الأسس الثقافية للثورات العربية
سؤال السياسة في فكر النهضة
في محاولة لتوضيح مفاهيم الاستبداد –وكذلك تجلياته المتعددة– ينشغل الفصل الأول من كتاب الأكاديمي الراحل علي مبروك: «ثورات العرب – خطاب التأسيس» الصادر عن دار العين بالقاهرة 2012، بإبراز الكيفيات التي يعمل من خلالها الاستبداد الراسخ في المجتمعات العربية. يتزامن ذلك مع الحرص على نقد قراءات مفكري النهضة العربية (الآباء المؤسسين ومن تلاهم) للاستبداد وأزمة النهضة العربية، بالإضافة لطرق التفاعل مع الحداثة الأوروبية التي (قُصِفَ) بها العرب في بدايات القرن التاسع عشر.
والحق أن السعي وراء تفسير فوات العرب التاريخي ومحاولات تفسير أسباب إخفاق نهضتهم لا بد أن يأخذ في الاعتبار الطريقة التي قارب من خلالها مفكرو النهضة العربية هذه الإشكاليات.
ولسوء الحظ، لم تخلُ مقاربة أيٍ منهم من «سؤال السياسة» الذي أصبح مركزي الحضور في بنية هذه الخطابات للدرجة التي قد تجعلنا نَصِف خطاب النهضة العربي –بشكل شبه عام– بأنه «خطاب النهضة السياسوي». بل يمكننا أن نؤكد تزامن ميلاد الفكر العربي الحديث والمسألة السياسية فيما يمكن الإشارة إليه بـ «التطابق في لحظتي النشوء والانبثاق» بينهما.
ويرتكز النقد هنا على إبراز أزمات القراءة بالسياسة في الخطابات العربية بشكل عام، والتي يعد «الفصل الكامل للمفاهيم عن السياقات التاريخية والمعرفية التي يراد زرع المفاهيم فيها» من أبرز آليات الاشتغال المتعلقة بها، وذلك تأسِّيًا بالحراك السياسي الذي ينشغل، وبالأساس، بقطف الثمرة، وليس أبدًا تقليب التربة وغرس البذرة.
ويضاف لأزمات القراءة عند مفكري النهضة من العرب تفكيرهم في أوروبا. «فقد بدا وكأن الوعي لم يعرف سبيلاً إلى تجاوز ما أدركه من حقيقة تأخر واقعه وفواته إلا عبر القيام، على طريقة الأسلاف من الفقهاء، بالممارسة بمبدأ القياس». وقام بتجريد العلة المؤسسة والمنتجة للحداثة وحاول تفعيلها عملاً بمبدأ «كُن فيكون» الإلهي!
وضمن هذا السياق، حضر التراث حضورًا احتل من خلاله موقع «السلطة» و «المعيار»، ولم يكن أبدًا موضوعًا لـ «تفكير» أو «سؤال». ولعب الطهطاوي الدور الأبرز، والتأسيسي كذلك، في توظيف التراث لتحديد ما يجب أخذه وما يجب الفرار منه أو نبذه من الحداثة، بل ويصل الأمر لوجوب التسلح بسلاح من القرآن والسنة ضد أحد أبرز جوانب الحداثة؛ ألا وهي الفلسفة. وغني عن البيان أن التسلح لا يحيل إلى أي إمكانية للتفاوض بقدر ما يتعلق بالانشغال بالاشتباك والسعي للانتصار.
ويحضر خطاب رفاعة رافع الطهطاوي في هذا الفصل بشكل بارز نظرًا لأهميته حيث يعتبر من أوائل الملتقين بالحداثة الأوروبية حين أرسله محمد علي باشا مع بعثة تعليمية لباريس. كما أن موقفه من ولاية محمد علي باشا لمصر وسلطته يظل كاشفًا –بشكل جلي– عن طريقة في التفكير تهيمن على الوعي العربي، وهي طريقة «التجاور»، وكذلك التفكير في الحداثة نفسها بالطريقة العقائدية السائدة «أي بالعقيدة الأشعرية». وغني عن البيان أن هذا التجاور –ما بين دولة حداثية تمارس بالتقاليد والتراث كسلطة حاكمة للتصور الحداثي– لا ينتج إلا دولة مستبدة تتلاعب بمفردات الحداثة لترسيخ استبدادها.
