إيدي بإيدك ع الوادي ناكل تين وزوادي، عادت أفراح بلادي، والكرامة لبلادي، وهيهات يا بن العم

هذه الكلمات هي مطلع إحدى الأغاني المرافقة للدبكة الفلسطينية، والتي تحن إلى فلسطين قبل الهجرة وإلى الذكريات التي سلبها إياهم الاحتلال. فلطالما شكَّل التراث دليلًا على أصالة الشعوب والتحامها بأوطانها، وفي الحالة الفلسطينية امتاز ببُعد وطني ونضالي خاصة بعد عام 1948، حين اقتلع الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين من أرضهم وحاول أن ينفي عنهم هويتهم وتراثهم، فحرص الفلسطينيون على مدار ثمانية وستين عامًا على نقل تراثهم الشعبي من جيل لآخر لحمايته من الطمس والضياع، وإبقاء هويتهم الثقافية والوطنية حاضرة في العقول كما القلوب تمامًا.

تُعد الدبكة الشعبية الفلسطينية جزءً من تراث وذاكرة الشعب الفلسطيني؛ إذ تُشير إلى أصالته والتحامه بوطنه وامتداد جذوره فيه، وكانت في الماضي تُستخدم في المناسبات الاجتماعية والوطنية، حيث يبادر الشبان الذين يُجيدون أدائها إلى ممارستها لإشاعة جو من الفرح والحماسة بين الحاضرين، خاصة وأنه ترافقها أغاني تدل على المناسبة؛ ففي خمسينيات القرن الماضي كانت الأغاني المُصاحبة للدبكة تتعلق بالهجرة والنكبة وبطاقة التموين، ويقول مطلع إحدى الأغاني:

لأفديك بكرت التموين يا أم عيون دباحة واجعل في قليبي بنزين وعيونك قداحة

ومع بداية الثمانينيات بدأت الدبكة تأخذ شكلًا منظمًا بإيجاد العديد من التجارب التي كوّنت فرقاً استطاعت أن تضع الأسس الصحيحة للدبكة الشعبية، التي تُعبر عن حضارة الشعب الفلسطيني وتاريخه التليد، ونقله للمحافل الدولية العالمية.

أنواع الدبكة الفلسطينية

تتكون فرقة الدبكة من مجموعة لا تقل عن عشرة دبيكة وعازف اليرغول أو الشبابة والطبل، ولها أنواع متعددة أشهرها:

دبكة الكرادية أو الطيارة:

وتمتاز بسرعة إيقاعها وحركتها، وهذا النوع من الدبكة يفرض على من يزاولها اللياقة الفائقة بالإضافة إلى السعي لإيجاد حالة من التناغم والتجانس في الحركة مع أقرانه ليكونوا لوحة بديعة المشهد قوية الرسالة والتأثير.

دبكة الدلعونا:

وهي متوسطة الإيقاع، ومُتجددة في كلمات الأغاني باختلاف المناسبات، يكفي أن نبدأها بالقول «على دلعونا»، ونضيف ما نريد من كلمات وفقًا للمناسبة.

https://www.youtube.com/watch?v=0sM6AUXRzRU

دبكة زريف الطول:

يطغى عليها المديح والبحث عن مناقب البشر، وغالبًا ما تُستخدم في الغزَل خلال الأفراح والمناسبات الاجتماعية.

https://www.youtube.com/watch?v=cx37fsT2rOo

دبكة الدحِّيّة:

وهي خاصة بالبدو، وتعتمد على التصفيق بطريقة خاصة تسمى «تسحيجات»، يردد فيها المشاركون كلماتٍ قد لا يفهمها الآخرون.


مدلولات الحركات في الدبكة

تتسم الدبكة بحركات متنوعة تبدأ بدخول الراقصين إلى ساحة الدبكة متشابكي الأيدي للدلالة على عمق الوحدة والبقاء، يتلوها السير ببطء في اتجاه دائري كدليل على بداية الحياة، وتستمر بالقفز إلى الأعلى لتدل على الحيوية والنمو، ثم تعود إلى السير بهدوء على الأنغام الراقصة وإصدار أصوات وحركات وجدانية تُعيد الفلسطيني إلى جذوره الأولى وتدعم تلاحمه واستمراره في الصمود لبناء الوطن، فمثلًا السير الهادئ يؤكد على الاستعداد، بينما دق الكعب فيُشير إلى الثقة والاستعداد والصمود.وقد استطاعت الفرق الفنية الشعبية أن تؤدي دورها في التعريف بالتراث الفلسطيني ودحض كافة الآراء التي تُشير إلى أن الدبكة ذات جذور مغولية أو تركية أو صليبية.


