دي لويس: روح «ستانسلافسكي» تطارد المتقمص الأكثر جنونًا
عاش المخرج الروسي ستانيسلافسكي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ووضع خلال تلك الفترة منهجه لإعداد الممثل، الذي قام من خلاله باكتشاف فن التمثيل، حيث قام ببناء شخصية الممثل من الداخل إلى الخارج ليكون أساس منهجه المعايشة والتقمص؛ أي أن يقوم الممثل برسم دقيق لدوره التمثيلي من حيث الأهداف والدوافع وما إلى ذلك حتى يصل إلى الاستيعاب الكامل ويقوم بمعايشة كل ما توصل إليه، من ثم يتوصل إلى نتائج واقعية، فتحدث عملية خلق وميلاد شخصية جديدة بداخل شخصية الممثل الحقيقية.
ويعد ذلك بمثابة اكتشاف، حيث سار عليه العديد من الممثلين الموهوبين بدون وعي بتلك النظرية، وبعد وفاة ستانيسلافسكي بسنوات عديدة ظهر في ثمانينات القرن العشرين تجسيد المنهج.
المتقمص الأكثر جنونًا، الأقل أعمالًا
دانيال دي لويس، ممثل بريطاني ولد عام 1957، أما عن ظهوره على الساحة الفنية فبدأ منذ عام 1971 في فيلم «Sunday bloody Sunday»، في لقطة لا تتعدى الخمس عشرة ثانية، وفي بداية الثمانينات بدأت أدواره تتجه نحو الوضوح، ففي عام 1982 وصل إلى درجة ممثل مساعد في فيلم «The Bounty»، ثم اتجه بمسيرته من الوضوح إلى إثبات الذات والبطولة المطلقة عام 1989 في فيلم «My Left Foot»، وكان هذا الفيلم بمثابة أول أهم محطة في حياة دي لويس.
أما المحطة التالية فكانت «Gangs Of New York» والذي شاركه بطولته ليوناردو دي كابريو، ثم المحطة الأكثر تأثيرًا في تاريخ السينما وتاريخه الشخصي «There Will Be Blood»، ثم أتت المحطة ما قبل الأخيرة لكنها الأخيرة في القوة المطلقة لبطولته وهي «Lincolon»، أما المحطة الأخيرة هي أقلهم قوة لكنها وللأسف النهاية ولذلك وجب ذكرها.
دائمًا ما يسير القطار بين محطات كبيرة الأهمية تتوسطها محطات تثقل أهمية غيرها، وتكون بمثابة الهوامش التي تسلط الضوء على المركز، أول تلك المحطات الباهتة قليلًا كان «In The Name Of The Father»، عاش دي لويس في كواليس تحضيره للفيلم الكثير من الوقت داخل إحدى الزنازين وفقد أثناء التحضيرات الكثير من الوزن، وفضّل أثناء تصوير الفيلم أن يتفاعل الحراس معه بشكل حقيقي فيسكبون عليه الماء البارد ويسبونه ليكون تفاعله معهم هو الآخر واقعيًا، وتم ترشيحه للأوسكار عن هذا الدور.
أما فيلم «the age of innocence» والذي تدور أحداثه عن فترة القرن التاسع عشر جعلته يرتدي ملابس تلك الحقبة الزمنية ويسير بها في الشوارع لمدة شهرين حتى يشعر بالألفة مع الحياة التي سيحياها داخل الفيلم، وجدير بالذكر أيضًا حياته في الغابة وتعلم الصيد وصناعة القوارب وسلخ جلود الحيوانات ليدخل عالم شخصيته في فيلم «The Last Of The Mohicans».
أبرز أدواره في أعماله الفنية
1. كريستي براون
يرتبط اسم دي لويس في ذهن البعض باسم الكاتب والرسام كريستي براون والذي سجل لويس من خلال اسمه أول وأقوى أدواره السينمائية، وأول جائزة أوسكار في تاريخه، وفاز عنه أيضًا بجائزة الأكاديمية البريطانية «بافتا»، كان ذلك في فيلم «Left Foot» الذي يدور حول سيرة حياة كريستي براون منذ طفولته وميلاده بالشلل الدماغي، الذي جعل منه دمية يحركها الناس، إلا قدمه اليسرى، التي يبدأ في استغلالها في الرسم والكتابة ليسجل نجاحًا عظيمًا متغلبًا على إعاقته الجسدية.
