الهجمات السيبرانية بين المقاومة والاستثمار
بهذه الجملة أنهى المتحدث باسم «أنونيموس غلوبال» الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لمجموعة المخترقين الدوليين، والذين أرسلوا من خلاله رسالة مباشرة لبنيامين نتنياهو وحكومة الاحتلال من أجل إيقاف إطلاق النار والدمار الشامل على قطاع غزة، بعد هجوم كتائب القسام في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
يُنبئنا هذا الأمر بأن هناك حرباً أخرى دائرة في الفضاء الإلكتروني غير الحرب الواقعة بين حماس وتل أبيب، وكما خلفت الحرب الحالية دماراً في البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني وتحديداً غزة، فإن هناك تكلفة أخرى يدفعها الاحتلال من بنيته السيبرانية والاقتصادية قد يحتاج وقتاً أطول للتعافي منها.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أيقنت الحكومات أن الخطوط الأمامية للحروب لا تتمثل فقط في أرض الواقع، بل تكمن أيضاً في الخوادم الإلكترونية (Servers)، وقواعد البيانات (Database)، والبرامج، وأي اتصال بالإنترنت؛ الأمر الذي شجّع الحكومات، ومنها حكومة الاحتلال، على أن تُنشئ وحدات مكافحة الإرهاب والجرائم الإلكترونية، والتي يتركّز هدفها على حماية مؤسسات الدولة وشركات القطاع العام والخاص من هجمات القرصنة.
تطوّر الأمر بعد ذلك للتجسس على جميع المواطنين، فما دام المواطن يمتلك هاتفاً أو حاسوباً مُتصلاً بالإنترنت، فهو تحت وطأة التجسس بفتح الكاميرات والميكروفونات.
الكيان من الهاغانا إلى الفرقة 8200
بحسب التقرير الذي سُرِّب عبر ويكيليكس في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، فإن التهديد الأكبر بالنسبة للكيان هو حزب الله وحماس، والتهديد الذي يليه هو القوى الإقليمية التي تهدد موقعه الاستراتيجي على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
يعتبر جهاز مخابرات الكيان المحتل تطوراً لعصابات الهاغانا التي تأسست عام 1920، والتي كان هدفها محاربة الحكومة المُعيّنة من قبل بريطانيا، بالإضافة إلى الدفاع عن اليهود ضد العرب. في عام 1929 أسست ما يُعرَف بـ «SHAI» أو خدمة جمع المعلومات حول بريطانيا والدول العربية المجاورة أو الدول التي عارضت قيام دولة الاحتلال أو حتى الجماعات المسلحة المنافسة للهاغانا والمنتسبة إلى الاحتلال نفسه مثل «إرغون ولحي».
حين تم تضييق الهجرة على اليهود إلى فلسطين، أنشأت الهاغانا ما يُسمى بـ «معهد الهجرة» الذي كان مُتكفلاً بترتيب سفر اليهود سراً إلى فلسطين، إضافةً إلى أنه كان لزاماً على «معهد الهجرة» جمع معلومات استخباراتية عن الدول التي يعيش فيها اليهود، لمعرفة الأوضاع السياسية التي تُسهّل انتقال اليهود إلى فلسطين.
في 30 يونيو/حزيران 1948، رأى «إيسر بيري» أنه لا بد من تنظيم مجتمع المخابرات الإسرائيلية، فقام بإنشاء «قوات الدفاع الإسرائيلية» مع وحدة عسكرية يرأسها بيري تحت فرع العمليات في الأركان العامة، كما أنشأت وزارة الخارجية قسماً سياسياً مسئولاً عن جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية الخارجية. ومع تصارع القوى والنفوذ قام «ديفيد بن غوريون» بتكليف «روفين شيلوا» بإعادة تنظيم مجتمع المخابرات، فقام شيلوا بحلّ قسم الشئون السياسية عام 1951 وأنشأ مكانها ما عُرِف باسم «أمان».
في الوقت نفسه، وتحديداً في 1 أبريل/نيسان 1951 أسس شيلوا منظمة «المعهد المركزي للتنسيق» الذي سيتطور ويُعرف بعد ذلك بالموساد، وذلك حين أصبح قسم المخابرات في جيش الاحتلال فرعاً عسكرياً مُستقلاً، حيث كان عمله هو جمع المعلومات وتحليلها ونشرها داخل الجيش، بجانب مهمته الأساسية وهي التحذير الاستخباراتي. كان نطاق عمل «أمان» في جمع المعلومات الاستخباراتية، يقع ضمن الدول العربية المجاورة للكيان.
