الثقافة وموت الإله
جوناثان ري (الجارديان 27 فبراير 2014)
وفقًا لتيري إيجلتون فإن الإلحاد الآن يواجه أزمة. صحيح أن الإلحاد ازداد قوة على مدار القرن العشرين، حيث تراجعت المؤسسات الدينية واللاهوت في مواجهة العلوم الطبيعية؛ لكنّ كل شيء تغير بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ربما استمر تداعي المؤسسات الدينية في الولايات المتحدة، فيما استمرت نبرات التشكيك الحادة لـ ريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز في تحقيق أعلى مبيعات كتب، لكن، في بقية العالم، كان الدين يستيقظ من حالة سبات عميق، سواء في شكل عبادات بربرية، مسيحية، إسلامية أو غيرها، لتمد يد العون للفقراء والمظلومين. فالإيمان الآن ينتشر بشكل سريع للغاية.
أو هكذا يبدو الأمر إلى إيجلتون الذي يرى أنه كان علينا التنبؤ بذلك. يُعتبر إيجلتون واحدًا من البارزين في أوساط المفكرين، وتحتل أعماله في الصحافة الجدلية قوائم الكتب الأكثر مبيعا.
يبدو إيجلتون وكأنه قرأ لكل الفلاسفة والمنظرين الذين نخشاهم نحن، كما لديه موهبة توظيفهم في المكان الصحيح سواء بشكل ساخر أو متجانس في الجُمل.
هذا غير شعره الذي يقوم على قسمين: الإهانات، والنكات الصاخبة. وفي النهاية نحن مدعوون دائمًا لرؤية «المفارقات» حيث تظهر «العقول المدبرة»، وهي تفقد سحرها وتظهر الحقيقة في زلات لسانهم.
وبخصوص كتابه الثقافة وموت الإله يوظف إيجلتون كل مهاراته ليشرح لنا كيف انهارت آمال جيل عريض من العلمانيين الماديين بانهيار برج التجارة العالمي.
برز نجم إيغلتون في السبعينات عندما كان أستاذ أدب إنجليزي في جامعة إكسفورد كما كان اشتراكيا ثوريا باعترافه الشخصي، أو، إن كنت تحب، الاشتراكي الثوري، والذي كان باعترافه الشخصي، أستاذ أدب إنجليزي في جامعة إكسفورد.
فقد نجح إيجلتون في أن يكون أيقونة للأكاديمي المستقيم واليساري الدنيوي في نفس الوقت الذي تدرج فيه في سلمه الوظيفي الزخم.
بعد فترة انتشر وباء إيجلتون بعد أن أصبح الأدب مادة أكاديمية للدراسة. في السنوات الأخيرة، بدأ الرفاق يشمون رائحة «ردة»: ربما لا يزال إيجلتون على ولائه ليساريته، لكن عند النظر لانتقاداته الحديثة ضد الملحدين الجدد، الذين يتهمهم بسوء تفسير المسيحية الحقيقية، سنرى أن ماديته الباسلة قد تم هجرها.
في كتابه الثقافة وموت الإله، لا يجدد إيجلتون العهد مع أفكاره القديمة، حيث يأخذنا الكتاب في جولة ليطلعنا على ساحات المعارك الفكرية الدائرة في أوربا خلال الثلاث مائة عام المنصرمة، والتي، وفقًا لرؤية إيجلتون للتاريخ، تحقق فيها الانتصار بفضل شجاعة جنود العقلانية والتقدمية مرارا وتكرارا على الرعاع من المتدينين الرجعيين.
لكن هذه الانتصارات، وفقًا لـإيجلتون، كانت موزعة بالتساوي، بل إن مكر التاريخ قد يقلب الحق باطلا. في البداية كان هناك فلاسفة عصر التنوير الرائعون، الذين قادوا المعركة ضد الكهنوت والملائكة ممثلين في علم اللاهوت، على الرغم من أن أحدا من أولئك التنويريين لم يكن يستطيع أن يتخيل العالم بدون إله، حتى لو عبدوه تحت ستار العقل أو العلم.
لكن الأضرار التي أحدثها العقلانيون رممها لاحقًا المثاليون الألمان برؤيتهم الصوفية للروح، وأتباعهم مِن الرومانسيين الذين أعادوا الإله للفلسفة تحت اسم الطبيعة أو الثقافة.
قد تظن أن ماركس قد فعل خيرا عندما نفى وجود إله، لكن بالتدقيق ستجد أن الشيوعية ما هي إلا محاولة إعادة إنتاج الجنة. وحتى نيتشه المسكين، بعد كل الجذب والشد والتهديد والوعيد انتهى به المطاف إلى إعاد بعث المسيح في هيئة «السوبرمان».
