الليرة المتأزمة: الاقتصاد التركي يرجع إلى الخلف
هكذا دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أبناء شعبه، أوائل ديسمبر/كانون الأول الحالي. الرسالة كانت واضحة، البلاد تمر بأزمة إقتصادية، وكيف لا وقد انخفضت قيمة العملة المحلية 11% خلال شهر واحد، هو نوفمبر/تشرين الثاني، لتواصل الانخفاض إلى ما يقارب الـ24% خلال العام الذي لم تُطوى صفحاته بعد!
يبدو إذن النموذج الاقتصادي التركي -المستقر لقرابة عقد من الزمان- بدأ يفقد رونقه كنموذج اقتصادي صاعد بالمنطقة، إذ شهد، وما زال، تراجعًا كبيرًا خلال الأعوام الأخيرة، لأسباب اقتصادية. علاوة على ذلك ما تكبدته الليرة التركية من خسائر في سوق الصرف الأجنبي متأثرةً بضغوط الأزمات السياسية والأمنية، لعل آخرها كان مقتل السفير الروسي في أنقرة.
وهناك نوع من القلق والضبابية حول مستقبل الاقتصاد التركي وما تتكبده العملة التركية من خسائر بعد فقدها نحو 11% من قيمتها أمام الدولار خلال شهر واحد فقط، في نوفمبر/تشرين الثاني الفائت.
لعل التراجع الحاد في سعر الليرة مؤخرًا هو ما دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من خلال كلمة متلفزة، من يملكون العملات الأجنبية للتخلي عنها وتحويلها إلى الليرة التركية أو الذهب لدعم العملة الوطنية.
وعلى الرغم من النجاح الجزئي لدعوة الرئيس التركي، إلا أن القلق والترقب إزاء السوق التركي والعالمي -على السواء- خيم على هذه الدعوة لتأتي بآثار عكسية لاحقًا دفعت الليرة التركية إلى الاتجاه الهبوطي من جهة، ومن جهة أخرى تصريح رئيسة الفدرالي الأمريكي-البنك المركزي الأمريكي- باحتمالية رفع سعر الفائدة الأمريكية أدى إلى ارتفاع قيمة الدولار في سوق الصرف العالمي. وفي المجمل فقدت الليرة التركية نحو 24% خلال العام الذي لم ينته بعد.
أسباب تراجع الاقتصاد التركي
شهد الاقتصاد التركي تراجعًا ملحوظًا في معدلات النمو، بدءًا من عام 2013. فبعد تحقيق معدل نمو مرتفع في المتوسط خلال الفترة 2002- 2012 ووصول الليرة التركية إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأمريكي لتبلغ نحو 1.16 ليرة لكل دولار في منتصف عام 2007.
إلا أن الليرة التركية اليوم في مواجهة غير عادلة أمام الدولار وبالأخص في العامين الماضيين، لأسباب عدة؛ منها تراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي وما يحدث بالمحيط الإقليمي لتركيا، علاوة على الأحداث السياسية الداخلية وما تكبده قطاع السياحة والتجارة الخارجية من خسائر جراء القطيعة -التي لم تستمر كثيرًا- بين الجانب التركي والروسي إبان إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود التركية، وإن عاود التوتر الظهور مرة أخرى على السطح بعد حادثة اغتيال السفير الروسي بأنقرة وتلويح موسكو بإلغاء/تجميد الاتفاق الثنائي فيما يخص إعفاء تأشيرة الدخول لمواطني الدولتين، وما يترتب على ذلك من تراجع السياحة الروسية إلى تركيا مرة أخرى، فالاضطراب الأمني الداخلي حتمًا سيؤثر على السياحة الوافدة.
وفي واقع الأمر شهدت الليرة التركية تراجعًا كبيرًا في مقابل الدولار تخطى حاجز 50% العامين الماضيين، ولا يمكن فصل تدهور الليرة التركية عما يحدث بالمحيط الإقليمي لتركيا، سوريا والعراق، وما تتعرض له البلاد من تهديدات أمنية، فضلًا عن محاولة الانقلاب العسكري في منتصف يوليو/تموز 2016 والتي تبعها محاولات إقصاء واسعة لقطاع كبير من الشعب التركي ومحاولة السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة من قبل حزب العدالة والتنمية بالإيعاز من الرئيس التركي.
