«الداليت» في الهند: منبوذون منذ الولادة
تشكل طبقة «الداليت» ما يقترب من ربع مليار نسمة سكان الهند، ويُطلق على أفراد الطائفة مسمى «المنبوذين» لأنهم يُنظر إليهم بازدراء من الهندوس ويُعاملون كأنهم أقل من الحيوانات الضالة التي تلقى تقديسًا مبالغًا فيه في تلك البلاد، ولا تسمح لهم التقاليد المتوارثة باستعمال المرافق العامة لأن لمسهم لأي شيء يتسبب بنجاسته وفقًا للمعتقدات القديمة، لذلك عادة ما تقتصر أعمالهم على تنظيف دورات المياه من النجاسات وجمع جثث الحيوانات النافقة، وجر العربات الخشبية بدلاً من الدواب. وتعني تسميتهم «الداليت» حرفيًا من لا يمكن لمسهم (untouchable).
وطبقًا لشريعة «مانو» الهندوسية ينقسم المجتمع إلى 4 طبقات، أعلاهم «البراهمة»، ويُعتقد أن لهم نسبًا إلهيًا، تليهم «الكشاتريا»، وهي طبقة المحاربين، ويوصفون بأنهم جاءوا من ذراعي الإله براهما، ثم «فايشيا» وهي طبقة التجار الذين يُعتقد أنهم جاءوا من الفخذ الإلهية، وتعتبر «الشودرا» طبقة العمال الذين جاءوا من قدمي براهما. ويوجد داخل تلك الفئات تقسيمات فرعية كثيرة قد تصل إلى الآلاف، أما الداليت فلا يشملهم هذا التقسيم أصلاً.
مذنبون بمجرد ولادتهم
ويبدأ هذا التمييز من اللحظات الأولى للولادة، ولا يدرك الأطفال المنبوذون في مقتبل عمرهم سبب تحقيرهم المستمر وكراهية الآخرين لهم والتفرقة في التعامل بينهم وبين زملائهم من الطبقات الأخرى، ثم شيئًا فشيئًا يدركون أن الجميع يعاملهم على أنهم أنجاس بطبيعتهم جاءوا إلى الدنيا ليُعاقبوا على آثام اقترفها آخرون ممن سبقوهم إلى هذه الدنيا طبقًا لعقيدة «تناسخ الأرواح» الهندوسية، ويسهم هذا التصور في إراحة ضمير الهندوس ونزع إحساس الشفقة منهم تجاه هؤلاء المساكين على اعتبار أن أرواحهم شريرة بطبعها ارتكبت جرائم وخطايا خلال حلولها في أجساد سابقة وتستحق العقاب على ذلك بالحلول في أجساد «الداليت».
ويستطيع أي شخص أن يعاقبهم على مخالفة التقليد الهندوسي دون أن يجد رادعًا من السلطات التي تتهاون كثيرًا في تطبيق القانون في مثل تلك الحالات، خاصة في ظل عهد حزب «بهاراتيا جاناتا» اليميني المتطرف، فعلى سبيل المثال قد تتعرض حفلات زفاف الداليت للهجوم الجماعي الوحشي إن ركب العريس حصانًا مزينًا خلال موكب الزفاف أو شغل أغاني على جهاز «دي جي» لأن تلك الأفعال قد توحي بأنه يتشبه بأسياده من الطبقات العليا، حتى أن سلطات إحدى المناطق الصغيرة في ولاية راجستان شمال غرب البلاد أطلقت في يناير/ كانون الثاني الماضي مبادرة تهدف إلى توفير حماية أمنية لأعراس «الداليت»، لكن ثبت أن ذلك لم يحل بينهم وبين التعرض لهجمات انتقامية لاحقًا.
وتكثر الجرائم والاعتداءات ضد الداليت بشكل لا يُوصف، ففي عام 2020 تم تسجيل ارتكاب جرائم ضد الداليت بمعدل واحدة كل 10 دقائق، وتتفشى حوادث الاغتصاب الوحشي لنسائهم، وأحيانًا يتم تكرار الاغتصاب الجماعي من نفس ذات الأشخاص، وأحيانًا ما يتم قتلهن خلال أو بعد تلك الوقائع بينما يُفلت مرتكبو هذه الجرائم من العقاب في كثير من الحالات.
