دمشق: قصة احتضار عاصمة عربية
عبر الأزمان المتطاولة تربت أجيال فارسية على انتظار الثأر للحسين من الأمويين وأحفادهم على يد المهدي، إلى أن ظهر التيار الشيعي الحركي في إيران فرفض فكرة الانتظار، وظهر التجلي الأكثر تشددًا لهذا التيار في نظرية ولاية الفقيه لروح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإيرانية، التي تؤمن بإقامة المشروع السياسي الديني دون تأجيل، وبالتالي ضرورة الثأر للحسين دون انتظار المهدي.
وعلى هذا الأساس انبنى مشروع تصدير الثورة الإيرانية للخارج، وشهدت العراق مجازر طائفية مروعة تمت فيها إبادة وتهجير الملايين من أهل السنة على أيدي فرق الموت والميليشيات الطائفية، لكن بجانب الدوافع المذهبية العامة فقد ظلت دمشق تحديدًا يُنظر إليها باعتبارها العاصمة التاريخية للنواصب (من ناصبوا آل البيت العداء)، والمكان الذي حُملت إليه رأس الحسين -وفق روايات مذهبية معينة-، وسِيقت إليه نساء آل البيت الهاشمي كسبايا، وغير ذلك من الروايات التي طالما رددتها الحناجر في اللطميات الجماعية الحزينة ومآتم الحسينيات ومواكب العزاء، فكان مسمى «الشام» الذي يُطلق على دمشق لا يذكر إلا باعتباره مكانًا للظلم والطغيان.
ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الأسد عام 2011، اشتعلت وتيرة الشحن الطائفي لأقصى درجة وتم حشد عشرات الآلاف من دول عديدة تحت لافتة الدفاع عن ضريح السيدة زينب ومقامات آل البيت، وتحويل الشعار الشهير «يا لثارات الحسين» إلى واقع عملي، والظفر بعاصمة الأمويين التي لطالما حلموا بالتشفي منها ومنهم دون أن يستثنوا حتى الخليفة عمر بن عبدالعزيز فتم نبش قبره عام 2020، رغم أنه أوقف الشحناء بين بني أمية وبني هاشم، وقرب منه محمّد الباقر الذي يعتبره الشيعة خامس أئمتهم المعصومين.
ومَثَّل الضريح الزينبي – أو ما أطلق عليه «الحوزة الزينبية» واعتبره بعض الشيعة ثالث أهم حوزة شيعية في العالم بعد النجف وقُم – نقطة تمركز هذا المشروع المذهبي، رغم أن الروايات التاريخية الثابتة تنفي نسبة الضريح للسيدة زينب أخت الحسين، رضي الله عنه، والمفارقة أن الأرجح تاريخيًا نسبته لزينب إحدى جواري يزيد بن معاوية، الذي قتل جيشُه الحسين!
فعمد الحرس الثوري وميليشيا زينبيون الباكستانية الشيعية إلى تهجير سكان العاصمة السورية بشكل ممنهج لتحويلها إلى مدينة شيعية، وتم جلب أعداد هائلة من شيعة إيران والعراق وأفغانستان وباكستان والعراق وتم منحهم الجنسية السورية وإهداؤهم بيوت وأملاك السكان الأصليين وفقًا للقانون رقم 10 لسنة 2018 الصادر عن نظام الأسد، وتحولت منطقة السيدة زينب إلى منطقة شبيهة بالضاحية الجنوبية معقل حزب الله في بيروت، ومنها بدأ التوسع لما حولها وطرد سكانها منها، وفي عام 2018 رفعت الميليشيات الإيرانية «راية الثأر الحمراء» على الضريح المنسوب للسيدة زينب.
وتوسعت طهران في عمليات إضفاء القداسة على أماكن جديدة بغرض تبرير الشحن الطائفي وشرعنة وجودها في دمشق ومحيطها؛ ففي بلدة داريا قرب دمشق شيد الإيرانيون بناءً كبيرًا على أحد القبور القديمة، زاعمين أنه قبر السيدة سكينة بنت الحسين -رضي الله عنه- رغم أنه من المعروف تاريخيًا أنها لم تُدفن هناك، وقام الإيرانيون بشراء المكان المحيط بالقبر، وبدأ الزوار الشيعة من الخارج يتوافدون بأعداد كبيرة للحج إلى هذا الضريح الذي تم اعتباره مقدسًا، وهكذا تحول طابع المدينة تمامًا.
وأصبحت دمشق مسرحًا للمواكب العسكرية الاستعراضية للميليشيات الإيرانية المسلحة، وصارت المدينة تتشح بالسواد ومواكب اللطم والتطبير (ضرب الجسم بآلات حادة أو ما شابه حتى يخرج الدم مواساةً للحسين) في يوم عاشوراء مثلاً بعد أن كان أهل المدينة يصنعون حلوى «العاشوراء» في هذا اليوم ويصومونه باعتباره ذكرى نجاة النبي موسى، عليه السلام، من فرعون.
