دانييلي دي روسي: أن تعيش ظلًا للملك
الأوليمبكو طاقة متفجرة، دائري الشكل لكني أراه دومًا مثلث تأن أضلاعه هتاف وذكريات وأمل يتجدد طالما أن خيوط الشمس تلامس أرضيته لتعكس ألوانَ زِيّ روما.
لا شيء يثير حفيظتي بالأوليمبكو سوى ساعة الملعب، هادئة ببلادة وعنيدة أحيانًا والأهم أنها قد تتخلى عن الذئاب بأي وقت، في مارس/آذار 2015 كانت صادمة وقاسية لدرجة أنها لم تنتظر أكثر من 22 دقيقة فقط لتكشف انهيارنا أمام فيورنتينا بثلاثة أهداف!
بدأ الجمهور بالرحيل للخروج بتظاهرات تطوف العاصمة غضبًا، ما لبث أن بدأ البقية في الهتاف باسمي، ألفت أصوات الحناجر الحانقة التي أفنى أصحابها عمرهم كله لأجل ساعة واحدة من يونيو/حزيران 2001، حالهم كحالي تمامًا.
انتظرت حتى صافرة الحكم، فيما استمر النداء باسمي «دي روسي…دي روسي» آخذًا في الصعود كلما تدهور أداء فريقي، انتهت المباراة وبدأت بالتحرك نحو الكورفا سود بخطوات ثقيلة، تداخلت الأصوات لكن ملامح المئات تواجهني وتخبرني بكل شيء.
خلال ثوانٍ أصبحتُ مطالبًا بتفسير انحدار الإدارة الفنية لـ«جارسيا» ثم تبرير سقطات خط الظهر وأخيرًا الاعتذار عن الخروج الأوربي والتأخر بـ 12 نقطة خلف اليوفي، مهمة عاصفة لكني مررت بتلك التجربة مرات داخل وخارج الأوليمبكو.
على يميني تقدم «فلورينزي» لمحاولة تخفيف الضغط الجماهيري، «أليساندرو» شاب حالم حد التهور، مخلص لروما لكنه لم يدرك بعد أن تخفيف وطأة كل هذا الغضب تتم بحركة واحدة خارج حدودنا سويًا.
الملك يقرأ أفكاري ويتحرك من الدكّة لإزالة لترات التوتر التي تضاعفت بصراخ «فلورينزي»، في لمح البصر يخطف «توتي» كادر الكاميرا وأنظار الحضور حتى ذراعي ينكمش داخل إشارة الكابتن، «فرانشيسكو» يعِدُ بتحسن النتائج وسط الملامح التي هدأت والحدّة التي بدأت تختفي من الأصوات ثم يختم حديثه بضرورة الصبر، انتهى كل شيء في دقائق!
أهم ناشئ بالعالم
العودة للبيت بعد يوم عمل مشحون بالاضطراب يمنح المرء فرصة للاسترخاء واستجماع قواه للمواصلة. ليس في حالتي، صحيح أنني أسعد بمشاهدة إعادة الموسم الرابع من مسلسلي المفضل «بريكنج باد» حاليًا بجانب قراءة إحدى روايات كاتبي المفضل «دون وينسلو»، لكن بيتي تحوّل منذ زمن لمعرض صور يثير ذاكرتي فيسعدني أحيانًا ويؤرقني بأحيان أخرى.
على يمين الحائط تظهر أول صوري، ناشئ يغمره الحماس والجدية يلعب كمهاجم كما يأمرني المدربون، لم أحب منطقة جزاء الخصم أبدًا، اعتقدت دومًا أن مسئوليتي لا تتعلق بمحاولة تسجيل الأهداف بقدر حماية ودعم هؤلاء الذين يسجلون. لم يمر الكثير واضطر أحدهم لتغيير مركزي وإدخال مفاهيم كرؤية الملعب لقاموسي، الهبوط بجانب المساكين، الكرات الطولية، دقة التمرير، اكتسبت ثقة زملائي قبل المدربين، بدأت الرهانات على تصعيدي للفريق الأول تغزو النادي.