الجامعة المصرية: الانتقال من السياسي إلى المعرفي
وفي الفصل الثاني، وكنتيجة مترتبة على إدراك ضرورة إنجاز الانتقال من «القوة» –كأساس لمشروع النهضة العربية– لسؤال «المعرفي والتأسيسي»: تأسست الجامعة المصرية.
بمعنى آخر: كان القصد من إنشاء الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن) عند بدايات القرن الماضي، هو إقالة مشروع النهضة الحديثة في مصر من عثرته التي كان قد تردَّى إليها على مدى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. حيث ظهر للكثيرين من أهل النخبة آنذاك أن الوقت قد حان لتأسيس النهضة الحديثة من خلال امتلاك (العقل) بعد أن ظل سائدًا على مدى القرن التاسع عشر أن امتلاك (القوة) هو السبيل إلى بناء النهضة.
ويبدو الآن أن الجامعة، وللأسف الشديد، لم تنجع في سعيها الرامي للتأكيد على ضرورة انشغالها بنشأة العقل العلمي –أو التربية الفلسفية للعقل – بدلاً من الاكتفاء باقتناء ثمرات العلم.
وبدا وكأن الخطاب الموروث من لحظة التأسيس الأولى ظل يعيد إنتاج نفسه ضمن لحظة التأسيس الثانية ومن وراء أسئلتها. واستمر ذلك الحضور من خلال تجليه بشكل واضح في التعامل مع كل أبناء الجامعة الذين سعوا لإثارة الفكر النقدي فيها مثل: طه حسين، وأمين الخولي، ومنصور فهمي، ومحمد أحمد خلف الله، ونصر حامد أبو زيد.
وفيما يتعلق بنصر حامد أبو زيد، فإن كل سعيه كان راميًا لنقد –وأحيانًا نقض– سلطة تمتلك الكثير من الدهاء وتجيد التخفي خلف أستار مغايرة لطبيعتها البنيوية، وتقدم دائماً نفسها باعتبارها «الحقيقة». ومن هنا برز مفهومه المتعلق بضرورة «التحرر من سلطة النصوص» الذي أسيء فهمه – عن عمد كما يبدو – ليصبح في نظر خصومه مفهوماً يدعو للتحرر من النصوص نفسها؛ أي القطع معها بالكلية. أدرك أبو زيد الحمولة الإيديولوجية المختبأة خلف النصوص حين يتم مقاربتها كسلطة.
ويمكننا، بإيجاز شديد، أن نوضح أنماط العلاقة التي يمكن أن تُقام مع النص:
1. علاقة الهوية (وهي العلاقة الأكثر فقرًا على مستوى الإنتاج المعرفي): ووفق هذه العلاقة فإن النسق الذي كُتب له أن يهيمن ثقافيًا داخل التراث قد وضع نفسه مع النص في هوية واحدة «والهوية هي علاقة لا شك». وبالتالي، وعلى الرغم من كونها علاقة، إلا أن طرفا العلاقة قد انطبقا تمامًا.
2. علاقة المغايرة: وكما يتضح من التسمية، فهي ترسم حدوداً لكل طرف من طرفي العلاقة، وفيها، يتم الإقرار باللا-تطابق بين الطرفين. وبالتالي تتيح التبادلية بينهما دوراً يجعل طرفي المعادلة لا يتوقفان عن الاغتناء من بعضهما البعض.
وبالتالي فالعلاقة الأولى «لا تسمح للشيء إلا بأن ينفتح على مجرد ذاته؛ وبما يعنيه ذلك من انغلاقه عليها في الحقيقة»، (بينما) تسمح علاقة المغايرة للشيء بأن ينفتح على غيره فيوسّعه ويتسع به في الوقت نفسه؛ وأعني من حيث يسمح له هذا الانفتاح على الغير من أن يتكشّف عن ممكناته المحايثة لوجوده، والتي ما كان لها أن تتكشّف وتظهر في الوجود إلا عبر هذا الانفتاح على الغير.