يقوم فرع الاستخبارات الوحدة 8200، والتي تعتبر مآل أذكياء جيش الاحتلال، والقائمة حتى وقتنا هذا، على عمليات الاعتراض وفكّ التشفير، بالإضافة إلى أنها مكلفة خصوصاً بالدفاع عن شبكات الاتصالات وعمليات جمع المعلومات وتجنيد العملاء كجواسيس لدى الكيان. توسعت الوحدة لتشمل الكثير من الوحدات التي تتخصص في تقنيات الدفاع والتجسس على الاتصالات والبحث عن ثغرات في أنظمة المعلومات.
يُنشئ خريجو هذه الوحدة شركات دفاعية كبرى حول العالم، منها مثلاً شركة NSO المعروفة بأنها شركة استخبارات إلكترونية إسرائيلية خاصة، وبأن لديها واحداً من أكثر البرامج فاعلية في اختراق الهواتف ومراقبتها عن بعد بدون نقرة واحدة، والمعروف باسم Pegasus.
تستثمر دولة الاحتلال في قطاع التكنولوجيا لأهداف متعددة، يكمن أهمها في محاولة السيطرة على «المجتمع الإسرائيلي»، وذلك لأنها تعتبر نفسها دولة ديمقراطية لا يمكنها نشر آلياتها العسكرية في تل أبيب، بالتالي تحاول التجسس على مواطنيها لإحكام السيطرة عليهم. ثاني تلك الأمور هو تجنب التهديدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وإيران، كما أشارت ويكيليكس في بياناتها المُسربة.
سنودن في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية
من الممكن أن أكبر تسريب عرفته الولايات المتحدة الأمريكية كان التسريب الذي قام به إدوارد جوزيف سنودِن، والذي كان يشغل عدة مناصب كمتعهد خاص لوكالة الأمن القومي وأيضاً كمتعهد خاص لوكالة المخابرات المركزية بجانب وظائف أخرى. سرب سنودن ملفات من المخابرات المركزية للاستخبارات في عهد الرئيس أوباما، والتي كشفت أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر قرّرت أن تتجسس على العالم أجمع، حيث قامت على سبيل المثال بالتجسس على الانتخابات الفرنسية عام 2012 لصالح المخابرات المركزية الأمريكية.
شمل التجسس أيضاً المواطنين الأمريكيين، حيث قامت وكالة المخابرات المركزية حينها باختراق مجموعة واسعة من منتجات الشركات الأمريكية والأوروبية، بما في ذلك أجهزة آيفون من آبل، وأندرويد من جوجل، وويندوز من مايكروسوفت، وحتى أجهزة تلفزيون سامسونج التي تحولت إلى ميكروفونات سرية.
بحلول نهاية 2016، كان لدى قسم القرصنة التابع لوكالة المخابرات المركزية، والذي يندرج رسمياً تحت مركز الوكالة للاستخبارات السيبرانية، أكثر من 5000 مُستخدم مًسجّل، وأنتجت أكثر من ألف نظام قرصنة وأحصنة طروادة وفيروسات وغيرها من البرامج الضارة «المسلّحة».
استخدم المتسللون في وكالة المخابرات المركزية تعليمات برمجية أكثر من تلك المستخدمة لتشغيل فيسبوك. في الواقع، أنشأت وكالة المخابرات المركزية، وكالة أمن قومي خاصة بها، مع قدرٍ أقل من المساءلة. حيث بإمكان وكالة المخابرات المركزية جمع رسائل البريد الإلكتروني، والمحادثات الهاتفية، وبحث جوجل، والرسائل القصيرة، وطلبات الشراء من أمازون، والعمليات البنكية، وكل البيانات الوصفية التي تُمكِّنها من معرفة كل شيء يتعلق بالمواطن الأمريكي. كان هدف سنودن هو كشف التهديد الذي تمثّله الشرطة السرية غير المنضبطة على الديمقراطيات.
