كيف انقسمت قبرص بين اليونانيين والأتراك؟
الجمهورية القبرصية دولة حديثة الإنشاء، أُعلن عن قيامها عقب نيلها الاستقلال عن الاحتلال البريطاني عام 1960، وتم إقرار دستور يُقسِّم المناصب السياسية والبرلمانية بين المجموعتين القبرصيتين اليونانية والتركية، وتم انتخاب رئيس قبرصي يوناني لمنصب الرئيس مع منح منصب النائب لقبرصي تركي.
ومنذ إعلان الجمهورية وهناك مجموعة من المشاكل بين اليونانيين والأتراك، وقام الجيش القبرصي في عام 1974 بالتعاون مع عناصر قبرصية يونانية تدعو لانضمام الجزيرة إلى اليونان بعمل انقلاب أطاح بالرئيس مكاريوس الثالث، مع القيام بمجازر واسعة ارتُكبت بحق القبارصة الأتراك؛ وبناء على هذا تدخلت القوات المسلحة التركية عام 1976 للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية بحق المجموعة القبرصية التركية.
أدى ذلك إلى تقسيم الجزيرة إلى جزء شمالي بأغلبية سكانية تركية، وإلى وسط وجنوب بأغلبية يونانية، وتم إعلان قيام «جمهورية شمال قبرص التركية» رسميًا عام 1983، ورافق هذا الإعلان الاعتراف الرسمي الوحيد لتركيا بالدولة الجديدة، فمن أين أتى القبارصة الأتراك الذين يعيشون على الجزيرة؟
أصل الشعب القبرصي أنه شعب يوناني يدين بالمسيحية على المذهب الأرثوذوكسي، تعاقب عليه الحكام وصولًا إلى الحكم العثماني، ومن حيث يبدأ الحكم العثماني تبدأ قصة تواجد الأتراك على الجزيرة، ففي عهد السلطان سليم الثاني تمكن الأسطول العُثماني من فتح الجزيرة عام 1571 تحت قيادة لالا مصطفى پاشا بعد عملية حصار وهجوم استمرت 13 شهرًا.
كان ذلك بسبب ما تقوم به قوات الجزيرة من الهجوم على سفن المسلمين لنهبها وقتل من بها، فموقعها الاستراتيجي شرقي «البحر المتوسط» جعلها على مر التاريخ قاعدة ينطلق منها الصليبيون لمهاجمة الأقطار الإسلامية، ليضع الفتح العثماني نهاية تامة لعمليات الهجوم من هذه القاعدة المهمة وتتحول بعدها قاعدة الهجوم الصليبية إلى قاعدة هجوم عثمانية فيما بعد.
سياسة «الاستمالة» العثمانية مع أهل الجزيرة
بعد استقرار الأمر للعثمانيين في الجزيرة، تم نقل آلاف من سكان الأناضول من المزارعين والحرفيين والتجار للإقامة فيها بأمر من السلطان سليم الثاني؛ وذلك لقلة عدد السكان الذين يعيشون عليها، وكان الغرض هو خلق بيئة عمل تُوازن ما بين حجم الجزيرة وحجم ما عليها من بشر، فكان من ضمن من تم تهجيرهم أعداد كبيرة من «الأتراك» كفلاحين لزراعة الأرض، بالإضافة إلى أعداد من «اليونانيين» كتجار، وقد استقروا في أرضهم الجديدة منذ ذلك الحين، إلا أن النسبة دائمًا كانت نسبة الثلث إلى الثلثين بين عدد الأتراك واليونانيين.
ويذكر الجغرافي الإيطالي ورسام الخرائط الموسوعي «كورونيللي» أن أعداد سكان الجزيرة في أواخر القرن السابع عشر يُقدر بحوالي 144 ألف فرد، ثلثاهم من المسيحيين والثلث من المسلمين. وفي إحصاء عام 1841 الذي قام به حاكم الجزيرة العثماني «طلعت أفندي» ذكر أن سكان الجزيرة يصل عددهم 108 آلاف فرد، ثلثاهم أيضًا -على وجه التقريب- من المسيحيين وثلثهم من المسلمين، وهو أمر نلاحظ منه ثبات هذه النسبة بمرور القرون.
عاملت الإدارة البندقية التي تتبع الكنيسة الكاثوليكية سكان الجزيرة الأرثوذوكس معاملة سيئة، فمن ناحية الأراضي فرض البنادقة على الجزيرة نظامًا إقطاعيًا قاسيًا، ولم يكن مسموحًا للفلاحيين القبارصة بشراء الأراضي، بل يزرعونها للبنادقة مقابل المال، وهي سياسة ألغيت تحت الحكم العثماني مع السماح بتمليك الأراضي للفلاحين.
