نبوءة دانيال: التفسير الإسلامي للكتاب المقدس (2-2)
تشير الأستاذة «مُنى ناظم» في كتابها «المسيح اليهودي» عند تعرّضها لمفهوم المسيح اليهودي في القرون الأولى للإسلام إلى «قصة دانيال» المسماة (أجودت دانيال)، وتصف القصة بما يلي:
كانت نصوص دانيال وتوقعاته وتأويلاته المدونة في سفره إذن مصدر إلهام لقصص أُلفت فيما بعد فضلًا عن تأويلات الباحثين في نصوصه عما يدعم فكرة المسيح الآتي، والدولة الأزلية أو الدائمة، حيث رأي كل دين في نصوصها تأييدًا له، ولا يختلف موقف الطبري هنا عن موقف سابقيه (من أهل الأديان الأخرى) مع هدم الاهتمام بالنظرة النقدية لسفر دانيال وما إذا كان من تأليف نبي أو من تأليف كاتب مجهول [2] .
ولا نجد في المؤلفات التالية لعلي بن ربّن الطبري تحليلًا لنص دانيال، بل اقتصر من نقل عنه بتكرار ذكر النص الذي نقله الطبري، واكتفوا أيضًا بنقل تعليقه عليه حتى القرن السابع الهجري [3]، بخلاف ما حدث لاحقًا في تصانيف من كتب حول بشارات التوراة بالنبي صلى الله عليه وسلم [4]. لأجل ذلك لن نتوقف حول هذا النص كثيرًا وسننتقل إلى النص الثاني من النصوص التي اقتبسها الطبري عن سفر دانيال.
ورد في كتاب دانيال «طوبى لمن أمّل أن يُدرك الأيام الألف والثلثمائة والخمسة وثلاثين»[5]. يُقدّم الطبري النص بقوله: «فوجدت في كتب دانيال نبوءة أيضًا باهرة عجيبة [ ….. ] فأعملت فيه الفكر (أي: العدد أو التاريخ المذكور في النص) فوجدته يوحي إلى هذا الدين وهذه الدولة العباسية خاصة» [6]، ثم بدأ في تحليل النص المذكور وإبراز رؤيته بإزائه، وزاد على ذلك أنه لجأ إلى علم الجماتير (حساب الجمّل [7] )، ووازن بين الأعداد والحروف وقيمتها العددية ليخرج ببرهان، إضافي إلى أن نص دانيال يشير إلى النبي (محمد، خاتم الأنبياء، مهدي، ماجد) [8]، وقبل أن نحاول مقاربة شرح الطبري للنص السابق وتقييم رؤيته، يمكننا الرجوع إلى ما تقوله المصادر اليهودية والمسيحية بخصوص هذه النبوءة.
كان «سعديا الفيومي» من أوائل الربّانيين الذين تناولوا الحسابات المسيحانية في العصور الوسطى، وقد تحدث باستفاضة في كتابه «الأمانات والاعتقادات» كما تناول الموضوع عند تفسيره لسفر دانيال. ويعتقد سعديا أن دانيال كان أول من تنبأ بتاريخ القدوم، وذلك في الآيات (12/ 7 ، 12/ 12 ، 8/ 14)، ويؤكد سعديا أن دانيال يتحدث عن أرقام صحيحة [9].
ويعنينا بصورة أكبر تحليله للرقم الثالث (12 / 12)، إذ يعتبره الفيومي 2300 صباحًا ومساءً وهنا نجد سعديا الفيومي يقوم بقسمة هذا الرقم على العدد 2؛ لأن صباحًا ومساءً الواردة في الآية يقصد بها يومًا كاملًا من أيام الرب أي سنة كاملة (2230 ÷ 2 = 1050 سنة)، فيصير الرقم الجديد (1050)[10] ، والمقصود هنا – كما يرى سعديا – أن النهاية التي تنبأ بها دانيال تبدأ بعد (185 سنة) من نبوءته؛ لذلك يضيف (1050) إلى (1985)، فيصير الرقم الجديد هو أيضًا (1335) الوراد في سفر دانيال (12 / 7).