القرصنة باعتبارها مقاومة
يمكننا الحديث بأن المقاومة السيبرانية في بعض الأوقات يمكنها أن تحرز تقدماً ملحوظاً في وجه الدولة. فخلال هجوم السابع من أكتوبر، لم تكتفِ حماس بمجرد اختراق السياج العنصري الفاصل بينها وبين قوات الاحتلال، بل كان مصاحباً لما يجري على الأرض هجمات سيبرانية تمكنت بعد حوالي 12 دقيقة من بداية الهجوم، من شن هجمات على المواقع الإلكترونية التي تقدم معلومات وتنبيهات مهمة للمدنيين بشأن هجمات الصواريخ.
بلغت ذروة الهجوم الأوَّلي 100 ألف طلب في الثانية، واستمر لعشر دقائق. وبعد مرور 45 دقيقة، وقع هجوم ثانٍ أكبر بكثير استمر لست دقائق، وبلغت ذروته مليون طلب في الثانية. وخلال الساعات التي تلت ذلك، واصل منفذو الهجمات الموزعة لحجب الخدمة، توجيه المزيد من الهجمات الأصغر حجماً للمواقع الإلكترونية.
عرض مهاجم يُدعى «بلاكفيلد» على منصة RAMP في الـ Dark web بيع معلومات شخصية قابلة للتحديد (PII)؛ صور وروابط لوسائل التواصل الاجتماعي لأعضاء جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، مقابل 15 ألف دولار. أما على مستوى القراصنة الروس فإن مجموعة «أنونيموس السودان» الناطقة بالروسية تعهدت بالتضامن مع حماس وأعلنت مسئوليتها عن هجمات متعددة استهدفت من خلالها الأقمار الصناعية الملاحية «الإسرائيلية»، وأنظمة التحكم الصناعية الإسرائيلية (ICS)، في محاولة لتعطيل البنية التحتية الحيوية. كما ادعت مجموعة «أنونيموس السودان» أيضاً أنها قامت بشن هجوم على أنظمة القبة الحديدية وتطبيقات التنبيه داخل الأراضي المحتلة.
التضامن عبر القرصنة
انضم محاربو الإنترنت إلى القتال، لكن المعركة شملت عدة قراصنة بلغ عددهم –حسب تقرير نشرته الجزيرة– 35 فريقاً، ما بين مؤيد للفلسطينيين وآخر مؤيد «للإسرائيليين»، وفريق ثالث معارض للحرب شن هجوماً سيبرانياً على الطرفين.
يدعم الجانب الفلسطيني مجموعة قراصنة من بينهم: أشباح فلسطين، وفريق بنغلاديش الغامض، وأنون غوست، وسايبر أفينجرز، وأنونيموس السودان، وأنونيموس المغرب، وفريق حزب الله السيبراني، وفريق غوست كلاين ماليزيا، وكذلك فريق هاكتفيزم إندونيسيا، كما تساءل قراصنة «جيش روسيا السيبراني» حول أي الفريقين يجب دعمه.
أما القراصنة الذين يؤيدون الجانب «الإسرائيلي»، فكان هناك أربع فرق، من بينهم فريق «القوة السيبرانية الهندية» Indian Cyber Force، التي شنت هجمات على العديد من المؤسسات الفلسطينية مثل البنك الوطني وشركة الاتصالات paltel.ps، كما زعموا إسقاطهم موقع حماس الإلكتروني Hamas.ps؛ حيث يرى الخبير «في سيكويا» أن ذلك ناجم عن العلاقات الدبلوماسية بين الهند وإسرائيل، فضلاً عن العلاقة بين مجموعات هندية وشركات ناشئة إسرائيلية تشكل مُزوداً لها.
أما الجانب الثالث، المتمثل في ThreatSec، والذي يقف على مسافة واحدة من حماس و«إسرائيل»، فقد أعلن موقفه عبر قناته على التليغرام قائلاً: «كما تعلمون، نحن لا نحب إسرائيل، ولكننا لا نحب الحرب»، كما ادّعوا أنهم أغلقوا كل خوادم أكبر مزودي خدمات الإنترنت في قطاع غزة المعروفة باسم Alfanet.ps.
بعد كل هذا الاستثمار في شركات التجسس ومليارات الدولارات، ما زالت الحكومات غير قادرة على السيطرة الكاملة على المستخدمين، حيث قام العديد من منصات التواصل الاجتماعي بحجب المحتوى المؤيد للقضية الفلسطينية من شبكات الإنترنت، الأمر الذي وصل إلى حذف صحيفة الجارديان رسالة بن لادن لأمريكا من موقعها الإلكتروني بعد انتشارها في المجتمعات الأمريكية والأوروبية.