أما من ناحية حرية المعتقد في العهد البندقي فقد كان للكنيسة الكاثوليكية وضعها ككنيسة رئيسية، الأمر الذي أُلغي في العهد العثماني، فتم فرض حظر على الكنائس الكاثوليكية وتحويلها إلى جوامع -خاصة أن الدول الكاثوليكية الأوروبية كان لديها عداء كبير مع الدولة العثمانية- وأتيح لسكان الجزيرة الأرثوذوكس ممارسة المعتقد بحرية تحت مظلة نظام «الملل» المتبع في التعامل مع غير المسلمين في الدولة، والذي يعطي الصلاحيات الكاملة مُطران الأرثوذوكس أن يمثل طائفته وشعب الجزيرة أمام الدولة، مما جعله بالإضافة إلى درجته الدينية العالية رئيسًا لعرق أهل الجزيرة.
تعامل العثمانيون بشكل جيد أيضًا مع السكان بخفض قيمة الضرائب الضخمة التي فرضها البنادقة عليهم، وتم استبدال أخرى بها تراعي أحوال الأهالي، كما أن الجزية المفروضة على الأهالي كانت تؤخذ سنويًا حسب طاقة ومقدرة أهل الجزيرة، ولكن هذه السياسة لم تستمر طوال فترة الحكم العثماني، فقد ارتفعت هذه الضرائب بشكل كبير في القرن الثامن عشر، وفي فترات ضعف الحكم العثماني عامة.
البصمات العثمانية الباقية في الجزيرة
كانت آلية وثقافة «الوقف» من أوائل المفاهيم التي قامت الإدارة العثمانية بإرسائها على الجزيرة، فمنذ توطيد العثمانيين أقدامهم على الجزيرة قاموا ببناء العمائر، مثل الحمامات العامة ورافعات المياه، والخانات، والمدارس، ما أعطى الجزيرة شكلها العثماني.
وكانت كنيسة «آيا صوفيا» وهي أكبر كنيسة في الجزيرة قد تم تحويلها إلى جامع وقفي، وقام فاتح الجزيرة «لالا مصطفى پاشا» بالتبرع للوقف الجديد بمصحف وسيف في أول صلاة جمعة تُقام فيه بعد الفتح، ومازال المصحف باقيًا إلى الآن ومحفوظًا، وقد أُسست مجموعة من الأوقاف المهمة على الجزيرة، مثل وقف عرب أحمد پاشا، ووقف جعفر پاشا، ووقف سنان پاشا، كما خصصت الدولة جزءًا من عائدات أوقاف الجزيرة إلى الحرمين الشريفين وفقراء المدينة المنورة.
أما من ناحية العمارات البارزة التي تم تأسيسها في الفترة ما بين 1572 حتى 1878 فما زال كثير منها باقيًا حتى الآن، ولعل من هذه الآثار «الخان الكبير» في مدينة «نيقوسيا» الذي تم الانتهاء من بنائه عام 1572، ويستخدم الآن كمزار ثقافي لأتراك الجمهورية القبرصية، نجد أيضًا «بدستان» -سوق مغطى- بالقرب من جامع «آيا صوفيا»، كما نجد «حمام جعفر پاشا» في مدينة «فاماغوستا» ورافعة مياه «بكر پاشا» التي تم الانتهاء من بنائها عام 1748 بمدينة «لارنكا» بواسطة الوالي «أبو بكر پاشا»، وساهمت مساهمة أساسية في التطور الاقتصادي والاجتماعي للمدينة.
كما نجد مكتبة السلطان «محمود الثاني» التي أسست بأمر من السلطان بمدينة «نيقوسيا» عام 1829 لمساعدة الطلاب في المدرسة الكبيرة على التعلُم، والجدير بالذكر أن هذه المكتبة احتوت على ما يقرب من 2000 كتاب ومخطوط باللغات التركية والفارسية والعربية، خُصص لشرائها أربعون ألف قرش ممثلة ثروة معرفية إسلامية على أرض الجزيرة، بالإضافة لاشتمال كثير من هذه المخطوطات على مخطوطات ذات قيمة تاريخية عالية.
- Netice Yıldız, "Wakfs in Ottoman Cyprus" in "Frontiers of Ottoman Studies: State, Province, and the West Volume II", Edited by Colin Imber, Keiko Kiyotaki and Rhoads Murphey, 2005, p.179-196
- "Ottoman Cyprus: A Collection of Studies on History and Culture", edited by Michalis N. Michael, Eftihios Gavriel, Matthias Kappler, Harrassowitz Verlag, Wiesbaden, 2009
- الوثائق تنطق بالحقائق، أحمد آق كوندوز، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2014.