لا أحب من السنوات سوى 2001، لم يكن السبب تصعيدي، السبب لأنها جعلتني «دي روسي» الذي عليه الآن، أضافت لحلمي بتمثيل روما هدفًا وبوصلة واضحة، بلورت شغفي وحماسي بالذئاب لإضافة نجمة رابعة، العام الذي تحولت خلاله لأهم ناشئ بالعاصمة وتحولت ملامحي لأصبح للنسخة الثانية من «فرانشيسكو». لاحقًا كرهت نفسي بغياب 2001.
«أوليفيا» ابنتي تقطع وصل تفكيري، جنتي وملجأ سلامي وعلاقتي الوحيدة التي تغيب مساحات الشد والجذب عنها، تذكرني بوعدي بقضاء أقرب إجازة على ساحل ليفورنو، أنسى همومي في الحال وأودّع مؤقتًا حائط صوري وأحسدها على صفاء الذهن.
مر عام
صحوت خلال أحد أيام مارس/آذار 2016 على خبر حزين، توفي صديقي «لوبماردي» عامل غرفة ملابس منتخب إيطاليا بعد أن تجاوز الـ 92، ازداد الأمر ألمًا لأني لم أتواصل منذ فترة مع صديقي الذي شاركني أهم شيء حققته: مونديال 2006.
أخبرت زملائي بالأمر قبل مرور كل شيء أمامي كفيلم سريع، استدعاء «مارتشيلو ليبي»، مزاملة «بيرلو وجاتوزو»، خدعة «ماترياتزي» التي صدقها العالم، وأخيرًا فرحة «لومباردي» برغم عدم حصوله على ميدالية الذهب.
قفزت الفكرة بذهني ثم انطلقت لمكان الجنازة «فلورنسا»، قابلت أسرته قبل أن أعرض الأمر عليهم، نعم أريد أن أهدي ميداليتي لـ«لومباردي»!
استمتعت بالنظر إليها عشرة أعوام، شاهدت «أوليفيا» وأختها «جايا» تنفيذي لضربة الجزاء الناجحة بالنهائي مرات، والآن لا أرى للميدالية مهمة أسمى من مؤانسة صديقي.
يباغتني السؤال المُلِح الذي صاحبني طوال مسيرتي خصوصًا بعد تذكر تفاني «لومباردي» بعمله، «هل قصرت يومًا بأداء مهمتي؟» تأتي الإجابة عادة بـ«لا»، لا أذكر أني تآمرت أو حتى تهاونت على «روما»، التفاني والإخلاص لم يكن كافيًا أبدًا لإضافة إسكوديتو. أخيرًا أصل البيت من «فلورنسا»، الاغتراب بالنسبة لي لا يتعلق بحدود «إيطاليا» فحسب، أحيانًا بحدود العاصمة.
الإفلات من الهاوية
لم أحمل صورة مع «كابيلو»، ليس بسبب حدّة طباعه، ولكن لإيماني بأن الأيام ستدور وسيعود «فابيو» من جديد ليرسم لنا طريق منصة السيري، لن يغريه الشمال مرة أخرى وسيفضل أن ينهى مسيرته بالعاصمة، أحلم منذ مشاركتي الأولى أمام «أندرلخت» بعاصمة لا تعرف اللون الأزرق وبغياب «كابيلو»، عشت أسيرًا لأركان حلم ينكسر كل عام على كل ألوان الدنيا!
«كابيلو» قدمني بموسمي الأول الفعلي 2003، قبل أن يطلق تصريحه بأن «دي روسي» هو مستقبل روما وعلى الأتزوري العناية به، لم يكذب الرجل حين انطلقت رفقة «بارزالي» و«جيلاردينو» لاقتناص العرش الأوربي تحت 21 عام عن استحقاق، ثم انطلقت لمشاركة أوسع مع الذئاب وتدريجيًا وأصبحت بصمة «دي روسي» واضحة بالتسجيل وصناعة الأهداف والأهم المساندة الدفاعية، كانت الأمور تسير بخير قبل أن أقابل «تمارا»!