أمبيدكار: معبود الداليت
خلال المعركة السلمية لاستقلال الهند ثارت خلافات عميقة بين الزعيم غاندي وأمبيدكار، زعيم الداليت، بسبب رفض الأول إعطاء قضية المنبوذين الأهمية التي تستحقها، لذلك أصر أمبيدكار على التعريف عن طائفته بمسمى «الداليت» التي تعني أنهم منبوذون في محاولة لإبراز المشكلة الأصلية، وتصادم مع غاندي بسبب اعتراضه على منح تمثيل سياسي مستقل للطائفة طبقًا لمقترح بريطاني صدر عام 1932، فرفض غاندي المقترح وأعلن الدخول في صيام حتى الموت وخضع أمبيدكار لهذا الابتزاز بعدما حصل على تمثيل أكبر لبني جنسه ضمن الإطار الهندوسي.
وبعد استقلال البلاد عام 1947 اختير أمبيدكار كأول وزير للقانون في الحكومة الجديدة وخلال ولايته صدر الدستور الوطني عام 1949، وقد بذل جهودًا كبيرة في صياغة الدستور، ونجح في تضمينه حظر التمييز الطبقي، وتم إقرار سياسة التمييز الإيجابي التي تضمن توفير التعليم وحصة من فرص العمل للداليت، لكن أمبيدكار استقال من منصبه في عام 1951، معلنًا فشله في إلغاء وضع المنبوذين بعد تأكده من أن تأثير التقاليد الدينية أقوى بكثير من مواد القانون، وفي عام 1956، ترك الديانة الهندوسية واعتنق البوذية مع نحو 200 ألف من طائفته خلال حفل كبير.
وفي عام 1955 صدر قانون حماية الحقوق المدنية الذي ينص على معاقبة من يمنع أي شخص من حقوقه الدينية والاجتماعية والمهنية على أساس طائفي، وتولى العديد من الداليت مناصب في الحكومة مع ازدياد خشية الهندوس من معدلات ارتداد المنبوذين وانضمامهم للأديان أخرى، وتولى كوشريل رامان نارايانان، رئاسة البلاد بين عامي 1997 و2002، ليصبح أول منبوذ يصل لهذا المنصب رغم أنه شرفي وليس له صلاحيات كبيرة، كما أن الرئيس الحالي، رام ناث كوفيند، من المنبوذين أيضًا، ومن اللافت أن حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتشدد هو الذي رشحه لهذا المنصب طمعًا في كسب أصوات طائفته في مناورة انتخابية وصفتها اعتبرت سونيا غاندى زعيمة حزب المؤتمر الوطني بأنها «صدمة أفكار».
ورغم بذل الأحزاب السياسية المختلفة جهودًا في التقرب من الداليت لكسب أصواتهم فإن الممارسة المجتمعية تقريبًا لم تتغير تجاههم، وما زالت الفوارق الطبقية راسخة بقوة في المجتمع خاصة في الأرياف.
واليوم تنتشر في أرجاء الهند تماثيل أمبيدكار، التي يؤدي الداليت أمامها طقوس العبادة، فيسجدون ويوقدون الشموع أمام صوره تقديسًا له ولجهوده في رفع شأن بني طبقته.
«الداليت» المسلمون
كمهرب من التمييز الطبقي الهندوسي، لجأ بعض الداليت لاعتناق الإسلام بحثًا عن المساواة، رغم أن المسلمين يواجهون أيضًا حملات اضطهاد ربما تفوق المنبوذين، لكن رغم ذلك فإن هؤلاء المسلمين الجدد يسعون إلى الانتماء إلى طائفة تحترم آدميتهم ويتخلون عن عقيدة أذلتهم وأهاليهم أمد الدهر.
وتمر إجراءات إشهار إسلام المنبوذين بتعقيدات روتينية وقد يصاحبها توترات أمنية؛ إذ أحيانًا ما يُتهم بعض المسلمين باختطافهم لإجبارهم على اعتناق الإسلام بالإكراه، وغالبًا ما يتعرض هؤلاء المسلمون الجدد للتحقير والسخرية باستمرار والاعتداءات العنيفة من الهندوس خاصة من الطبقات العليا عقابًا لهم على تغيير دينهم. وغني عن البيان أن الداليت المسلمين يواجهون أضعافًا مضاعفة من الاضطهاد إذ اجتمعت فيهم كل الأسباب التي تغري اليمين الهندوسي المتطرف باستهدافهم.