نبوءة دانيال: التفسير الإسلامي للكتاب المقدّس (1-2)
أكّدت النصوص القرآنية في أكثر من موضع على الصلات القائمة بين الأنبياء، وأثبتت بشكل خاص العلاقة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، ومن ذلك ما ورد في سورة الصف:
تصرّح هذه الآية في وضوح أن عيسى رسول الله، وُصفته التوراة بأوصاف معيّنة وكان مجيئه مطابقًا لتلك الأوصاف، وعيسى مصدقٌّ بالتوراة وبكتب الله، وبأنبيائه جميعًا ممن تقدّم وتأخر، ومبشّرٌ برسول يُصدّق بالتوراة على مثل تصديقه يأتي لاحقًا له [1].
وأكدت آية من القرآن في صراحة ووضوح أن التوراة والإنجيل قد نصّتا على ذِكْر النبي محمد صلى الله عليه وسلم – سواء فُسّر ذلك بأنه ذُكر فيهما باسمه أو أوصافه ونعوته –[2] وهي قوله تعالى:
ونؤمن نحن المسلمين أن أي خبرٍ أو آية وردت في القرآن الكريم فهي حقٌّ وصدقٌ، وإذا كان الله عزّ وجل قد أخبر في القرآن أن عيسى أخبر أتباعه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم فلا ريب لدينا في ذلك، وإن لم نجده صريحًا في الكتب المقدسة الحالية، فلا يعني هذا نفي الخبر الإلهي الصادق، حتى لو كان أساس معتقد اليهود والنصارى اليوم أن بشارة بنبي الإسلام لم ترد في كتبهم.
لذلك ارتأى العلماء المسلمون أن يبحثوا في هذه المسألة، انطلاقًا من نصوص القرآن المعتمدة لديهم في التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتب السابقين، ودفاعًا عن مقام نبيهم، وبغرض إثبات أحقية الدين الإسلامي بالانتشار لما يشتمل عليه من مقاييس الصدق العليا.
لكن هل كان نمط الكتابة في هذا الموضوع واحدًا؟ أم حدث اختلاف بين العلماء في معالجة هذه القضية نظرًا لاختلاف مشاربهم وتنوّع توجّهاتهم؟
وهل استطاع علماؤنا المسلمون سدّ الفجوة القائمة حيال قضية «التبشير»، والتي تتنافر فيها أشكال شتى (إثبات القرآن للتبشير بالنبي محمد – تكذيب اليهود والنصارى لمقولة القرآن وإنكارها تمامًا – خلو النُّسخِ الحالية من التوراة والإنجيل والسابقة عليها من اسمه والتبشير به صلى الله عليه وسلم)؟!
لقد كان الوعي الإسلامي ناضجًا منذ بداية الإسلام وحتى يومنا هذا بشأن هذه القضية، فنعثر في كتب السير والدلائل على كثير مما يشير إلى البشارات بنبي الإسلام في الكتب المقدسة، لكن في البداية اقتصرت معالجة هذه القضية على الرواية فحسب، ولم يتم التمييز بين المرويَّات، واعتُمدت جميعها عند العلماء المسلمين [3] كبراهين صدقٍ وتعضيدٍ لما أشار إليه القرآن الكريم بخصوص التبشير بالنبي، حتى وُجدت مرويات تغلب عليها الروح الإسلامية [4]، وتتلاشى فيها الصورة التعبيرية المسيحية أو اليهودية، والتي هي بالأساس محلٌّ للتأكيد على مصداقية النص القرآني بخصوص إخباره بذلك.
حتى توالت العصور وبدأ عصر المؤلفات المكتملة، وقد حاز موضوع البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم جانبًا من هذه المؤلفات، وأفردت العلماءُ له كتبًا بعينها [5]، واستطاع التاريخ أن يحتفظ لنا بجزء من هذه المؤلفات، منها كتاب: (الدين والدولة في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) لعلي بن ربّن الطّبري، وساعده في تأليفه الخليفة المتوكل [6]، كما أشار هو بنفسه إلى ذلك [7]، فقد خصص عليٌّ الطبري للبشارات بابين من كتابه، هما: الباب التاسع والعاشر، وقد مثّلا في مصنفه نحو نصف الكتاب، ويعدُّ كتابُ عليٍّ الطبريّ أقدم نصّ وصلنا من هذه المصنفات وأكبرها احتواء للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تكمن أهميته إضافة إلى أنه العماد الأول للمصنفين بعده، بل لم ينتج التراث الإسلامي بعده من يحاذيه في مكانته [8] في هذا الموضوع.