اتفقنا على الزواج بعد مونديال 2006، لم تكن تحذيرات والدي الذي يعرف كرة القدم أضعاف معرفتي كافية لإثنائي عن الارتباط بحب عمري،لم أعبأ بكل ما ظننه شائعات تحوم حول علاقة أبيها بمافيا العصابات وأقدمت على الخطوة التي كادت تنال من مسيرتي كلها.
بعد أن مرت الشهور الزواج الأولى على خير ما يرام، بدأت أتراجع فنيًا، اعترفت بأني فقدت جزءًا من تركيزي وتشابكت أهدافي ولم أجنِ من الانخراط بحياة ممثلة ومذيعة كـ«تمارا» سوى الصخب والانتقادات التي انتقلت من الصحف والمواقع لمدرجات ودكّة «روما». لكن الأسوأ لم يأتِ بعد.
في أغسطس/آب 2008 عدت من أحد الحصص التدريبية لينزل خبر وفاة والدها كالصاعقة، وجدوه قتيلًا مشوّه الوجه بسبب خلافاته مع أحد العصابات! عشت أيامًا قاتمة اللون، أسميها أيام الصمت، كل الكلام لن يضيف أو يصلح شيء، لم أجد سوى مساندة «تمارا» بمحنتنا، تخلفت عن بعض التدريبات وطلبت عدم السفر لمعسكر «لندن».
فوجئت بـ«سباليتي» يصرخ بالهاتف رافضًا طلبي، مدربي هددني بتوقيع أقصي العقوبات وهي الطرد إن لم ألتحق بلندن، رفضت بالبداية الانصياع لتعنته لكني أدركت أن «سباليتي» يرى ضرورة إصلاح ما أفسده ارتباطي بـ «تمارا» ولكن بقسوة. سافرت للندن، 3 شهور وربما أكثر لم يدور بيني وبينه أي نقاش، أي كلمة، كان الصدام الأعنف بدون شك!
الصادم أن «تمارا» لاحقًا أصرت على الانفصال مني. هل تعرف ماذا يعني أن تسير، تقاوم، تكافح بالطريق الخطأ؟
تكبدت المزيد بعد أن بدأت جماهير الخصم بمعايرتي بوالدها، لا أنسى مباراة «سيينا» اللعينة التي ظل جمهورها يهتف ضدّي ليذكرني بمقتله طوال 90 دقيقة، الجميل أن الأمر ذاته شكل دافعي للعودة لأدائي، بالفعل فوزنا فانفجرت لأواجه هؤلاء الشامتين، فقدت أعصابي لكن زملائي بجانب «سباليتي» كانوا خير سند. ميزة أن تلعب لأسرة لا لنادي.
السجين السعيد
أعتز بصورتي مع «روي كين»، قدوتي وملهمي لرقم 16، قائد الشياطين هو اللاعب الوحيد الذي طلبت صورة معه كان قد عبر لي لاحقًا عن اهتمام «مويس» بضمي ثم عن اقتراب «مورينهو» من «مان يونايتد» وهو المدرب الذي حاول ضمي مرتين سابقتين.
ابتسم حين أتذكر مكالمتي الطويلة مع «جوزيه» أثناء ولايته الثانية مع البلوز، كان رفضي لمفاوضات الانتقال للمارينجي لا تزال بذاكرته، فكان أن حاول إقناعي منطقيًا بضرورة الرحيل عن العاصمة بنقطة زمنية معينة.
قال لي، تعرف «دانييلي» للحظ مساحة لا بأس بها بكرة القدم وما حولها، دعنا نكون صرحاء أنت لاعب سيء الحظ بالرغم من إمكانياتك المبهرة، تأخر انضمامك شهور معدودة عن الفوز بالإسكوديتو، لن يتذكر أحد هدفك الخرافي بـ «مان يونايتد» لأن شباكك اهتزت سبعة مرات، أو حتى أهدافك الصاروخية بالسيري لأنك لم تفز بها.