دور الفرق الشعبية في حماية التراث

بعد التقدم التقني الذي داهم المجتمع الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي، كان التفكير في إنشاء فرق متخصصة في التراث الشعبي وبخاصة الدبكة، وشهدت فترة الثمانينيات قبل الانتفاضة نشوء عشرات الفرق في فلسطين والشتات، وقد ساعد التمويل المتدفق إلى منظمات المجتمع المدني مطلع التسعينيات في إيجاد المزيد من الفرق، ما يُدلل على الوعي الفلسطيني الكبير بقيمة التراث وأهميته في حفظ الهوية الفلسطينية.وإيمانًا منها بأهمية الحفاظ على التراث الشعبي عمدت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إنشاء بعض الفرق الفنية في الشتات لتكون سفيرًا متنقلًا لفلسطين، يحشد الطاقات والعواطف لصالح القضية الفلسطينية، وقد برز دور هذه الفرق بشكل كبير في الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في العام 1987؛ خاصة فرقتي «العاشقين» التي مقرها لبنان، و«الأرض» ومقرها سوريا.

حيث استلهمتا الألحان الشعبية وحركات الرقص الشعبي من تراث الأجداد، ونقلته للعالم عبر مشاركتها في الاحتفالات الدولية، وكذلك صنعت صنيعهما فرقة «سائد» للفنون الشعبية في أمريكا، والتي قدمت الدبكة الفلسطينية بثوبها الأصيل وحركاتها الدالة على الهوية الفلسطينية، وغيرها كفرقة «باقون» التي اتخذت من أوروبا الشرقية مكانًا لنشر التراث الفلسطيني المرتبط بالتاريخ والهوية.وفي الضفة الغربية كان هناك العديد من الفرق الفنية: (الفنون الشعبية، وسرية رام الله، والحنون)، وقدمت أعمالها المستوحاة من التراث والاعتماد عليه كقاعدة لبناء أعمالها الفنية من حيث استخدام الألحان والأغاني والحركات أو إعادة ترتيبها وصياغتها بما لا يخرج عن نطاق التراث الشعبي، أي أنها كانت تُعيد إنتاج ما هو موجود بطرق الحداثة.أما في الأراضي المحتلة عام 1948 فكانت فرقة «الأصايل» من الجليل أكثر دقًة في الحفاظ على التراث الشعبي بصورته الأصلية، وعمدت إلى نقله كما وصل إليها جيلًا بعد جيل، فقط ما كانت تُجريه من تعديلات لمسات خفيفة لا تمس الجوهر أبدًا، واستطاعت بذلك أن تُحقق الحماية للتراث الشعبي والهوية الفلسطينية معًا بصورة واعية.وعلى صعيد غزة وجدت فرقة «العصرية للفلكلور الشعبي» التي استطاعت تأدية العديد من الرقصات الشعبية على أغاني: يا طير يا طاير، وجمّع الأسرى، وهبت النار. فأوصلت الرسالة للعالم الغربي عن الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون وأعلمته بتقاليده وتاريخه وحضارته، وقضاياه الكبرى كقضية الأسرى والعودة والثوابت الوطنية.


إسرائيل تسرق التراث الفلسطيني

منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لم يدخر جهدًا في سرقة التراث، للقضاء على القضية وإفراغ الذاكرة الفلسطينية من مخزونها الفكري والثقافي والتراثي، وهو ما تؤكده العبارة الشهيرة للمؤرخ اللبناني «فيليب حتي»:

إن اليهود شعب همجي بلا حضارة، وكلما احتلو منطقة سرقوا تراث أهلها ونسبوه إليهم.

ففي أربعينيات القرن الماضي استولى الاحتلال على المصنوعات الفخارية القديمة للفلسطينيين وعمدوا إلى عرضها في متاحفهم على أنها تراث إسرائيلي، كما سرقوا الملابس القديمة والنحاسيات والصكوك المعدنية وقاموا بعرضها في المتاحف الإسرائيلية. كما ارتدوا الملابس الفلسطينية في المناسبات العالمية على أنها تراث إسرائيلي تمامًا كما فعلت زوجة موشيه ديّان في إحدى المناسبات العالمية، وكما فعلت شركة طيران العال الإسرائيلية التي جعلت من الثوب التقليدي الفلسطيني زيًا لمضيفاتها.وفي خطوات أكثر عدوانية على التراث والتاريخ الفلسطيني، عمد الاحتلال إلى نبش القبور والآثار وبيعها لجهات خارجية بأثمان زهيدة، وقام بتغيير الأسماء التاريخية لمواقع وقرى ومكتشفات أثرية فلسطينية، كما كان يستغل حاجة الفلسطينيين إلى المال ودفعهم إلى التنقيب عن الآثار ومن ثم شرائها بثمن بخس وعرضها في المتاحف العالمية على أنها تراث إسرائيلي.وامتدت حالات السرقة للكوفية الفلسطينية بعد أن صممها الإسرائيليان جابي بن حاييم، وموكي هرئيل بلون العلم الإسرائيلي ونجمة داوود، وكذلك طالت المأكولات الفلسطينية ففي عام 2000 عمدت دولة الاحتلال إلى المشاركة في المهرجان السنوي للمفتول في مدينة سان فيتو لوكار بإيطاليا وقدمت طبق المفتول على أنه من تراثها القديم، ومؤخرًا قدمت طبق الشكشوكة الفلسطيني للأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون في الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال الذي هو تاريخ النكبة الفلسطينية على أنه طبق من التراث الإسرائيلي وكذلك أطباق الحمص والفلافل والمقلوبة.ولم تغفل دولة الاحتلال عن سرقة وتزوير الفلكلور الفلسطيني وراحت تُقدمه في الحفلات العالمية على أنه إرثها التاريخي، وكانت رقصة الدبكة المعروفة بأصالتها الفلسطينية الأكثر سرقًة، فقاموا بتحويل الدلعونا إلى اللكنة العبرية، وكذلك المعازف المصاحبة لتلك الأغنية ألبثتها الثوب اليهودي، لكنها لم تفلح وبقيت الدبكة تخدم المقاومة والقضية في كل المحافل الدولية والعالمية.