سنناقش في هذه الورقة تفسير عليّ بن ربّن الطبري لنصوص نبوءة دانيال، كمثال على التفسير الإسلامي للنصوص المقدّسة، وقد اخترنا هذا المثال نظرًا لحضوره في الفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي، ولتقاطعه مع أفكار أخرى كـ(المسيحانية) وعلم الحروف والتأويل الرمزي للنصوص المقدسة.
يصدّر عليٌّ بن ربّن الطبري تفسيره لنبوءة دانيال بمقدمة وصفية معتمدًا على رؤيته الخاصة للنبوءة، حتى تتوافق مع صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ورسالته، فهو «النبيُّ، خاتم الأنبياء وأن غلبته كانت من عند الله، وأنه صاحب الدولة المؤيدة التي لا دولة بعدها ولا أمة مثل أمته»[9].
وينقل الطبري النبوءة، ليس بحرفيتها كما هي مدونة في سفر دانيال الحالي، من الإصحاح الأول والرابع، حسب نسخته التي اعتمد عليها أو ترجم عنها، والنبوءة ورادة في الطبعة العربية في كتاب دانيال، الذي يحتل في ترتيب العهد القديم الحالي رقم 27، والنبوءة ومؤكداتها الواردة عند الطبري، تقع في الإصحاح (2/ 31-45) (7/2- 28) (12/12)، وبمقارنة النصوص الواردة لدى الطبري بما هو موجود في العهد القديم – حاليا – نجد توافقا كبيرًا بينهما من ناحية اللفظ والمعنى فهو هو لم يتغير، نشير بذلك إلى مصداقية العزو عند الطبري وعدم تدخّله في بنية النص بزيادة أو طرحه رؤية من عنده يغلف بها النص ليقارب ما يودّ الحصول عليه.
نلاحظ نموذجًا من التصرف في النصوص بوضوحٍ بالغ، في ذلك النقل المنسوب إلى «كعب الأحبار»:
والنقل الذي يذكره «قتادة» في تأويل قوله تعالى: «إن الإنسان خلق هلوعًا» إلى قوله «دائمون» ذُكر لنا فيه أن دانيال نعت أمة محمد قال:
يظلّ نصّ «الطبري» الذي ينقله لنا عن دانيال (أقدم نصٍّ نعثر عليه من جملة النصوص الإسلامية التي نقلت بشكل مباشر عن نبوءة دانيال دون تصرف في عبارته)، وهي ميزة يتميز بها الطبري في كثير من نقولاته والأغراض التي تناولها في مؤلفاته في علم الأديان المقارن.
يسرد الطبري نصّ دانيال على النحو التالي:
يصفُ الطبريُّ هذه النبوءةَ بأنها مُبشِّرةٌ ومنورةٌ مصححةٌ لكل النبوءات قبلها، مؤكدة عليها، شاهدة بأنها لا تعبّر عن أحدٍ غير النبي محمد عليه السلام، وقرر أنها احتوت على التبشير به وأنه خاتم الأنبياء، فلا يوجد بعده نبوة نبي، فأي مقال يبقى وضلال يثبت مع هذه النبوءة [15].
ثم ينقل الطبري عن تفسيرٍ لنصوص «كُتُب النصارى» أن الحيوان الأول (الوارد في بشارة دانيال) هو دولة أهل بابل، والثاني دولة أهل الماهين، والثالث دولة الفرس، والرابع إذن دولة العرب لا شك فيه، وهي الدولة الأبدية التي قال الله إنها لا تزول ولا تدع لغيرها دولة ولا سلطانًا [16].
ويظهر أن التأويل الأخير للدولة الأبدية بأنها «دولة العرب» هو من تأويل الطبري المعتمد على تحليله السابق للنص وتنزيله على النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أننا لا نجد عند الجانب المسيحي [17] تأويلًا يدعم كلام الطبري، وكذلك عند اليهود.