أضف لذلك ضبابية المشهد التركي وانعكاسه على مناخ الاستثمار؛ فما يدور بالداخل التركي يخفض من ثقة المستثمر الأجنبي لما ستؤول إليه الأوضاع، فتبعات وتداعيات الانقلاب العسكري ما زالت قائمة.
علاوة على ذلك تراجع التصنيف الائتماني؛ فوفقًا لتصنيف (ستاندرد أند بورز) تم تخفيض التصنيف الائتماني بشقيه الحالي والمستقبلي؛ فتصنيف المخاطر الحالية انخفض من BB+ إلى BB، كما تم تصنيف المخاطر المستقبلية إلى مستقر.
هذا، ومن المتوقع أن يرتفع معدل التضخم إلى أكثر من 10% بعد أن انخفض إلى 7.5% في السابق. وذلك الارتفاع يأتي كرد فعل مباشر لاتباع البنك المركزي لسياسة مالية توسعية، لينعش الاقتصاد التركي بعد أن حقق معدلات نمو متدنية في الثلاثة أعوام الأخيرة تراوحت ما بين 3-3.5%؛ أي أقل من متوسط النمو خلال الفترة من 2001: 2013 والذي بلغ 5%.
كذلك توقع صندوق النقد الدولي انكماش معدل النمو الاقتصادي العام القادم لنحو 2.9%. علاوة على توقع بارتفاع معدل البطالة؛ فمشكلة البطالة من المنتظر أن تتفاقم لتتخطى حاجز 11% في ظل عدد من القيود المفروضة على سوق العمل أهمها إقرار البرلمان التركي قانونا لرفع الحد الأدنى للأجور بمقدار 30%.
الليرة التركية تتعرض لمزيد من الضغوط
كان لتراجع النمو الاقتصادي التركي أثر بالغ على سعر الليرة التركية في سوق الصرف الأجنبي، ففي يناير/كانون الثاني 2015 بلغ الدولار نحو 2.326 ليرة، وفي نهاية العام اقترب من حاجز الـــ3 ليرة لكل دولار بانخفاض بلغ نحو 26%. وفي عام 2016 واصلت الليرة التركية مزيدًا من الانخفاض بنحو 24% لتستقر عند 3.52 ليرة لكل دولار ديمسبر/كانون الأول 2016.
وشهدت الليرة انخفاضًا حادًا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري، بلغت نحو 10%، ووفقًا لوكالة «بلومبرج» فمن المتوقع استمرار انخفاض الليرة التركية خلال العام 2017. وتضافرت عدة عوامل أدت إلى هذا التراجع الكبير يمكن إجمالها فيما يلي:
1. قرار الأوابك بخفض إنتاج النفط
بعد سلسة من التراجع التاريخي لسعر النفط الخام عالميًا، اتخذ أعضاء منظمة الأوابك قرارًا بخفض الإنتاج لأول مرة منذ ثمان سنوات بواقع 3% من حجم إنتاج المنظمة من أول يناير/كانون الثاني 2017.
لذا ارتفع سعر النفط الخام بالسوق العالمي بنحو 8%، وكذلك تعهدت روسيا بخفض إنتاج النفط. وسيكون مردود ذلك بالسلب على الاقتصاد التركي ومن ثمّ العملة التركية حيث تستورد تركيا نحو 1.7 ترليون قدم مكعب من احتياجتها من الغاز الطبيعي، منها 57% من شركة غازبريوم الروسية. كذلك تستورد معظم احتياجاتها النفطية من دولتي العراق وإيران عضوتي منظمة الأوابك، وهذا الارتفاع في أسعار النفط من شأنه أن ينعكس بالسلب على عجز الميزان التجاري.
2. الانقلاب العسكري
بالرغم من فشل محاولة الانقلاب العسكري التركي، إلا أن تبعاتها ما زالت قائمة، كذلك ما تقوم به السلطة من اعتقالات وإقصاء في محاولة منها لدحر الخصوم السياسيين. إذ بلغ عدد المتعلقين، وفقًا لما أعلن عنه وزير العدل التركي في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أكثر من 35 ألف شخص، بينما جرى التحقيق مع 82 ألف آخرين منذ محاولة الانقلاب العسكري. ويبقى لذلك بالغ الأثر على الاستثمار في تركيا، ومن المتوقع تراجع التحويلات الرأسمالية فضلًا عن تراجع السياحة بسبب القلاقل الداخلية وتراجع المستوى الأمني.