يقوم ببطولة الفيلم دانيال دي لويس والذي يستعد له بطريقته المعتادة، يتعلم الرسم بالقدم اليسرى في أحد مراكز التأهيل لذوي الإعاقة، ويبدأ في استخدام الكرسي المتحرك أثناء التحضيرات في الكواليس وحتى أوقات الراحة، يتدرب على التشنجات ونبرة الصوت الناتجة عن شلل الفم حتى أدق تفاصيل نظرة الابتسامة، ليجعل من الفيلم لوحة فنية يسطر من خلالها أول سطور تاريخه المميز.
بطبيعة الحال إذا سمعنا عن فيلم يسرد قصة حياة فنان مشلول يجلس على كرسي متحرك لا يستطيع أن يتحرك سوى من خلال قدمه اليسرى، سيجعلنا نتنبأ بفيلم يشوبه الملل والأسلوب السوداوي الذي يتحول لإيجابية وهكذا. لكن بعد المشاهدة نندهش من فرط الحياة داخل الفيلم وسرعة الأحداث وكسر الملل عن طريق التقمص الكامل للشخصية بألمها وأملها، حزنها وسعادتها، لحظات اليأس والانكسار تليها القوة والإصرار، وأهم ما جسده دي لويس وفاء كريستي براون لأمه أكثر من جميع إخوته.
الفيلم من إخراج جيم شيريدن الذي له الكثير من الفضل في خروج تلك اللوحة الفنية المميزة.
2. بيل الجزار
على عكس المشاعر الطيبة في «Left Foot»، بث دي لويس في دواخلنا مشاعر الكره والضغينة تجاهه في فيلم «Gangs Of New York»، والذي تدور أحداثه في منتصف القرن التاسع عشر في مدينة نيويورك، وهو من نوعية أفلام الدراما التاريخية، والذي قام فيه ببطولة مشتركة مع ليوناردو دي كابريو الذي عاد لينتقم لوالده من بيل الجزار، الذي قتل والده قديمًا أمام أعينه، ولكن عند عودته يكتشف سيطرة بيل على كل من حوله وأن الجميع يخشاه، وعلى عكس السيناريو المتوقع يغمر بيل أمستردام ابن غريمه بالحب ويتبناه بشكل كامل ويعلمه أصول الجزارة، ومن هو العدو ومن هو الحبيب، ونصل إلى الذروة عندما يعلم بيل أن أمستردام ابن الكاهن فالون الذي أفلته قديمًا احترامًا لأبيه.
قام دي لويس بالاستعداد لأداء دوره في الفيلم عن طريق التعلم على يدي جزار، ونجح في الفيلم بجدارة في الانتقال من الحب للضغينة والانتقام من أمستردام، وكان هذا الفيلم ثالث ترشيحاته لجائزة الأوسكار لكنه لم يحصل عليها. أخرج الفيلم مارتن سكورسيزي الذي استطاع أن يعيد دي لويس بعد غياب خمسة أعوام.
3. دانيل بيلينفو
من هذا الاسم سطر دي لويس ثاني أهم سطور تاريخه في البطولة المطلقة في فيلمه العظيم «There Will Be Blood»، والذي تدور أحداثه في القرن التاسع عشر حول بدايات التنقيب عن البترول، وتحديدًا المنقّب دانيل الذي لا يأبه سوى بالمال حتى ولو كان في مقابل إسالة الدماء، وهو دور يذكرنا قليلًا ببيل الجزار في قسوته، لكن هنا دانيل رجل عملي لا يهتم سوى باستخراج النفط والمادة والعقلانيات فقط، لا وجود للإله أو الكنيسة أو الزواج والأطفال، تفرض عليه العاطفة عندما يموت أحد زملائه فيضطر أن يعتني بابنه لتنشأ لديه العاطفة القوية، ويعتبره ابنه الذي أنجبه بدون زواج، لكن بجانب العاطفة تسيطر القسوة، فهو يستغل الفقراء ليحصل على أراضيهم والحفر أقلها بحثًا عن النفط إلى أن يصل به الأمر حد الجنون، يعتقد أن كل من حوله يريد به غدرًا حتى ابنه الذي رباه طويلًا ينقلب عليه لمجرد إرادته في الاستقلال، لينتهي به الأمر وحيدًا.
