عن عبادة المشاعر: من «جمال مبارك» إلى إعلانات «اندهش»

إذا كنا نحيا العصر الذهبي للترفيه، حيث تحيط بنا وسائله من كل جانب، فهو ترفيه قائم على المشاعر المفرطة بلا شك. الأفلام الأكثر نجاحًا اليوم هي الأكثر تهييجًا للمشاعر، سواء الرومانسية والدرامية والتشويق والرعب وغيرها، بل كثيرًا ما يمدح العمل الفني صراحة بأنه مفعم بالمشاعر. يقضي الإنسان المعاصر عطلاته المثالية في الملاهي وبيوت الرعب التي تحبس الأنفاس، أو في تسلق الجبال والقفز من الأعالي إذا استطاع.

التقطت الماكينة الاستهلاكية الولع المعاصر بالمشاعر المفرطة، ووظفته في شعاراتها وحملاتها الإعلانية، فرأينا «اندهش» و«اتجنن» وغيرهما. أدرك السياسيون أهمية المشاعر فتخلّوا عن الوجوه الجامدة وحرصوا على التعبير عن مشاعرهم في شتى المناسبات، لا شك أن ذلك كان سبب حرص نجل الرئيس المخلوع على حضور عدد من البطولات الكروية.

رصد عالم الاجتماع الفرنسي «ميشيل لكروا» ظاهرة الولع بالمشاعر، وأطلق عليها اسم «عبادة المشاعر»، جاعلًا إياه عنوان كتابه الذي صدرت طبعته العربية عام 2017 بترجمة الدكتور «أمين كنون» عن دار أفريقيا للنشر. حلل لكروا في كتابه حالة الصحوة العاطفية العالمية، كاشفًا عن جوانب عدة جديرة بالانتباه، بداية من أسباب تلك الظاهرة.

جذور الديانة العصرية

شكّل اللجوء للحياة العاطفية مهربًا من الفراغ الناتج عن أفول الأيديولوجية وضبابية المستقبل. لا يملك الإنسان المعاصر مشروعًا ضخمًا ينفس فيه عن طاقاته. ليس ثمة أمل في تغيير جذري، وبدلًا من الفعل في الخارج لجأنا إلى العمل على دواخل النفس البشرية. في عصرنا المفعم بالفردية، تجاوزت المشاعر أيضًا كونها مهربًا من اليأس إلى أداة لتحقيق الذات وعيش تجربة كاملة مفعمة بالإنسانية؛لكن عبادة المشاعر ليست مجرد موضة أو حدث عابر، بل هي نتيجة للمسيرة العلمية أيضًا.

أهمل علم النفس المشاعر البشرية طويلًا، تأثرًا بالنظرة الداروينية التي اختزلت أهميتها في غايتها العملية مثل الحماية أو تعديل السلوك. رأى بعض مختصي التطور أن تغيرات الحياة جعلت من المشاعر – التي كانت أمرًا إيجابيًا – شيئًا سلبيًا، حتى صارت مرادفًا للخلل العقلي في الخمسينيات والستينيات.

اتخذ العلماء موقفًا سلبيًا من المشاعر كرد فعل على الفظائع التي ارتكبتها جماهير هتلر وموسوليني المتحمسة، ورغبة في الحيلولة دون تكرار هذا النوع من التأثير. اقترح الروائي والناقد البريطاني اليهودي «أرثر كوستلر» (1905–1983) تعميم استخدام مضادات الذهان لتصحيح الخطأ البيولوجي: المشاعر.

شهدت السبعينيات عامة تغيرات علمية وفكرية هامة، إذ تراجعت مكانة الحتمية، وظهرت نماذج فكرية قائمة على الصدفة والعشوائية. قدمت فكرة الطفرة التطورية اعترافًا بقيمة الخطأ كمخصب، وأمكن تعميم نفس الفكرة على المشاعر باعتبارها عاملًا لتطورات خارقة.