3. الأزمات السياسية والجيوسياسية
تعمل الإدارة التركية على مناقشة مشروع دستور مقدّم لتعزيز صلاحيات الرئيس، وكذلك ارتفاع وتيرة الاعتقالات السياسية ومن جهة أخرى الهجمات الإرهابية التي تشهدها تركيا؛ مقتل السفر الروسي بأنقرة. علاوة على الحروب بمناطق الجوار الجغرافي واستقبال تركيا لعدد كبير من اللاجئن يصل إلى 3 مليون لاجئ على أقل تقدير بعد انتهاج تركيا سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين وبالأخص السوريين الفارين من بلادهم جراء الحرب الدائرة هناك، كذلك أصدر البرلمان التركي في أبريل/نيسان 2013 قانون «الحماية المؤقتة» والذي أقره مجلس الوزراء بتأمين الحماية لكل من يهجر من بلاده إلى تركيا، ويلجأ إلى تركيا أو الحدود التركية لظروف تهدد حياته وتمنعه من العودة إلى بلده.
4. إشكالية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
اتخذ البرلمان الأوروبي قرارًا بوقف المفاوضات الجارية بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخاصة بعد محاولة الانقلاب العسكري وكثرة الحديث عن انتهاك حقوق الإنسان، وكذلك الحديث عن عودة عقوبة الإعدام بحق الجنرالات العسكريين منفذي محاولة الانقلاب العسكري.
وهذا يقلل من ثقة المستثمر الأوروبي في الاقتصاد التركي، وجدير بالذكر أن الاستثمار الأوروبي في السوق التركي مثّل نحو 75% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر عام 2014.
5. إعادة توجيه رؤوس الأموال
يترقب السوق العالمي حركة كبيرة في رؤوس الأموال لتأخذ اتجاها عكسيا من الشرق الأوسط إلى السوق الأمريكي على وجه الخصوص بعد تصريح رئيسة الاحتياطي الفدرالي، جانيت يلين، باحتمالية رفع أسعار الفائدة قريبًا.
علاوة على ترقب العالم تنصيب دونالد ترامب رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة الأمريكية والذي وعد بتخفيض الضرائب على الشركات لتستقر عند 15% بدلًا من المعدل الحالي البالغ 35%.
ولا شك أن السوق البريطاني سيمثل عامل جذب لروؤس الأموال الخليجية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإزالة بعض القيود التي كانت تلتزم بها في شأن رؤوس الأموال الوافدة وسعيها لتوطيد علاقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي وتصريح رئيسة وزراء بريطانيا، تريزا ماي، بأن أمن الخليج من أمن بريطانيا.
ومن المرجح أن يكون السوق التركي أحد الأسواق المتضررة بقوة من إعادة حركة رؤوس الأموال، إذ مثّل الاستثمار -بشقيه المحلي والأجنبي- أساسًا للطفرة الاقتصادية التي حققها الاقتصاد التركي خلال عقد من الزمن، ومن ثم ستضغط حركة الاستثمارات إلى خارج السوق التركي إلى مزيد من التخفيض في سعر الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي وبعض العملات الرئيسية.
وإجمالًا يمكن القول، إن الاقتصاد التركي المستقر لأكثر من عقد من الزمان يواجه عددا من التحديات الداخلية؛ كتراجع النمو الاقتصادي والسيولة السياسية في محاولة للسيطرة على مفاصل الدولة، علاوةً على العمليات الإرهابية وتراجع وتيرة الأمن، وعدد من التحديات الخارجية؛ منها ارتفاع سعر الدولار بالأساس في سوق الصرف العالمي وكذلك التحديات الجيوسياسية والحروب بدول الجوار.
ستدفع تلك العوامل مجتمعة إلى مزيد من التخفيض لسعر العملة (الليرة) قد تصل لأكثر من 30% في العام 2017. إلا أن تنوع القاعدة الاقتصادية للاقتصاد التركي تجعل به مفردات ونقاطا للقوة قد تدفع مستقبلًا لإعادة تصحيح المسار التنموي وإعادة القوة للعملة التركية شريطة التخلي عن سياسة الإقصاء -التي لن تزيد المشكلات إلا تعقيدًا-. لذا كان لازماً على الحكومة التركية التعامل بحكمة مع المعارضة المعتدلة ومشاركتها في الحكم وتجنب السلطوية، علاوة على انتهاج خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي تقوم على استهداف التضخم وزيادة فرص التوظيف للحفاظ على المكتسبات التي حققها حزب العدالة والتنمية الحاكم.
مصدر الصورة:Speed Property Buyers