وانتشرت الحسينيات، والمدارس التي تبث أفكار ولاية الفقيه، حيث ركزت إيران على تلقين الأطفال أفكارها وأيديولوجيتها، وفي عام 2014، أصدر الرئيس بشار الأسد مرسومًا بتدريس المذهب الشيعي في المدارس إلى جانب السني، وتم افتتاح أول مدرسة شيعية حكومية تحت اسم «الرسول الكبير» في العام نفسه، ولها فروع في مدن سورية عدة، وتم إنشاء كشافة المهدي في ذات العام، وهي تابعة لجمعية الإمام المهدي في منطقة السيدة زينب بتمويل من المركز الاستشاري الثقافي في دمشق.
وضمن مسلسل تغيير هوية المدينة، انطلقت عملية التزوير الممنهج لتاريخها، وترأست بثينة شعبان، مستشارة بشار، إحدى هذه المؤسسات أطلق عليها «مؤسسة وثيقة وطن»، وترأست ابنتها العراقية، ناهد، «مؤسسة تاريخ دمشق» بالتعاون مع السفارة الإيرانية، حيث تم الاستيلاء على كنوز لا تقدر بثمن من المخطوطات والقطع الأثرية تحت مسميات خادعة لإعادة كتابة تاريخ الشام من جديد.
دمشق «الفارسية»
بدءًا من المقام الزينبي الكبير المشيد على الطّراز الفارسيّ، تبدو عاصمة الأمويين وكأنها تتحول إلى مدينة فارسية غريبة عن محيطها العربي وحتى غريبة عن ذاتها وتاريخها، فشوارعها صارت حرامًا على أهلها حلالًا على الغزاة من كل جنس؛ فبحجة زيارة «العتبات المقدسة» صارت شوارع دمشق تعج بالمجموعات الطائفية من الزوار وأضعافهم ممن سكنوها بحق الغزو وهم لا يفقهون لسانها ولا تربطهم أي آصرة بأهلها وأرضها.
وفي الوقت الذي يعتقل فيه النظام السوري المواطنين العائدين إلى وطنهم ويفرض عليهم دفع مبلغ مالي بالدولار كشرط للعودة إلى ديارهم، أصدر قرارًا في السابع عشر من يوليو/تموز الجاري، يُعفي الزوار الإيرانيين من الدفع بالدولار ويسمح لهم بالتعامل بالعملة المحلية.
وبالتوازي مع محاولة استقدام الشيعة لتجنيسهم، ونشر التشيع بين من تبقى من السكان، عملت طهران على «تفريس» الأقلية الشيعية المتناهية الصغر؛ عبر ربطها بمراجع إيرانيين وجعلهم تروسًا في ماكينة المشروع الإيراني من خلال ربط مصالحهم بها، وهو ما نجحت به إلى حد كبير رغم وجود معارضة من بعض أبناء الطائفة.
وتم إقرار «زواج المتعة» (زواج مؤقت بوقت محدد وفقًا للمذهب الشيعي الإثناعشري) بدعم من هيئة مقرها الرئيس في مدينة مشهد الإيرانية تُدعى «مؤسسة شريعتي الإسلامية» مدعومة من المركز الثقافي الإيراني بدمشق، تعاقدت مع عدة فنادق بالمدينة ومنطقة السيدة زينب، وبدأت العمل في سوريا بشكل علني مطلع عام 2020، وتعرض الجمعية صور الفتيات على الراغبين ليتم الاتفاق على قيمة الأجور التي تختلف من فتاة لأخرى باختلاف الشكل والأوصاف.
وتنشط الهيئة الاستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق بشكل كبير في تعليم اللغة الفارسية وتشرف على مراكز تعليم اللغة، وانتشرت تلك المراكز في الجامعات السورية وتم تعيين مدرسين إيرانيين بها يجيدون العربية والفارسية، يعملون من منطلق جهادي عقائدي، كما افتتحت إيران فروعًا لبعض جامعاتها في سوريا، مثل جامعتي «تربية مدرس» و«أزاد إسلامي» عام 2018، وجامعة المصطفى التي تعد أخطر مراكز نشر التشيع في العالم.