ويبدو أن الوصاية تمارس على مفكري الجامعة، ومن خلال الجامعة نفسها. وهو الأمر الذي لن يتم تجاوزه إلا عبر نقد وتفكيك خطاب الوصاية ذاته؛ «وهو ما يعني ضرورة أن تقوم الجامعة بتفكيك الشروط التي تؤسس، من جهة، لاستمرار سيادة العقل التقليدي الناقل، وتحول، من جهة أخرى، دون تبلور العقل الناقد بما هو الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء النهضة. وحين يدرك المرء أن الثقافة التقليدية السائدة هي الساحة التي يتبلور فوقها هذا التفكيك، فإن ذلك يعني أن الاشتغال الجوهري للجامعة إنما يتحدد بضربٍ من المواجهة المعرفية والنقدية مع الثقافة التقليدية السائدة».
المثقف والتراث
وفي الفصل الثالث، وانطلاقًا من الإقرار بأن كفاءة أي تحليل إنما تتأتى من قدرته على اكتشاف العلاقات الباطنة بين المفاهيم، حاول هذا الفصل كشف طريقة تفكير المثقف العربي منذ بدايات التفاعل مع الحداثة وحتى وقتنا هذا.
وإن كان التحليل قد تكشف عن طريقة مقاربة آباء النهضة للواقع كممارسة (وهي المقاربة البرانية للواقع)، فإن المثقف العربي المعاصر –الذي سعى لترسيخ سلطته كناقد للتراث– لم يكن يمارس نقدًا معرفيًا يسعى لكشف التحولات البنيوية في قلب النسق الثقافي الحاكم والمهيمن [أي نقد نظام المعنى]، وإنما اكتفى بنقدٍ سطحي وعلى نحو يؤكد أن كافة الإيديولوجيات العربية المعاصرة (ليبرالية وقوموية وماركسية وإسلاموية وعلمانوية … إلخ) إنما تمارس بطريقة في التفكير تجعلها تندرج ضمن منطق «التبدل» السطحي وليس «التحول» البنيوي. أي أن تلك القرارات لا تتعلق بالكشف عن التحولات البنيوية في الثقافة بقدر ما تتعلق بالتناحر الإيديولوجي بين تلك الخطابات وكأن ثأرًا أزليًا بينهم.
ويتأسس على انشغال تلك المقاربات بالبرَّاني أن الاستبداد يتم نقده في جانبه الأكثر سطحية (أي جانبه السياسي) دون الانشغال – بحق – بالنظام الثقافي الذي هيمن على الوعي العربي والإسلامي على مدى قرون. ونحن حين نشير للهيمنة (هيمنة خطابات بعينها في التاريخ)، فإننا نشير لخطاب (أو نظام) تحققت له السيادة داخل التراث عبر عملية إقصاء تاريخية ومعرفية لكل ما سواه من خطابات أو أنظمة. وهو ما يحيل إلى تخفي سلطة القوة والسعي ورراء ترسيخ الهيمنة وراء سلطة الحقيقة.
يتعلق الأمر إذًا بالكشف عن الكيفيات والآليات التي اكتسبت بها هذه الأنظمة أو الخطابات الهيمنة والسيطرة. ومن أهم هذه الآليات تعالي الخطابات لمقام القداسة لكي تكون عصية على النقد وبعيداً عن أن تكون موضعاً للتساؤل. وفي تلك الحالة، فإن الخلاص يكمن في الارتداد بتلك الخطابات من فضاءات المقدس إلى العالم الإنساني مرة أخرى. لأن الخطابات المُنتَجَة حول “المقدس” تظل – في النهاية – خطابات بشرية، بكل ما يعتمل داخل الخطاب البشري من خواص.
