موجودًا؟
الأمر حلقة مكتملة كما قلت من قبل. في رأيي أيضا أن الإنتاج على المدى الطويل يجب أن يمول من تذاكر السينما، وليس كحسنة ثقافية، وهذا ما يجب أن يصنعه المنتجون.
مؤخرًا لجأ صناع سينما غير مصريين، يقدمون عادة سينما قريبة من السينما التي تقدمها ولكن في بلادهم، إلى منصات مثل نيتفلكس لتنتج أفلامهم، الفيلم الأخير للإيطالي باولو سورنتينو مثلًا من إنتاج نيتفلكس، هل ممكن أن تتعاون مع منصة لإنتاج فيلمك؟
نعم ممكن، بعض أفلام نيتفلكس جيدة، وهذه المنصات تعطي حرية كاملة، وتمول الفيلم بشكل جيد، ممكن جدًا، لكني لا أريد أن أسجن القضية فيّ شخصيًا، أنا أتحدث عن اتجاهات داخل السينما، عن أجيال من الشباب، بعضهم شديد الموهبة، بعضهم صنع نماذج مهمة، لكن ينقصها التواصل مع الجمهور.
في رأيي أن الجمهور المصري مكبل اليدين، في بداية السينما النظيفة في التسعينيات، كان يتم صناعة نوعية معينة من الأفلام، لكن ظلت أفلام من نوعية أخرى يتم إنتاجها، أفلامك أنت شخصيًا ومحمد خان وأسامة فوزي، لكن الآن هناك مؤسسة واحدة هي تقريبًا من تملك الإنتاج وقنوات التليفزيون وتتحكم في التوزيع؟
أتفق معك، ولكني سأحكي لك شيئًا، أنا من سكان مصر الجديدة، كان لدينا سينما روكسي، سينما الحمرا، سينما بالاس صيفي وشتوي، وسينما نورماندي صيفي وشتوي، سينما كريستال، سينما ريفيرا، سينما كشمير، أغلبهم تم إغلاقهم، أنا شخصيًا حاليًا حينما أريد أن أشاهد فيلمًا يجب أن أذهب لسيتي ستارز، في وقت سابق كان الجمهور يمكن أن يدخل السينما بمبلغ زهيد، الموظف في أوروبا قادر على دخول السينما، الموظف في مصر غير قادر على دخول السينما.
أنا أعرف أنك لا تتحدث عن أمر شخصي، أنت تتحدث عن تيار سينمائي كامل، وعن ظروف مكتملة من تمويل لظروف السينمات لوضع اقتصادي، لكن بالنسبة للجمهور هناك أهمية شخصية لك، بسبب أفلامك، بسبب ذكرياتنا كجمهور ونقاد، حتى بالنسبة لهؤلاء الصناع الشباب الذين تلقوا صدمة خبرك، لا يجب أن نفصل الخاص عن العام هنا؟
أنا لا أفصله، لكن الأمر أكبر مني، ماذا لو توفيت غدًا؟ هناك أجيال ستأتي بعدي، ومن الممكن أن يكون بعضهم أكثر موهبة مني.
هل ترى أنك شخصيًا من آخر فيلم حتى الآن، مع الأخذ في الاعتبار التراكمات التي حدثت، هل تعتقد أن هناك تعمدًا شخصيًا لعدم إنتاج مشروع جديد لداوود عبد السيد بسبب مواقفك السياسية؟
لا أنظر للأمر بهذا الشكل، حتى لو كان هذا موجودًا، ليس مجرد تعمد شخصي، ليس مجرد تقارير أمنية، قد يكون هذا موجودًا ولا أعرفه، لكن ليس هذا هو العامل الأساسي، لكن هناك ممثلون بالفعل غير مسموح ظهورهم، هذا موجود بالتأكيد.
الثقافة هي حرية، فن يعني حرية، أي خدش للحرية لا يدع لك الإمكانية لعمل فن يشبع الناس.
أتمنى أن تتحسن الأوضاع وأن نرى مشروعًا لك وأن نلتقي بك مرة أخرى.
إن شاء الله، وإن كانت لي أمنية أخرى. أريد أيضًا أن أعبر عن امتناني لما أراه على السوشيال ميديا من ردود فعل أشبه بتظاهرة.
لو كان التظاهر متاحًا لربما كانت تظاهرة حقيقية؟
لا لا، أعرف أنك تتحدث مازحًا، لكني أريد أن يبقى الناس في بيوتهم على أي حال.