لن يلتفت أحد للكرات الطولية الرائعة التي تتميز بها لصناعة اللعب لأن «باتيستوتا» لم يعد موجودًا!
أدرك تمامًا حسن تمركزك بمنطقة جزاءك وبالهجمات المرتدة وأعرف كم مرة أفسدت على خصمك هجمته لكن لن ينتبه الكثير،
حتى الإعلام لا ينصفك، سيذكرون فقط الكارت الأحمر الذي حصلت عليه بالمونديال ثم يسارعون بالحكم عن مدى انحطاط روحك الرياضة لكنهم سيتناسون اعتذارك للخصم مرات بجانب كل تصريحاتك المساندة لـخصمك «بوفون» وخط دفاعه، بالطبع سينسون إلغاء الحكم لهدفك بلمسة اليد بعد أن أخبرته بنفسك!
ربما يلصقون بك تهمة العنصرية بعد ركل «توتي» لـ«بالوتيلي» ولن تجد كثيرين يتذكرون صداقتك بالأخير أو مشاركتك بمؤتمر في «ميلانو» دعمًا لـ«ماريو» أو حتى موافقتك على تهور «برانديلي» وقت أن هدد بالانسحاب من يورو 2012 إذا تعرض «ماريو» لهتافات عنصرية.
حتى مع «كونتي»، لم يلحظ أحد قوة تأثيرك ودورك الحيوي إلا عندما غبت عن مباراة «ألمانيا» باليورو الأخير، وكأن عقد إيطاليا انفك بغيابك عن وسط ملعبهم، أذكر الضغط الكثيف الذي بناه «لوف» على خط دفاع الطليان حتى أخطئوا!
الدنيا لا تهتم بالعدل، صحيح أنك تقوم بكل أدوار لاعب وسط الملعب أو صانع اللعب المتأخر لكن قليلون من سيذكروك بجانب «لامبارد» و«بيرلو»، لماذا؟ لأن أهم ما يميزك التفاني، ليست العملة التي تلقي رواجًا، أدعوك لـ«تشيلسي» لكي تترك بصمة تليق بما بموهبتك.
ما لم يفهمه «مورينهو» هو أنني تخليت منذ زمن عن نظرة الناس، الإعلام، التقييمات، مضاعفة راتبي، أخبار الانتقالات، ليس لأني ملّاك، بالطبع فكرت بالرحيل عن روما، لكني هنا لثقتي عن قدرتي بتقديم أفضل ما أمتلك فقط بزيّ الجيالوروسي، أنا هنا لأن الموسيقار العظيم «إنيو موريكوني» وعدني بقيادة الأوركيسترا الخاصة به ليعزف لي منفردًا بحال الفوز بالإسكوديتو، أي مكافأة أفضل؟!
دائرة ملعب الذئاب هي دافعي الوحيد بالحياة لمواصلة طريق لست متأكد من مكافأة بنهايته، لكني متأكد من صحة قراري رغم وعورة الطريق.
صحيح أني تجاوزت الثالثة والثلاثين وما زالت أهم ألقابي «كابتن المستقبل» إلا أني تأقلمت ورضيت بموقعي، رجل ثانٍ أو ظل للملك بقلعة أحفظ أركانها خير لي من أن أكون ملكًا يشعر بالاغتراب. صحيح أن العدل ينعدم أحيانًا عن الدنيا، لكن الحياة اختيار، اختياري أن أكون أسعد سجين بهذا العالم، أن أستمد طاقة مواصلة مسيرتي كلما تراجع أدائي بذكريات حلم مراهقتي، أشكرك لاهتمامك، كما سأشكر السيد «مانسيني» على اهتمامه بضمي لـ«مان سيتي»، لكني مقيد مرتبط دومًا بالأوليمبكو، رغم ساعته!