دميان: أيكون كل خطأ شرًّا؟
ولد «هرمان هسه» في ألمانيا عام 1877 لأسرة مفرطة في الالتزام، كان هرمان متمردا بطبيعته، يميل إلى الخيال، ويتمسك بكل فكرة راودته، ويكون لنفسه عالما خاصا به، يتفق وميوله. وقد تمرد أول ما تمرد على البيت وجوه الصارم، ثم تمرد بعد ذلك على المدرسة، فكانت في نظره هي العدو الذي يهجم عليه ويريد أن يفسد عليه حياته وموهبته. كان يريد أن يندمج في الطبيعة وأن يندمج في كائناتها ليفهم حديث الزهور والحشرات والفراشات، ويتأمل الشجرة وهي تنمو والحيوان وهو يكبر ويعيش الطبيعة.
بدأ هرمان يعالج الشعر، وقد كتب عن ذلك يقول: «لقد تبينت بوضوح عندما بلغت الثالثة عشرة من عمري أنني أما أن أصبح شاعرا أديبا أو لا أصبح شيئا على الإطلاق». جعلت المادية المفرطة هرمان يشعر بالعزلة ورفض الدين، رفض التقاليد، رفض الدنيا. واندلعت الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها هرمان حيث أصيب بصدمة نفسية عظيمة اضطرته إلى تلقي العلاج النفسي والذي كان سبب لقائه بـ«كارل يونج» شخصيا، عالم النفس السويسري الشهير، ومؤسس علم النفس التحليلي.
وفي تلك الفترة، خلال ثلاثة أسابيع في شهري سبتمبر/أيلول، وأكتوبر/تشرين الأول من العام 1917، كتب هيسه روايته الشهيرة «دميان» والتي نشرت في عام 1919 بعد الهدنة وانتهاء الحرب تحت الاسم المستعار «إميل زنكلير». رواية دميان رددت تطلعات جيل يسعى إلى إيجاد مخرج من التقييد، والمادية، والتسلط، وغياب القيم والمثل. وهي انعكاس لتجربة الكاتب نفسه في البحث عن ذاته وحريته لا تقيده قيود وتقاليد واستبداد ذلك المجتمع.
تبدأ الرواية على لسان البطل «سنكلير» وهو يقص علينا قصة طفولته، يحكي عن رؤية العالم بالنسبة للطفل.. رؤية الأبيض والأسود.. الخير والشر فقط:
ولكن لم يبق الشر بعيدا عن سنكلير طويلا، فاختلط سريعا مع بعض الأطفال الأشرار، تورط معهم دونما رغبة تذكر، واضطره ذلك إلى الكذب لينال استحسان أصدقائه «فالناس في العالم الآخر ليسوا مثلنا؛ لا يخافون من الكذب أو الوشاية». اضطر إلى السرقة وخداع أهله. كان منزل أهله وحضن أمه قبل ذلك هو السكن والخلاص دوما مما يراه في الخارج، ولكن الآن، صار يحمل أسراره إلى داخل المنزل «عشت معذبا وكأنني شبح وسط ذلك السلام المنظم في البيت».
تعود إليه صورة قبعة والده، ومظلة والدته، والصورة الكبيرة المعلقة فوق الصالون، وصوت أخته الصافي، ليذكره كل ذلك بالطهارة والنقاء والراحة وعدم الخوف. تلك الأشياء التي كان يعيش فيها قبل أن يرتكب خطيئته تلك، وقبل أن تصبح لديه أسرار يخاف أن تتكشف لأهله. راوده لأول مره إحساس الموت، الموت الذي هو الخوف من الغد والاغتراب عن الواقع المحيط والانفصال عن المشاعر؛
«أريد أن تنشق الأرض وتبتلعني، لقد تدمرت حياتي. لن استطيع إخبارهم بشيء؛ لقد أصبحت منتميا كلية لعالم الاشرار».