إلا أن سَعْديا لا يحدد متى تبدأ تلك الـ(1235) سنة، وقد كان ذلك سببًا جعل (مالتر) يعتقد في أن سعديا لم يكن يهدف للكشف عن زمن مجيء عصر الخلاص، بل إن هدفه الوحيد كان التأكيد على عدم تعارض الأرقام الواردة في دانيال.
وتُعلق الأستاذة مُنى ناظم على تفسير سعديا للرقم قائلة:
وقد أشار «البيروني» من قبل إلى خلاف اليهود والنصارى والمسلمين حول هذا النص، لكنه ركّز في تحليله أكثر على أهل الكتاب (يهودًا ونصارى)، فكل واحدٍ من الفريقين معتمد في احتجاجه على تأويلات استخرجها بحساب الجمل، فاليهود منتظرون خروج المسيح المُبشر به عند تمام ألف وثلثمائة وخمسة وثلاثين سنة للإسكندر، انتظار شيء قد استيقنوه، حتى إن كثيرًا من متنبئي فرقهم كالراعي وأبي عيسى الأصفهاني وأمثالهم ادعوا أنهم رسله إليهم [12].
كان الطبري إذن مسبوقًا برؤى كتابية إزاء النص الذي «استخرجه» أو اعتبره «نبوءة باهرة عجيبة»، أعمل فيه الفكر مستخلصًا منه أنه «يوحي إلى هذا الدين [الإسلام] وهذه الدولة العباسية خاصة»، وتعليل ذلك لديه «أنه لا يخلو دانيال من أن يكون أراد بهذا العدد الأيام والشهور والسنين أو سرًا من أسرار النبوة يُخرجه الحساب، فإن قال قائل: إنه أراد به الأيام، فإنه لم يحدث لبني إسرائيل ولا في العالم بعد أربع سنين فرحٌ ولا حادثة سارة، ولا بعد ألف وثلثمائة وخمس وثلاثين شهرًا فإن ذلك مائة وإحدى عشرة سنة وأشهر، فإن قالوا: عني به السنين فإنما ينتهي ذلك إلى هذه الدولة العباسية منذ ثلاثين سنة أو يزيد»[13].
وعلى فرض صحة تأويل «السبعون سابُوعًا» التي اعتمد عليها الطبري في اعتباره تاريخًا مُثبتًا أو تأويلًا يدعم صحة تخريجه للنص ، يبقى أن ما قدمه الطبري مجرد تأويل مُستنبط من حساب الجمل، قد يصدق عليه حكم البيروني الذي أطلقه على تأويلات اليهودي والنصراني بأنها «تأويلات وتمويهات ركيكة لو قصد المتأمل لها إثبات غيرها بها، ونفي ما أورده بأمثالها لم يصعب عليه مرامها»[14]، فضلًا عن وصف محاولته بالمتعسفة، كما ترى مُنى ناظم محاولة سعديا الفيومي [15] .
يتضح ذلك من انعدام تحليله للنص الذي استند عليه والخاص بالسبعين أسبوعًا [16] في (دانيال 9 / 24 – 27 )، كونه مطلعًا على الرؤية المسيحية له ومُثبتًا إياها [17] وإشارته إلى الدولة العباسية خاصة، على الرغم من أن النص «يطوّب» لمن يدرك تحديدًا الألف والثلثمائة والخمسة وثلاثين (سنة بحسب تأويله)، لكنه يرجع ذلك إلى ما قبل (ثلاثين سنة) من فترته، وغير خفي عليه ادعاء كثيرين من اليهود (المسيحانية) اعتمادًا على هذا النص.
كما اعتبر الطبري تأويله للنص حسب ترجمة القيمة العددية بحساب الجمل سرًا من أسرار النبوة يكشفه الحساب، فالمفردات السريانية لجملة (يشوع مشيحا فروقًا ربّا)[18] التي فسرها البيروني بـ (عيسى [يسوع] المسيح وهو المنجى الأعظم) التي توازي (ألفًا وثلثمائة وخمسة وثلاثين) اعتبرها الطبري مُساوية «لما يجتمع من عدد حروف مُحمد خاتم الأنبياء مهديٌ ماجد» معتمدًا في ترجيح قراءته للأحرف على ما سبق وأشار إليه من نبوءات دانيال وغيره بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، مؤكدًا بها أن قراءته هي الصحيحة [19].