فيَذكر المعلم أبو علي البصري (اليهودي) في شرحه لسفر دانيال، أن:
يُتبع بمقال تالٍ
[1] راجع : منصف الجزار، المخيال العربي في الأحاديث، ط1، دار محمد علي الحامي، تونس 2007، ص 153، 154.[2] راجع : محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الجزء التاسع، ط 2 دار المنار بمصر سنة 1367 هـ.، ص 225،226.[3] على أن هناك تمييزًا بين الاعتماد على هذه النصوص وبين نقلها أو اقتباسها كإلزام لأهل الكتاب، وهو ما يفصّله الإمام القرافي في قوله: «فإن قالوا كيف تتمسكون بهذه الكُتب وهي غير صحيحة عندكم؟ قلنا: نبوة نبينا عليه السلام ثابتة بالمعجزات، غنية عن هذه الكُتب، وإنما نذكر ما فيها من الدلالة على نبوته عليه السلام إلزامًا لأهل الكتاب، الذين يعتقدون صحّتها، هي مثل جميع كتبهم في الصحّة، فإن كان يحسُن الإشكال بها تمّ مقصودنا، وإن كانت لا يحسُن بها الاستدلال بطُل جميع ما بين أهل الكتاب؛ لأن جميعه مثلها، وكيف يسعُ أهل الكتاب أن يعتقدوا صحّة هذه الكتب ولا يقبلوا ما فيها من الدلالة على مُحمدٍ عليه السلام؟ والتي تصل حدّ القطع من كثرتها وأنها عميت منهم البصائر وطُمست السرائر، فلا يجد الحق من قلوبهم محلاًّ، ولا سماع التذكر أهلاً». راجع: الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة، نشرة د. بكر زكي عوض، ضمن سلسلة مقارنة الأديان، دون بيان، ص 457.[4] سيجد القارئ في هذه الورقة مثالاً للمرويات التي غلبت عليها الصيغة الإسلامية.[5] راجع: القاضي عبد الجبار الهمذاني، تثبيت دلائل النبوة، الجزء الأول ص 352، فلديه إشارة مفيدة في هذا الموضوع.[6] جاء عنوان الكتاب في النسخة المنشورة في مطبعة المقتطف بمصر عام 1923م-1342هـ، على الصورة التالية: «كتاب الدين والدولة في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، تأليف علي بن ربن الطبري؛ وساعده فيه: جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين (232-247هـ)» واعتمد منغانا في هذه النشرة على نسخة (وحيدة!) في خزانة رايلندز بمانشستر، وقد قابلت هذه البيانات بالنسخة التي عثرت عليها فوجدتها تكرر نفس البيانات أعلاه.[7] يقول الطبري «… بتوفيق الله وعونه وبركة خليفته جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، وبما اهتديت به، واستفدت عنه، وسمعت من ألفاظه…» ص 8 نشرة منغانا.[8] يصدق هذا على أغلب المؤلفات التي وصلتنا؛ باستثناء مُؤلف فريد في بابه هو: كتاب «خيرُ البِشر بخير البشر» لابن ظفر، ويمثل هذا الكتاب قفزة هامة في التراث الإسلامي إذ هو الوحيد [فيما أعلم مما وصلنا من الكتب التي أفردت لتتبع البشارات والنبوءات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم] الذي خصص للحديث عن البشارات بالنبي كمبنى مستقل، فرّع عنه، ما جاء عن النبي في كتب الله، ما جاء منه على ألسنة الأحبار، ما جاء منه عن الكهان، ما جاء منه عن الجان، وقد كتب لمؤلف ابن ظفر الذيوع في عصره وبعد عصره فنعثر عند أبي البقاء تقي الدين صالح بن الحسين الجعفري (ت668هـ) في كتابه تخجيل من حرّف التوراة والإنجيل على نقولات كثيرة من خير البشر، وينقل عنه وابن تيمية في الجواب الصحيح والبقاعي في الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة ونظم الدرر في تناسب الآي والسور، والنويري وغيرهم، وقد احتوى الكتاب في فصله الأول على تفسيرات هامة لنصوص التوراة وكتب الأنبياء ونصوص من الإنجيل، ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، هي التي اعتمدنا عليها في المراجعة، وقارن ذِكر ابن ظفر الصقلّي في كتاب أدب الجدل والدفاع، لموريتس شتينشنيدر. ترجمة: صلاح عبد العزيز محجوب إدريس. مراجعة وتقديم : محمد خليفة حسن، ط المجلس الأعلى للثقافة مصر سنة 2005، ص 65، 66.