وباستمرار تورطه في الأخطاء، بدأت تتغير نظرته لمن حوله؛ فعندما وجد والده يوبخه على عدم نظافة حذائه، راوده شعور حينئذ باحتقار جهل والده.
«أهذا ما يشغلك.. آه لو كنت تعرف.. ربما تم إبلاغ الشرطة عني الآن. وأنتم مازلتم تعتبرونني طفلا لا ينظف حذائه».
كان إحساسا ممتعا، وبدأت عند ذلك تتصدع لديه صورة أبيه الشاملة.
ماكس دميان.. ما وراء الخير والشر
ويظهر دميان فجأة في حياته، ذلك الفتى المنسجم تماما مع نفسه صاحب الشخصية الناضجة الواثق من نفسه، يظهر لينتشل سنكلير من ورطته الأخلاقية. ولكنه بدأ في زراعة أفكار جديدة في عقله، حدثه عن قصة قابيل وهابيل والتي تمثل كلا العالمين؛ عالم الخير والشر. كان لدميان منظور جديد للقصة؛ منظور آخر للشر وللتفريق بين النور والظلام غير الذي تربى عليه سنكلير.
وهنا بدأ التلاعب الفكري بسنكلير بعد كل التلاعب الأخلاقي الذي مر به، وبدأ ينسلخ تماما من رداء طفولته، فالانحدار إلى العالم المظلم قد لا يكون شرا بتلك الدرجة التي كان يعتقدها قبل ملاقاة دميان.
إلا أن سنكلير لم تكن لديه الشجاعة للاقتناع بذلك «فالشر يحتاج إلى شجاعة»، فعاد إلى أحضان والديه عودة الابن الضال، عاد ليغني أغانيه الحبيبة القديمة وصار هابيل مرة اخرى. وتهرب من جريرة ما فعل سابقا، فألقى بالجريرة على القدر: «لقد كنت بين يدي القدر وكان من العبث أن أحاول الفرار».
البلوغ
بدأت فورة البلوغ تثير في نفسه الرغبة ولم يجد من يرشده، فكان يحضر دروس التثبيت الديني الجميلة والتقية، ولكنها كانت بعيدة تماما عما يفكر فيه. فبدأت تظهر بعض التشققات في إيمانه بسبب ذلك، وبسبب ما تعلمه من دميان من تفسير العقائد الجامدة بحرية وبشكل فردي، ولكنه كان يختلف اختلافا كبيرا مع زملائه الملحدين، فهو جرب حياة التقوى وعلم أنها ليست عديمة القيمة وليست منافقة كما يقولون.
ويستمر دميان في التلاعب بكل ما هو مقدس في عقله فيقول:
وبين الدوران والبحث عن حقيقة المسموح والممنوع وكيفية التفريق بينهما كما التفريق بين عالمي الخير والشر، عالمي النور والظلام، وطبيعة التعبير عن مشاعر كل منهما دون خوف، حاول دميان حث سنكلير على وضع قوانينه الخاصة بما هو مسموح وما هو ممنوع وصنع قناعات الخطأ والصواب الخاصة به.
بعد ذلك تم إرسال سنكلير الى المدرسة داخلية وابتعد لأول مرة عن والديه، وأصبحت الأشياء التي لم يكن يعتقد أنها ممكنة من شرور ومفاسد وأخطاء؛ أصبحت أمورا يومية مألوفة طبيعية يفعلها الجميع. وبدأ عند ذلك مشوار العربدة بعدما أحس بالامبالاة لكل ما حوله وبالغربة وبالخواء الروحي، لم يعد يهتم بشيء. يقول بعد أول مرة تناول فيها الخمر:
ولم يتوقف بل استمر حتى صارت له سمعة الزميل الشيطاني، وفي داخله لم يتوقف قط عن الحزن والبكاء كلما رأى أطفالا، بشعور مصففة وأحذية ملمعة، يلعبون والسعادة الحقيقية تقفز من وجوههم. وكلما عادت إليه صور حديقة منزله، وقبلات أمه، وهدايا أعياد الميلاد، وصباحات الأحد المقدسة، لم يتوقف عن الشعور بالوحدة رغم إحاطة زملائه به:
وحدث في تلك الأثناء أن مرت فتاة أمامه سريعا ولكنها مكثت في خياله فترة طويلة، أعطاها اسم فتاة رآها في لوحة من لوحات رافائيل كانت تشبهها. لم يتحدث معها ولكن صورتها الماكثة في خياله حولته إلى عابد في معبد الحب، عاد إلى القراءة وإلى السير وحيدا، توقف عن الذهاب للحانات: «وبتكريس نفسي لها كنت أكرس نفسي للروح وللإله، لم يكن هدفي الغبطة بل الطهارة، لم يكن السعادة بل الجمال والروحانية».