في العام 1973 نشر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» كتابه الهام «الجذور المفقودة: الطبيعة الإنسانية»، حيث طالب بمزيد من التقدير للتقلبات العاطفية والانفعالات المفرطة واللا عقلانية. بمرور الوقت صار ينظر إلى كبت المشاعر وتجاهلها على أنه موطن خطورة خاصة عند اتخاذ قرارات مستقبلية، وصار تحرير المشاعر هو الشعار الجديد

نحو تحرير المشاعر

تتم عملية التحرر الشعوري عبر عدة مراحل. من الناحية السوسيولوجية، يستلزم تحرير المشاعر التحرر أولًا من الإكراهات الاجتماعية المفروضة، إذ كان المجتمع وما زال العامل الأكبر في قمع التجاوزات الشعورية. يوجه الأفراد اليوم قدرًا كبيرًا من طاقاتهم ضد المجتمع، لاكتساب مساحات فردية-علنية جديدة.

يتطلب تحرير المشاعر عملًا على الذات هو في الوقت نفسه عمل على الجسد، عبر ترسانة من الأدوات الهادفة إلى تربية الإحساس، كي يصبح الفرد أكثر استقبالًا للمشاعر. يمارس الفرد اليوم تمارين تمديد العضلات، والاسترخاء، والتنفس، واليوجا التي تهدف أنواع منها لا إلى الصفاء التام بل إلى التوحد بعنصر حسي ما قد يكون رائحة.

إلى جانب الناحية السوسيولوجية، والعمل على الذات، يتطلب تحرير المشاعر المعاصرة إجراءً يدخل في إطار العلاجات النفسية. تهدف بعض العلاجات النفسية اليوم إلى تحرير الطفل الكامن داخل كل إنسان، عبر علاجات أحيانًا غير شفوية تستهدف إطلاق أكثر المشاعر عنفًا وجموحًا بطرق مثل الصراخ والسب والضرب الهائج لدمى تمثل الأشخاص محل السخط.

مشاعر التأمل المغدورة

يحذرنا لكروا من تدهور حياتنا الشعورية نتيجة التهييج الشعوري الزائد، مميزًا بين نوعين من المشاعر؛ أولاهما مشاعر لحظية تنفجر على شكل صاعقة أسماها «مشاعر الصدمة»، والأخرى مشاعر أطول عمرًا وغنى أسماها «مشاعر التأمل».

يمكن تمييز حالات «مشاعر الصدمة» بما تدفع إليه الفرد خلال الاستغراق في النشاط من صرخة، كما أن عمرها القصير بما لا يسمح بالتنوع والنضج. تدفع «مشاعر الصدمة» الفرد إلى تكرار النشاط بشبه قهرية طمعًا في مزيد من ذلك الشعور المفرط وما تصاحبه من إفرازات كالأدرينالين في بعض النشاطات.

تثير «مشاعر التأمل» نوعًا من التنهد الخفيف، كما أنها أطول أمدًا، تسمح للحدث العاطفي بالتعمق والتجذر في النفس وتغييرها وإثرائها. يسمح طول عمر «مشاعر التأمل» بالانتقال من مرحلة المشاعر إلى مرحلة الأحاسيس، وكذا بالتلذذ بها على عكس «مشاعر الصدمة».

تعاني الحياة العاطفية للإنسان المعاصر من اختلال بسبب الإفراط في «مشاعر الصدمة» ونقص «مشاعر التأمل»، فهو يدمن المشاعر المتفجرة ويمل الشعور العاطفي، ما يوقفه في فخ نتيجة طبيعة «مشاعر الصدمة» قصيرة الأمد.

«مشاعر الصدمة» أشبه بتدفق مفاجئ، مهمته بالأساس إبقاء الفرد حيًا، إذ تنبني علاقتها بالعالم على الفعل لا التحليل، مثل حالة الخوف والمفاجأة والغضب. «مشاعر التأمل» حالة داخلية شاعرية تتسم بالخشوع، تعنى بالاستمتاع بالعالم وإثراء الروح، تظهر – مثلًا – عند الاستماع إلى موسيقى هادئة أو قصيدة شعرية أو التأمل في جمال الطبيعة، لذا فهي أكثر صلة بالحياة الباطنية.