ثورة على الثورة: الجذور الثقافية لربيع طهران
ثورة الفيلسوف على الفقيه الولي
يقود تتبع مجريات محاكمة المعارضين الإصلاحيين في إيران على خلفية أحداث الثورة الخضراء في 2009 و2010 إلى استيعاب جانب مهم من ديناميات وتأثيرات الفلسفة السياسية على المجال العام.
فخلال الجولة الرابعة من تلك المحاكمات، وجهت إلى الإصلاحي البارز سعيد حجّاريان تهمة تدشين علاقات مع الاستخبارات البريطانية. حيث ادّعى المدعي العام الإيراني خلال المحاكمة أن حجاريان التقى مرتين جون كين، الباحث البريطاني الشهير في نظرية المجتمع المدني، مضيفًا كذلك أن حجاريان التقى أيضًا الفيلسوف المعروف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس.
آنذاك طلب المدعي العام الإيراني إنزال «أقصى العقوبة» بحق حجاريان الذي يوصف بأنه « دماغ الإصلاحيين»، والذي كان قد تعرض لمحاولة اغتيال العام 2000، والذي يُتّهم بأنه واحد من بين 140 شخصاً نظموا أعمال العنف التي أعقبت فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية.
ما يستحق التوقف هنا في الحقيقة هو إدراك سلطات التحقيق والاتهام في إيران، للخلفيات الفكرية والفلسفية المؤثرة على نشاط الحركة الإصلاحية في إيران، إلى مستوى توجيه الاتهام رسمياً لمنظرين وفلاسفة إيرانيين وغربيين في توجيهها باعتبارها تطبيقًا لنموذج نظرية المجتمع المدني المستقاة من نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس، التي تتناول دور الحركة الاجتماعية في فتح المجال العام وإعادة تشكيله عبر التواصل، الذي يفترض أن يؤدي هنا بنهاية المطاف إلى الديمقراطية، دون الحاجة إلى ثورات عنيفة أو مواجهات سياسية مباشرة للوصول إلى السلطة.
حلقة «كيان» والخطاب التجديدي في إيران
تعد «حلقة كيان» في هذا الإطار أشهر وأهم مركز دراسات لمنظري التيار الإصلاحي في إيران. وقد ارتبط بعض أعضاء تلك الحلقة مثل حجاريان وعلوي تبار سابقًا بمؤسسات تابعة للجمهورية الإسلامية. أما من الناحية الفكرية، فكان العديد منهم محسوبين على تيار اليسار، وكان لهم دور بارز في احتلال السفارة الأمريكية في بدايات انتصار الثورة[1].
قامت هذه المجموعة بعملية مراجعة شاملة لأفكارها، وجعلت دراسة الغرب هدفًا أساسيًا لأبحاثها التي وصل خلالها أعضاء تلك الحلقة إلى استنتاج فحواه أن دمج مجموعة من الخبرات الإيجابية للحضارات الإنسانية المتقدمة، ومنحها الصبغة المحلية مع مراعاة القيم الوطنية، هما الحل الأمثل لصيغة وطنية وإسلامية وغربية متكاملة[2]. وقد لُقّب المفكر الإيراني عبد الكريم سروش بـ «عراب الحلقة»، حيث كان للأخير الدور الأكبر في ترجمة المفاهيم الغربية ونقلها، معطيًا إياها ألوانًا مستقاة من أشعار جلال الدين الرومي والغزالي، وأطلق على سروش ورفاقه في الحلقة بهذا الإطار لقب «المثقفين الدَمجيين»[3].
خلال أواسط عام 1991، شهدت الحلقة اتساعًا كبيرًا، وانضم إليها أفراد جدد من مختلف أنحاء إيران، كما شهدت انضمام مسئولين من وزارة الثقافة والإرشاد ووزارة الاستخبارات، وشخصيات دينية ووطنية، وقد بلغ عددهم في هذا الإطار أكثر من 1000 شخص، كما استطاعت الحلقة في تلك الفترة أن تبني صلات قوية مع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي[4].
يتحدث تاج زاده، وهو عضو بارز في حزب مشاركت، عن حلقة كيان وموضوعاتها الجدلية الخاصة التي أثيرت، فيقول: «كان لدينا مناقشات استمرت أعوامًا بشأن الدين والدنيا والعلاقة بينهما، وكيف يمكن الجمع بين الاثنين معًا، وكذلك الدين والديمقراطية، والدين والحداثة»[5].