يطرح البيروني تفسيرات أخرى حسب ترجمة القيمة العددية لأحرف النص، فيمكن أن تُحسب بحساب الجمل وتترجم على الصور التالية:
- نجاةُ الخلق من الكفر بمُحمد.
- بَشّر موسى بن عمران بمحمد والمسيح بأحمد.
- يُشرق برية فاران بمحمد الأمي.
وكلها تساوي (ألفًا وثلثمائة وخمسة وثلاثين)؛ لكنه «أمر لا يمكن قبوله إلا بعد قيام برهان عليه كعيان»،«فإن ادعى [مؤوّل] أن المراد بتلك الأعداد البشارة، لاتفاق أعداد هذه مع ذاك، كان له وعليه ما للنصارى وعليهم من تلك الكلمات حذو القذة بالقذة» [20] .
تظل إذن تفسيرات الطبري للنصوص السابقة معبرة عن اجتهاد خاص به، ومحاولة منه لقراءة النص في إطار يتوافق مع معتقده، ويتسق مع منهجه في محاولة استخراج أكبر قدر ممكن من نصوص تثبت البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت تواجه المعتقد النصراني في هذه النصوص وتُبطله .
على أننا لو تمثّلنا بما يقوله البيروني لبطلت رؤية الطبرى، فضلًا عن بطلان الرؤية اليهودية والنصرانية لمثل هذه النصوص، أو اعتبارها نصوصًا مُحرفة مبدلة مُغيّرة. يقول البيروني: «فإن لم يجيزوا حساب الكلمات بالعربية لم نُجز نحن حساب ما أوردوه بالسريانية لنزول التوراة وكُتب هؤلاء الأنبياء بالعبرانية، وكل ما ذكروه هي حجج قاطعة وأدلة واضحة على أن الكلم في الكتب محرفٌ عن مواضعه، والنص فيها مُغيّر عن مناهجه»[21].
[1]: انظر: المسيح اليهودي، ص147.[2]: راجع: مقدمة «سفر دانيال» في الطبعة الكاثوليكية ص 1852 – 1855.[3]: قارن ابن تيمية «الجواب الصحيح » 3 / 166 ، 167 ، والجعفري «التخجيل» ص697.[4]: راجع: «محمد في التوراة والإنجيل والقرآن» لإبراهيم خليل ص69 ، 70 تحليلاً مختصراً للنص، واطلب تفصيلاً موسعًا عند عبد الأحد داود “محمد في الكتاب المقدس” ط 2 قطر سنة 1985 م، ص ص 133 – 144.[5]: دانيال 12 / 12.[6]: انظر: الدين والدولة، ص 117.[7]: حساب الجمل (علم الجيماتريا): هو علم تفسير الكلمة العبرية وفقًا للقيمة العددية لحروفها، وقد استخدمه الحاسبون بحرية تامة؛ وذلك لأن مجال هذا العلم يتسع لأي قيمة عددية يريد الحاسب تحديدها، فالعهد القديم مليء بالكلمات التي يسهل اختيار المناسب منها لتتلاءم مع الرقم الذي يريده واضع الحساب، وقد استخدم هذا العلم منذ النصف الثاني من القرن الثاني للميلاد، ثم شاع استخدامه في العصور الوسطى وخاصة في إسبانيا، وزاد الاعتماد على تلك الوسيلة في وضع توقعات القدوم (قدوم المسيح المخلص) وخاصة على يد القُباليين (فرقة يهودية) الذين أسرفوا في الاعتماد على ذلك العلم إيمانًا منهم بقدسية الحروف العبرية ويقال: إن الأصل في الحساب الجُملي أن يُستخدم في السحر والطلاسم والتنبؤات والتماس مفاتيح الغيب وتصنيف التمائم والحروز الواقية من الشرور بأنواعها، وهذا النوع من العمليات التنجيمية كان منتشرًا عند اليهود خاصة، ثم انتقل إلى العالم الإسلامي، وقد تناوله العلماء المسلمون بالتواليف، راجع حوليات الجامعة التونسية مقال محمد اليعلاوي «حساب الجمل أو التاريخ بالحروف» عدد 8 لسنة 1971. ص 106. وقد ورد في التلمود 150 حالة من استخدام الجيماتريا، راجع منى ناظم: المسيح اليهودي، ط الاتحاد للصحافة