لقد سقط حداثيو القرن العشرين في نفس المأزق، وبمنتهى العبث حاولوا أن يجعلوا الفن يسد الفجوة التي أحدثها موت الإله، وإن كان هناك بعض الحداثيين المختليين قد نجحوا في الإفلات من مأزق الدين في السنوات الأخيرة، كانت الفاتورة هي أزمة الأمل والمعنى، تلك الفاتورة التي لا يريد أحد أن يدفعها.
يختتم إيغلتون قوله بأن «الإله جل شأنه» أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الدين لا يمكن التخلص منه، وأن كل الحوارات الدائرة عن وفاة الإله كانت مغالاة، وها هو الإله يفرض نفسه من جديد على أجندة الحوار، وبشكل ساخر.
لقد قدم إيجلتون كل حجة وصبَّ كل نشاطه في الثقافة وموت الإله، إلا أن الكتاب يحتوي على أخطاء جلية جدا. على ما يبدو أن إيغلتون أصبح يعتبر نفسه جيرمي كلاركسون الفلسفة، مُركزًا على الأفكار ذات الصدى العالي، ومع ذلك، يترك انطباعًا أنه لا يأخذ أيا مِن هذه الأفكار على محمل الجد.
لم يكن إيجلتون أبدًا جنديا بارزا في المعسكر الرافض للكلاشيهات، فقد كرر نفسه وكلماته مرارا وتكرارا بلا خجل. وبدلًا من النظر للمفكرين كأشخاص يناضلون بحثا عن مخرج للقضايا الفكرية التي تؤرقهم، يضعهم إيجلتون في قصة «التنوير الذي أنجب المثالية التي بدورها أنجبت الرومانسية التي بدورها أنجبت الحداثة التي بدورها أنجبت ما بعد الحداثة»؛ تلك القصة التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وعندما تعلو صيحات الاستهجان للمثاليين الذين «ازدروا قيم الحياة اليومية بتسامٍ»، أو «الخواء النبيل» و «القدرية السامية» لـماثيو أرنولد، أو «الهراء الليبرالي السامي» لـ سلمان رشدي، كان إيجلتون يبدو كطفل مشاكس ذي قوى تخريبية خطيرة.
وعندما كان يختار الإعلاء مِن شأن كانط، بيرك، كوندرسي، شيلر، ماركس، نيتشه أو فرويد بسبب عظمة كتبهم، أو يقيم آلان باديو «ويكأنّه الفيلسوف الأكثر أهمية في عصرنا» (هههه)، يتحدث إيجلتون بثقة في النفس مُبالغ فيها، بدلا من التواضع الذي قد يكون أكثر تعبيرًا عن العظمة.
اُتهم إيجلتون في بعض الأحيان بتضخُّم الأنا والغرور، لكن لا شيء أبعد من الحقيقة؛ الحقيقة هي أنه يتوارى عن الأنظار بشكل غير عادي، وقد يكون هذا هو الفريد بخصوصه. فـ إيجلتون يبدو كعرائس الاستعراضات التي تتوارى عن الجمهور ولا تظهر إلا إذا ظهر جمهورها أولا.
فكتبه كانت لتكون مختلفة لو أنه أطلعنا على طبيعة الإشكاليات التي تؤرق نومه أثناء الليل، وهل وجد مخرجا من تلك الإشكاليات بمرور الزمن أم لا. بشكل خاص، لقد ذكر إيجلتون أن نشر كتابه الثقافة وموت الله يصادف الذكرى الخمسين لاعتباره مفكرا اجتماعيا.
كان تيري إيجلتون عضوًا بارزًا في مجموعة راديكالية من الرومان الكاثوليك التي أطلقت مجلة سلانت/المائل Slant النشطة لكن قصيرة الأجل في عام 1964.
في أحد مقالاته المثيرة يقول إيجلتون أن المسيحيين لا يمكن أن يكونوا أوفياء «لمغامرة» الإيمان المسيحي إذ لم يعتنقوا الاشتراكية الثورية، ومع ذلك يُجادل إيجلتون بأن الماركسية المادية قد اُستنفذت، وأن المسيحيين وحدهم هم من يستطيعون إنقاذها. «المسيحية»، يشرحها إيجلتون، «دين متطرف ومتصلب؛ متطرف ومتصلب في التسامح والمحبة».
وعلى المسيحيين أن «يعيشوا وقد رهنوا أنفسهم للشهادة»، ليقاتلوا «الرأسمالية البرجوازية»، من أجل «ثقافة حقيقية»، من أجل «مجتمع كامل»، حيث «ينعتق الجسد بالتصوف والزهد»، «فيعيش المسيح الحي حقيقة وليس مجازًا».
قد يبدو تحليل إيجلتون غريب الأطوار نوعًا ما، لكنه قدم تحليله بسذاجة وصدق سريعا ما سيتم زجرهم بتهكم ملتبس. ربما على إيجلتون أن يعود لنفسه الساذجة الضعيفة التي كانت موجودة قبل 50 عامًا. ربما علينا أن نطلب من تيري إيجلتون القديم أن يواجهنا!