وبدأ يجمع ألوانا ليحاول رسم صورتها بنفسه، رسم أشجارا وأزهارا وأطفالا تلعب، ولكنه لم يتمكن من رسم صورتها. ظل يحاول حتى وصل إلى وجه أقرب ما يكون إلى نفسه، تبين له فيما بعد أنه وجه دميان. عرف أن تلك الصورة إنما تعبر عن نفسه وعما يرغب فيه، فإن أراد صديقا فسيكون على صورة دميان، وإن أراد زوجة لن تختلف شخصيتها عن شخصية دميان. فمن عرف نفسه تمكن من اختيار صديق وزوجه يوافقان مكنوناته التي تظهرها الحياة والمستقبل.
وبدأ التحول إلى دميان
وصلت إليه رسالة من دميان تخبره عن الإله الذي يجب أن يؤمنوا به. كان اسمه «أبراكساس» وهو إله كان يقال أنه إله مصري كما اعتبر شيطانًا. ويُعتقد أن أبراكساس يُمثل أيضًا الرب والشيطان في طبيعة مزدوجة (أي قمة الشر وقمة الخير في كائن واحد). وكان هذا ما يبحثون عنه بعدما سخطوا على الدين الحالي «كل دين جميل. الدين هو الروح سواء انخرطت في جماعة مسيحية أو قمت بالحج إلى مكة. ولكن الدين الآن يمارس كما أنه شيء آخر. مجرد تأدية واجب والتأكد من عدم تضييع شيء».
مارس سنكلير في تلك الفترة رياضة التأمل، وتعلم الوصول إلى تلك الحالة التي تزال فيها الحواجز بين الانطباعات الداخلية وما يسقط على أعيننا، حينما تتلاشي الحدود التي تفصلنا عن الطبيعة ويتولد فينا شعور بالتناغم مع القوة المسئولة عن تلك الظواهر الطبيعية.
رأى «هسه» قيمة الإنسان تلك تزول في الحرب العالمية الأولى، فالناس يتم إطلاق النار عليهم بالجملة، ما الذي يجعل حياة كل إنسان هامة ومقدسة وذات قيمة طالما أنها لا تساوي سوى رصاصة واحدة؟! فكل إنسان كان في نظره يمثل نقطة فريدة متميزة تتشابك عندها ظواهر العالم، الأمر الذي يحدث مرة واحدة بتلك الطريق مع ذلك الشخص ولا يحدث بعدها أبدا.
وتأتي محاضرة يلقيها هسه على لسان دميان يعبر فيها عن سخطه من انهيار المثل والقيم يقول فيها:
وقابل في تلك الفترة دميان مرة أخرى الذي أخذه لملاقاة والدته، والتي وجد عندها كل ما كان يبحث عنه. كانت تمثل الطبيعة والحياة والأم، ليليث، التي تلتقى عندها الأضداد. انتهت القصة وسنكلير ينظر في المرآة ليجدها تعكس كل ما كان في نفسه. انتهت باكتشافه ذاته بعيدا عن كل القيود وتمكن أخيرا من العيش «وفق الدوافع التي تنبت من نفسه الحقيقة» لا من أفكار القطيع.