ومن هنا حرص هذا الفصل على إبراز إشكاليات مثل «الثنائيات الضدية في العالم العربي» و «التباين بين الثقافة العربية من جهة والعلم الحديث من جهة أخرى» والسعي وراء تحديد مكانة العقل في الخطاب.
بين المعرفي والأيديولوجي
وفي الفصل الرابع يتم الاشتغال على أزمة تبتلع بداخلها أغلب –إن لم يكن كل– الخطابات المعرفية المعاصرة. ويبدو، وللأسف الشديد، أن هذه الخطابات تحتوي في بنيتها على ما جاءت أساسًا للتغلب عليه أو تجاوزه. ونعني بذلك حضور الإيديولوجيا –بالمعنى السلبي للمفهوم– فيها. وهو ما يجعلني أفضل تسميتها بالقراءات المحددة الوجهة سلفًا.
أصبح الأمر -والحال كذلك- نقدًا معرفيًا معبأ بالإيديولوجيا. وهو نقد لن يصل لأهدافه. وبمعنى آخر، تحتاج هذه المشاريع الفكرية العربية النقدية المعاصرة لنقدٍ معرفي حقيقي يحاول فضح أو كشف الإيديولوجيا المضمرة فيها.
وينصب التحليل في هذا الفصل على أنموذجين لتلك الخطابات المعرفية المعاصرة: محمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي. فقد أقام طرابيشي عدة كتب للرد على الجابري، على مستوى الأطروحات الفكرية للجابري وكذلك على المستوى الشخصي. ويعد الجابري من أوائل من أدخلوا مفهوم «الإبستيمولوجيا» للثقافة العربية وقام بتقديم أطروحات تحاجج بأنها تستخدم «المعرفي» وتسعى وراء قطف ثمار نتاجه.
ويدرك القارئ والمحلل لنصوص المفكرين (الجابري وطرابيشي) أن الإيديولوجيا هي الفاعل الأكبر في الخطابين للدرجة التي تجعل من الممكن وصف الصراع بينهما بأنه «صراع الإيديولوجيا» بامتياز.
وتتبدى الإيديولوجيا، على سبيل المثال، في الفكرة التي ربطت –أو لعلنا نقول طابقت– بين المعرفي والجغرافي. وكذلك ظاهرة مثل الاعتساف المفاهيمي في خطاب الجابري. بل وتظهر كذلك في رغبة طرابيشي بالانتقام حين وصف نفسه بأنه أحد أتباع الجابري الذين بايعوه أستاذًا للتفكير ثم لم يلبث أن كرَّس جزءًا قيّمًا من كتاباته –وبناء على ذلك قراءاته– لفضح خطاب الجابري والكشف عن تهافته المعرفي.
وعلى مستوى التحليل المعكوس الذي جعل طرابيشي يتحرك في خطابه والجابري نصب عينيه، فإننا سنجد أن الجابري «يؤسس لأصالة «مغربه» عبر توظيفه لمفهوم القطيعة المعرفية -الذي استعاره من النقد المعرفي المعاصر- للتمييز بين مشرق، يفكر بعقل بياني صوفي، ومغرب، يتميز -في المقابل- بعقل برهاني منطقي، فإنه قد تعامل مع هذا العقل الأخير بوصفه محض امتداد -في الجوهر- لعقلانية الإغريق ومنطقهم. وابتداءًا من أن تلك العقلانية الإغريقية كانت السلف المباشر للعقلانية الأوروبية الحديثة؛ وبما يعنيه ذلك من إشتراك عقل المغرب البرهاني مع عقلانية أوروبا الحديثة فى الإنتماء إلى سلف واحد، فإن ذلك لابد أن يجعل مهماز قيادة الحداثة العربية بيد المغرب، وليس المشرق الذى آل إمساكه بهذا المهماز، لعقود عدة، إلى ما يعانيه العالم العربي من كل عوارض الإفلاس والخيبة. وفى مواجهة تلك الدعوى، فإن طرابيشي قد راح يؤسس لأصالة ومركزية «مشرقه» من خلال النظر إلى مراكزه الحضارية القديمة (ومن بينها المركز الفينيقي بالذات الذى لعب دوراً حاسماً فى بناء العقل اليوناني) بإعتبارها الأصل فى تبلور العقلانية الإغريقية ذاتها؛ وعلى نحو يمكن معه إفتراض كونها أصلاً لعقلانية أوروبا الحديثة بالتالي».