كيف نحمي الدبكة في التراث الشعبي؟

يرى محمد أبو ليلي المدير التنفيذي لمؤسسة فلسطين للتراث «جذور» أن الدبكة جزء لا يتجزأ من التراث وحمايتها لا يُمكن أن تكون بمنأى عن حماية التراث الفلسطيني ككل، وتبدأ بإحياء كافة الفنون الأدبية، والعمل على نشرها في الوسائل الإعلامية المختلفة على الصعيد المحلي والعربي والدولي من أجل التعريف بها كهوية ثقافية للفلسطيني، بالإضافة إلى ربطها بالمناهج التعليمية، وكشف مخططات الاحتلال وتبني مشاريع تدريبية مُخصصة في الفنون الشعبية بكافة أنواعها الدبكة والأغنية والحكاية وإدخالها في الأعراس والاحتفالات والمناسبات الوطنية.وفي خطوة إحقاقية لما أورده أبو ليلي للحفاظ على التراث كهوية فلسطينية عمد بعض المواطنون في قطاع غزة خلال السنوات العشر الماضية إلى ممارسة الفنون الشعبية الممثلة في اليرغول والشبابة في حفلاتهم الخاصة، مما يُشير إلى عمق الانتماء للوطن رغم الحداثة وتنوع الأغاني ويؤكد على مكانتها وأصالتها، كما أولتها الجمعيات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك الهيئات الرسمية اهتمامًا وأدخلتها في أنشطتها ومعارضها وفعالياتها المختلفة، التي ترتبط بالقضية ولها بُعد وطني كيوم الأسير ويوم الاستقلال ويوم الأرض، وذلك في إطار سعيها للحفاظ على الهوية الفلسطينية من الذوبان.فيما يُقر الكاتب «نبيل علقم» في كتابه «مدخل لدراسة الفلكلور» بوجود نهجين فقط لحماية التراث الشعبي الفلسطيني في مجال الرقص الشعبي «الدبكة»؛ الأول: تقديم أعمال فنية مُستلهمة من أصالة التراث الفلسطيني وموسيقاه وحركات الرقص فيه، مُشيرًا أن ذلك يحفظ الهوية ويُثري الوجود الذي يُحاول الاحتلال نفيه.والثاني: العمل على تقديم الأعمال الفنية من أغاني وألحان وحركات كما هي ونقلها إلى الأجيال القادمة بتفاصيلها الدقيقة، لافتًا أن ذلك يعمل على استمرار الرقص والدبكة بما فيها من حركات ومعاني تروي في بعضها التاريخ الفلسطيني وقصص الألم فيه، وفي أخرى منها تقص حكايا الصبر والنصر والحب والكبرياء والقوة والحرية والإصرار.حيث يقول:

إن نقل التراث كما هو سيكون خير مُعبر عن الأوضاع الإنسانية المتنوعة للفلسطيني، وعن مزاجه الشعبي الضاج بمشاعر الغضب والرضا والألم والأمل أحدثتها تقلبات الزمن به…. إن الخوف الوحيد على الهوية الفلسطينية لا يكمن في عدم تطويرها وإنما في حمايتها من الضياع والتزييف والاستبدال برقصات أخرى لا علاقة لها بهويتنا بحجة الانفتاح على التراث الإنساني.

والخلاصة، أن فرق الدبكة الشعبية الفلسطينية، التي جابت العالم استطاعت أن تنقل صورة المعاناة التي عصفت بالفلسطينيين على مر سنوات الاحتلال، وساهمت بشكل كبير في توثيق التاريخ وإحياء التراث الفلسطيني الأصيل بصورته النقية، عبر استخدام الأساليب العلمية، ما جعله يصمد أمام التحديات ومحاولات السرقة، واستعادة مكانته ومجده.

المراجع
  1. نبيل علقم، “الرقص والهوية الفلسطينية: مدخل لدراسة الفولكلور”، ط4، دار الشروق، رام الله 2013.
  2. أسامة الفيصل، “عندما تسرق إسرائيل التراث الفلسطيني”، موقع كل الوطن، 11 يونيو 2015.
  3. “فرق الفن الشعبي الفلسطيني”، موقع مركز المعلومات الفلسطينية وفا.
  4. “التراث الشعبي الفلسطيني ملامح وأبعاد”، موقع أرض فلسطين للدراسات والتوثيق، 8 أكتوبر 2014.