والنشر. أبو ظبي د ت. وقد استخدمه يوحنا في سفر الرؤيا (13/18) (من له فَهْمٌ فليحسب عدد الوحش فإنه عدد إنسان، وعدده ستمائة وستة وستون). ويروى أن اليهود استخدموا حساب الجمل في حضرة النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما تلا قوله تعالى «الم ذلك الكتاب لا ريب فيه» فعادلوا حروف (الم) بالقيمة العددية (71)، واعتبروا ذلك لأجل أمة الإسلام، راجع الفخر الرازي «مفاتيح الغيب» ط دار الغد العربي 1991، مج 2 ص 361-362.ويعلق ابن خلدون على هذه الحادثة فيقول: (دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعية ولا عقلية، وإنما هي بالتواضع والاصطلاح الذي يسمونه حساب الجمل، نعم إنه قديم مشهور، وقدم الاصطلاح لا يصير حجة وليس أبو ياسر وأخوه حي ممن يؤخذ رأيه في ذلك دليلاً، ولا من علماء اليهود لأنهم كانوا بادية بالحجاز غُفلاً عن الصنائع والعلوم؛ حتى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملتهم وإنما يتلقفون مثل هذا الحساب كما تتلقفه العوام في كل ملة) [ابن خلدون، المقدمة، ط دار نهضة مصر، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي، 2/766].[8]: السابق نفسه ص118.[9]: راجع «المسيح اليهودي» لمنى ناظم ص 187 ، 188. وتحيل المؤلفة على مرجع هو نفسه يحيل على نشرة لكتاب «الأمانات والاعتقادات» لم أتمكن من الرجوع إليه؛ إذ تأتي الإحالة على (الجزء 8 ص 178 ، 179) والطبعة التي بين يديّ لا ينقسم فيها الكتاب إلى أجزاء، بل هي في مجلد واحد، والصفحات المذكورة تخلو من الإشارة إلى هذه المسألة.[10]: تبعًا لحساب الجمل وليس الحساب العادي.[11]: السابق نفسه، ص 189.[12]: انظر البيروني «الآثار الباقية» ص 15، لم يكن وحده أبو عيسى من ادعى أنه المسيح المنتظر ( الماشيح) بل سار على دربه كل من (يودغان، وداود بن سليمان الرائي (وربما هو من يشير إليه البيروني باسم الراعي) وديفيد رؤبيني، وشتباي)، راجع عبد الوهاب المسيري “موسوعة اليهود واليهودية ” 5 / 297 ، 298 ط دار الشروق، القاهرة، وانظر فصلاً خاصًا تعقده مُنى ناظم عن “المسحاء الكذبة” في “المسيح اليهودي” ص ص 198- 204.[13]: انظر: الدين والدولة، ص117.[14]: انظر: الآثار الباقية، ص17.[15]: انظر: المسيح اليهودي، ص189.[16]: اطلب تحليلاً له عند الأب متى المسكين «النبوة والأنبياء» ص 245 ، 246.[17]: قارن تحليل البيروني للنص المذكور في «الآثار الباقية» ص 16 ، حيث صدّر تأويل النصارى له بقوله «زعموا» مما يعني عدم اعتماده لأقوالهم في النص؛ كونه يحتمل تأويلات عدة باعتباره نصًا رامزًا، معتبرًا تأويلهم وغيرهم مجرد تمويه ركيك (ص 17) أفضى به إلى محاولة وضع أكثر من تأويل للنص من عنده باعتباره تأويلاً يسقط رؤية كل من رأى أن النص يؤكد معتقده الخاص، خاتمًا بقوله: «والاعتصام بمثل هذا من الحسبانات والتلفيقات أقوى دليل وأوضح حجة على تنكب صاحبها عن الحق والهدى» ص20.[18]: النص بالسريانية حسب رواية البيروني له في «الآثار الباقية» ص16، ويمكن قراءة رسم الجملة هكذا: «يشوع مشيحا فرو قاربًا».[19]: انظر «الدين والدولة» ص118.[20]: انظر «الآثار الباقية» ص 18 ، 19.[21]: السابق نفسه ص20.