تعد قصة الفيلم خالية من الأحداث القوية أو التصاعدات، فعندما تكرر رؤيته ستشعر بشيء من الملل، إلا أن بطولة الفيلم تعود لتمثيل دي لويس الذي جسد مشاعر الحب البسيطة بشكل قوي، مزج فيها بين الجفاء والعاطفة، بأدائه جعل الفيلم يحمل مشاهد حفرت تاريخًا خاصًا به في عالم السينما، (فنجد في إحدى لقطات الفيلم صرخة في مشهد مواجهته لابنه تصدم المشاهد، بعد الحب القوي بين الأب وابنه، تذكرنا بصرخة ماريون في فيلم «PSYCHO» التي اعتبرها البعض من كلاسيكيات عالم السينما).
الفيلم من إخراج بول توماس أندرسون، وحصل دي لويس على دوره فيه على أكبر عدد جوائز عن دور واحد، أهمها جائزة الأوسكار، الجولدن جلوب، جائزة الأكاديمية البريطانية (بافتا)، جائزة النقاد وجائزة نقابة ممثلي الشاشة.
4. إبراهام لينكولن
آخر أهم المحطات في حياة دي لويس والتي جاءت في عام 2012 لتوثق آخر فترة في حياة الرئيس الأمريكي الأشهر «Lincolon»، وهي أهم الفترات في تاريخ أمريكا بشكل عام، حيث إصدار قانون إلغاء العبودية وإنهاء الحرب الأهلية في أمريكا، لم يسرد الفيلم تفاصيل حياة لينكولن من الصغر، لكنه اعتمد على فترة من خلالها تم رسم شخصية هذا البطل صاحب الشعبية السوداء.
مرة أخرى يؤكد دي لويس أن حيوية أداء الممثل من الممكن أن تجعل من الفيلم لوحة فنية، فهذه المرة الثانية التي يجسد فيها شخصية حقيقية إلا أنه جسد لحظات التوتر والقلق، جعلنا نشعر بنبض لينكولن عن قرب، وعن تجهيزه للشخصية أخذ عامًا كاملًا يقرأ أكثر من مائة كتاب عن تلك الشخصية، غيّر من نبرة صوته ولهجته، جلس الكثير من الوقت مع خبراء المكياج ليصل إلى شكل ملامح لينكولن بالتفصيل، فجعلنا نرى لينكولن يعود إلى الحياة مرة أخرى على يديه.
الفيلم من إخراج ستيفن سبيلبرج الذي أضاف إلى عظمة الشخصية والتمثيل عظمة الإخراج. حصد دي لويس عن هذا الفيلم آخر أوسكار له كما حصد العديد من الجوائز مثل البافتا، ثم أخذ بعد الفيلم راحة طويلة لعدم قدرته على التقمص بنفس القوة.
5. رينولدز
على الرغم من عدم امتلاك تلك المحطة لنفس قوة سابقيها إلا أنها امتلكت الاختلاف والنهاية السعيدة التي أتى بعدها اعتزاله عام 2017، بعد الانتهاء من فيلم «Phantom Thread».
كل ما ذكرناه عن أفلام دي لويس وتحضيراته يبرر ما ورد ذكره عنه بالمتقمص الأكثر جنونًا، هذا الذي من فَرْط تقمصه فَقَد علاقته بخشبة المسرح للأبد عندما انهار أثناء تأدية دور هاملت لتخيله شبح والده المتوفى! هذا الذي أثبت أن التمثيل منهج وفن صعب المراس، وأن كيفية الأداء أهم من تعدد الأعمال، فلم تتخطّ أفلامه العشرين فيلمًا إلا أن اسمه نقش بحروف من ذهب وسط أكبر فناني العالم، النجم صاحب الشهرة الضئيلة إلا أنه صاحب الخمسة ترشيحات للأوسكار، والتي فاز منها بثلاثة فعليًا، هو التجسيد الأوضح لنظرية ستانيسلافسكي عن منهجية التمثيل، كل من قام بقراءة منهج ستانيسلافسكي أو قام بدراسته بشكل نظري لن يشعر بقوة وأهمية هذا الاكتشاف إلا إذا رأى تجسيدًا كهذا على أرض الواقع.