[9] انظر : الدين والدولة، ص 179.[10] انظر: دلائل النبوة للأصبهاني، ص 85. يُعدّ كعب الأحبار اليهودي من الشخصيات البارزة في الإسلام الأوّل، وتحديدًا تلك الفترة بعد وفاة النبي مُحمّد؛ فقد ظهرت شخصيته، مضطلعة بدور بارز في «الحضارة الإسلامية»، فيبدو أثره ملموسًا لكل مطالع للتراث الإسلامي (العربي) في بنيته وتكوينه، من تفاسير لنصوص القرآن، وما ورد فيه من قصص للأنبياء السابقين على محمّد، ومن مدونات حديثية، ومن أخبارٍ أدرجت في كتب التواريخ العربية، ومن عقائد وتشريعات ترسخت صحتها في ذهنية المسلم. ورُغم دوره إلاّ أنه لم يلق اهتمامًا في الدرس العربي، وسُكت عنه، وسُيّج بهالة مقدسة نسبية، إذ هو الحبر الذي انتهى إليه علم يهود، وهو التابعي الذي اعتمد عليه كبار الصحابة في استمداد المعارف الدنيية. راجع خالد محمد عبده، كعب الأحبار وأثره في الإسلام الأوّل، مقال منشور في مؤسسة مؤمنون بلا حدود 30 يونيو/حزيران 2013.[11] راجع: تفسير الطبري، ج 23/268 نشرة التركي.[12] انظر دانيال 2/31 – 45.[13] نلاحظ وجود اختلافات في تهجئة الاسم ومدلوله، حيث يرد في العهد القديم بهيئة نبوخذ ناصر، ونبوخذ راصر، وينفرد سفر دانيال في الإشارة إلى الاسم بصيغة نبوخذ نصر […] وتشير غالبية المصادر العربية إلى الاسم بصيغة (بُخُتّنُصّر) ولقد أعطيت لهذه الصيغة تفسير غريب، معناها : ابن الصنم، ومفادها أن (بوخت) ابن و(نصر) صنم، وكان وجد عند الصنم ولم يعرف له أب، فقيل ابن الصنم، ويقدم لنا البيروني تهجئتين للاسم، الأولى بالفارسية بخت نرس والثانية بالعبرية يؤخذ نصار ؛ ويشير الطبري (ابن جرير) إلى أن العامة كانت تعرفه ببختنصر. ويرد الاسم في النصوص المسمارية بهذه التهجئة (نبوكود ري أوصَّر) ومدلوله المرجح (نابو يحمي الابن البكر/ الوريث الشرعي)، انظر:حياة إبراهيم محمد، نبوخذ نصر الثاني، ط المؤسسة العامة للآثار والتراث، العراق 1982، ص ص 53-54.[14] انظر : الدين والدولة، ص 113، 114.[15] السابق نفسه ص 114.[16] السابق نفسه ص 117 [17] انظر: نبوّات النبي دانيال، جورج كيو، ط مطبعة الشرق الأوسط، لبنان 1954م، ص 19. إذ يتحدث عن الدولة الأبدية التي يُقام فيها ملكوت الله، مشيراً إلى المسيحية ويؤكد القس نقولا غبريال على ذلك قائلاً : «لا يمكن أن تكون الدولة الإسلامية المملكة التي لا تنقرض أبداً المشار إليها في دانيال ( 2 / 44 ) أو الحجر ( المقطوع بدون يدين ( دانيال 2 / 34 ) لأن الدولة الإسلامية لم تنشأ إلا بعد اعتناق الرومانيين (الدولة الرابعة) المسيحية بل هي مملكة المسيح ابن الإنسان المشار إليه في دانيال ( 7 / 13، 14 )»، أبحاث المجتهدين، ط 3 القاهرة 1913، ص 94.[18] : انظر : شرح سفر دانيال، ص 29- 31 للمعلم الفاضل المعروف بأبي على حسن البصري، ط المطبعة المدرسية في مدينة أوكسفورد سنة 1887م.