تيار «الثاني من خرداد»
يعد وصول الرئيس محمد خاتمي للسلطة عام 1997 علامة فارقة في مسيرة التيار الإصلاحي في إيران، الذي أطلق بعض مجموعاته على نفسه اسم جبهة «الثاني من خرداد» اليوم الذي انتخب فيه خاتمي حسب التقويم الإيراني، وقد ضمت تلك الجبهة في البداية 18 حزبًا يساريًا، لكنها توسعت وتمددت لتصل إلى أكثر من خمسين حزبًا ومجموعة.
في نظر الكثير من الإصلاحيين كان انتخاب خاتمي، بمثابة ثورة استهدفت إعادة تشكيل الهياكل والقيم وقواعد اللعبة السياسية في إيران، بل نظر البعض منهم إلى الحدث على أنه تطور يتجاوز النظام الإسلامي وإطاره العام. حيث عقدوا في هذا الإطار مقارنة بين انتخابات 1997، وبين الثورة الإسلامية ذاتها في 1979[6].
أدخلت تلك الحركة إلى المجال السياسي والمشهد الاجتماعي في إيران، مجموعة من الناشطين السياسيين وعلماء الاجتماع والمفكرين الذين تغذت آراؤهم على النظريات الغربية في المعرفة والدين وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، مثل عبد الكريم سروش وأكبر كانجي وسعيد حجاريان وعطا الله مهاجراني[7]. تغلغلت وانتشرت أفكار هؤلاء بصورة كبيرة داخل لبنية الفكرية للمجتمع الإيراني، ولاسيما لدى الطبقة المتوسطة التي تسكن المدن، وشكلت أساسًا نظريًا لنوع من الحداثة الدينية، التي تهدف إلى تحويل المجتمع نحو العلمانية، وتغيير المشهد السياسي بالكامل في إيران[8].
لم يكن دعاة التجديد راضين عن موقف خاتمي الذي كان يتحرك تحت سقف النظام، وأعربوا عن اعتقادهم أن الإصلاح ودمقرطة المجتمع داخل النظام في إيران سيصلان، عاجلًا أم آجلًا، إلى طريق مسدود، وأن الإصلاحيين يجب أن يتحركوا خارج إطار هذا النظام[9]، وهو ما جرى بالفعل بعد ذلك، خلال موجة الاحتجاجات التي حدثت بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009، والتي عرفت باسم الثورة الخضراء، والتي تجاوز خطابها ومطالبها السقف التقليدي المسموح به للمعارضة السياسية في إيران.
من الثورة المخملية إلى ثورة الفقراء
بعد ستة وعشرين عامًاـ من الإخفاق الذي منيت به ثورة مصدق إثر انقلاب 1953 المدبر من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، فاجأت إيران الجميع بثورتها «الإسلامية» في عام 1979. وشاهد العالم برمته وقتها حصار الإيرانيين واحتلالهم للسفارة الأمريكية في طهران، واحتجازهم طاقم موظفيها، في رد تاريخي لا يُنسى على صفعة 1953.
هذا ربما لأن الثورات لا تموت، إنما تظل نيرانها مشتعلة وحية تحت أكوام الركام من الرماد مهما علت، وينطبق هذا هنا أيضًا على ثورة المثقفين والإصلاحيين الخضراء في إيران عام 2009، إذ أدي تجاوز مطالبها منذ ذلك الحين، وتفاقم الكبت والقمع والبطش الأمني والإعدامات، وخنق المجال العام في ذلك البلد، بشكل أو بآخر، إلى الاحتجاجات التي نراها اليوم، التي ربما هذه المرة دوافعها اقتصادية أكثر منها سياسية، ولا يعلم إلا الله إلى مدى ستتطور.
ماذا نتعلم في العالم العربي ونحن نسير على الخطى ذاتها، بخطى وئيدة، بعد وأد ثورات مثقفينا وطبقاتنا الوسطى خلال ربيعنا الذي لم يكتمل؟ ربما نتذكر هنا على الأقل في الأخير أن الثورات لا تموت، وأنه لا يمكن الالتفاف حول حقوق الشعوب. فإذا لم تنجح في مرحلة ما ثورات أبنائها المخملية، فانتظروا بنهاية المطاف لا محالة ثورة الفقراء.
- فاطمة الصمادي، التيارات السياسية في إيران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولي، أبريل نيسان 2012، ص 154،155
- المصدر السابق ص 155
- المصدر السابق ص 156
- المصدر السابق ص 156،157
- المصدر السابق ص 156
- المصدر السابق ص 136
- المصدر السابق ص 135
- المصدر السابق ص 145
- المصدر السابق ص 153