وقد أشار الكاتب والصحفي السوري، فراس علاوي، مؤلف كتاب «الصراع في سورية… حرب العقائد والجغرافيا»، إلى أن مدينة دمشق هدف للإيرانيين بشكل عام وبخاصة بعد الثورة الإيرانية عام 1979، فكانت هناك عملية محاولة لمد الجسور في المناطق التي تستطيع طهران التأثير بها سياسيًا وديموغرافيًا، وحاول الإيرانيون التوسع والتمدد داخل المجتمع السوري باستخدام أدوات ناعمة وأهمها المركز الثقافي والملحقية الثقافية الإيرانية بدمشق التي حاولت التأثير على المجتمع، وهناك عائلات أصولها كانت شيعية وتسننت ثم بعضها رجع إلى التشيع ولكنها نسب قليلة جدًا، لكن بالعموم عملية التشيع فشلت ونجح الدخول الاقتصادي والثقافي إلى دمشق.
وأضاف في تصريحات خاصة لـ«إضاءات» أن الذريعة الأساسية كانت وجود مراقد في مناطق السيدة زينب وداريا وفي مناطق أخرى من دمشق وفي محيط الجامع الأموي وهذا كان استقصاد لمنطقة الجامع الأموي بسبب رمزيته لأنه بني في العصر الأموي، واستخدمت إيران أدواتها الناعمة في التوسع وأقامت بؤرة استيطانية كاملة في السيدة زينب وتم توسيع المقام ضمن عملية محاولة تشييع المنطقة عبر مغريات مالية وغيرها كما سمح حافظ الأسد وبعده بشار الأسد لشيوخ الدين بإعطاء دروس ثم أصبح هناك حوزات ودروس دينية، ثم إدخال معاهد شرعية تابعة لإيران كل ذلك هو عملية تشييع، وتمت محاولات لاستقطاب شخصيات اجتماعية وشخصيات لها ثقل اجتماعي ومحاولات الإغراء بالأموال وشراء الأراضي وإن كانت النسبة الأغلب ترفض هذا الموضوع.
وتابع أنه بعد عام 2011 صار هناك تدخل مباشر لإيران وسيطرت على القرار السياسي بعد استلام بشار الأسد، واختلف الدور؛ فأيام حافظ الأسد كان هناك نوع من الندية والمصالح بين سوريا وإيران، لكن بعد استلام بشار الأسد أصبحت سوريا خاضعة بشكل كلي لإيران سياسيًا وعسكريًا، وتسبب التدخل الاقتصادي بزيادة أعداد الإيرانيين وزيادة استثماراتهم وبالتالي إنشاء قوى اقتصادية إضافة للقوى الدينية والاجتماعية التي كانت موجودة مع دخول العراقيين بعد حرب العراق ومعظمهم من الشيعة إلى دمشق كل ذلك أدى إلى زيادة النفوذ الإيراني بالمنطقة.
ولفت إلى أنه بعد عام 2011 أصبح هناك تدخل عسكري على الأرض وأصبح هناك سلطة حقيقية لإيران في دمشق ووسعت من نشاطها في المدينة وسيطرت الميليشيات على مناطق واسعة من دوما وحرستا وداريا، وتم تطوير المناطق التي كانت من قبل فيها جالية إيرانية أو نفوذ إيراني مثل السيدة زينب وتطوير بعض المساجد والمعاهد وأيضًا عقد اتفاقيات علمية بين الجامعات السورية وجامعات إيرانية وأنشأت بعض الجامعات أقسامًا في سوريا لتشييع المنطقة.
وأردف أن إيران منذ أعوام تقوم بشراء الأراضي في محيط دمشق والمناطق التاريخية والأثرية من أجل عمليات التغير الديموغرافي، وأيضًا أصبح هناك حوزات علمية تقوم بنشاطات دينية واضحة، وأصبحنا نرى اللطميات في شوارع دمشق ومسيرات عاشوراء وغيرها من الاحتفالات الدينية الخاصة بالشيعة الإيرانية مما غير واجهة المدينة، وأيضًا هناك محاولة للسيطرة على بعض المساجد في مناطق سيطرة الميليشيات الإيرانية وتحويلها من مساجد سنية إلى مساجد شيعية.
من جانبه أشار هيثم البدوي، الكاتب والباحث السياسي والاجتماعي السوري، إلى أن ضعف النظام العلوي بسوريا بعد الثورة دفعه لتعميق التحالف مع إيران، ما فتح لها الباب على مصراعيه لتغيير هوية دمشق السنية الأموية التي تظهر هويتها في مبانيها الأثرية، لذلك تفتعل إيران الحرائق لطمس هويتها التاريخية، وإعطاء دافع لبعض الأفراد للتوجه نحو التشيع لحماية عقاراتهم وأنفسهم من إيران بعد ترهيبهم بالحرائق.
وأضاف في تصريحات لـ«إضاءات» أن الحرائق المفتعلة تتبعها سيطرة إيرانية بسبب اضطرار الأهالي لبيع العقارات، أو بسبب القوانين التي تمنعهم من إعادة إعمارها ما يجعل المنطقة مفتوحة أمام إيران.