والحق أن نقدًا للمشروعين يكشف عن أن طرابيشي لم يفعل، في العمق، إلا أن أعاد إنتاج مشروع الجابري في «نقد العقل العربي» وإن على نحو معكوس. وهو الأمر الذي يحيل إلى أن الخطابين يتفقان على صعيد نظام البنية العميقة ويختلفان على صعيد المضمون السطحي فقط.
الدولة العربية الحديثة
ويسعى الفصل الخامس والأخير لما هو أكثر من الكشف عن أشكال الاستبداد وتجلياته؛ فينشغل بتوضيح وإبراز العوامل الأساسية التي تطيل من أمد بقاء دولة العرب الحداثية شكلًا، التقليدية على مستوى البنية التكوينية. بالإضافة لفضح ممارسات النخبة البائسة التي لا تملك – حتى في معارضتها للدولة – إلا سلاح السخرية والتشدق بالسخيف من القول. وهو الأمر الذي يقوي من هيبة الدولة محل النقد كما أنه يتحول لمُسَكِّن قوي، حلو المذاق، يتجرعه المجتمع فيلحقه ما لحق بنخبته من عجز عن إدراك الواقع الفعلي. والحق أن النخبة العربية، كما يتبين من ممارساتها، هشة، تابعة للدولة. ولعل ذلك يرتبط بأن خطاب الحداثة العربي قد تبلور، ومنذ البدء، بوصفه (خطاب دولة)، لا (خطاب مجتمع).
ويركز هذا الفصل كذلك على مقاربة العقل، لا كمعطى مطلق، متجاوز للحظات التاريخية، وإنما كتكوين تاريخي متجاوز لنفسه في كل مرحلة؛ أي أنه يتطور. وبمعنى آخر، فإن العقل لا يكف عن تجاوز ذاته أبدًا.
وأما الدولة الحديثة عند العرب فهي لم تأخذ من الحداثة إلا الاسم والممارسات الإجرائية (كصندوق الانتخاب في العملية الانتخابية كتعبير شامل عن الديمقراطية في إغفال متعسف لثقافة الديمقراطية نفسها) بينما احتفظت في بنيتها الأعمق بالحمولة التراثية الثقافية. وهو الأمر الذي ساهم في ولادة دولة حديثة/تقليدية تمارس الحداثة بالتراث، وتجمع بين مفاهيم متباينة لا تنتمي لنفس السياق التاريخي أو المعرفي أو الثقافي وتجاور بينهم وتتشكل من خلالهم. ونجد أن «العصبية» على سبيل المثال هي التي تحدد طبيعة وجوهر الدولة العربية الراهنة، بل ويُفهم من خلالها ممارسات الدولة كذلك.
وفي كلمة واحدة، فإنها دولة الحداثة العربية اسمًا، بينما، على مستوى التحقق الوجودي، فهي دولة «القبيلة» بامتياز. ولكنها قبيلة تمتلك أدوات حداثية. لكن يظل الاستبداد فيها حاضراً، ولكنه يتجمل بمساحيق الحداثة وزركشاتها ويرفع راية الدولة المدنية (دولة المواطنة) وهو -في العمق– ينادي بروابط العصبية القبلية أو يستنسخها على هيئة عصبيات أخرى.
والدولة العربية، حين تسعى لتفعيل نموذج آخر، خارج عن سياقها التاريخي والزماني (مثل أن تستعير نموذج الغرب أو السلف) تثبت تبعيتها على المستوى الفكري قبل المستوى السياسي أو أي مستوى آخر. وللأسف، فإنه يبدو أن النخبة العربية البائسة تسير على درب الدولة في إذعان وخضوع.