عملات رقمية مشفرة: دليلك لعالم جديد مثير
ليست هذه مبالغة فقد حدث ذلك بالفعل يوم 22 مايو عام 2010 بين اثنين من أعضاء منتدى البيتكوين على الإنترنت، ويعادل هذا المبلغ في لحظة كتابة التقرير حوالي 395 مليون دولار ونصف، لكن بالطبع الأمر لا يمكن طرحه بهذه البساطة فقد مرت العملات الرقمية بالكثير من التغيرات الفاصلة.
كان آخرها إقرار البرلمان السلفادوري قانونًا يعتبر البيتكوين عملة تداول قانونية مثلها مثل الدولار الأمريكي، وإذا ما استكملت الخطوات التنفيذية لإقرار القانون ستصبح السلفادور الدولة الأولى التي تعتبر البيتكوين عملة قانونية رسميًا.
دفع هذا التطور غير المسبوق المتحدث باسم صندوق النقد الدولي إلى التحذير من مخاطر استخدام البيتكوين في المعاملات اليومية، لكن الأمر برمته يمكن اعتباره يحدث في سياق جنوني مثلما وصفه المصرفي الأمريكي الشهير «كين موليس»، الذي يرى أن الوضع الحالي يشبه طفرة الاندفاع نحو الذهب التي حدثت في كاليفورنيا عام 1848، فحينها لم يكن الكثيرون يعرفون ما إذا كان هناك ذهب تحت الأرض بالفعل أم لا، مؤكدًا على أنه ما زال حذرًا من دخول عالم العملات الرقمية.
عودة إلى أوائل الثمانينيات.. كيف كانت البداية؟
حتى نستطيع فهم الجذور التاريخية للعملات الرقمية سنعود بالزمن إلى عام 1982م لنتعرف على عالم التشفير الأمريكي ديفيد تشوم الحاصل على الدكتوراه في علوم الكمبيوتر وإدارة الأعمال من جامعة كاليفورنيا، والذي يصفه البعض أنه «أبو النقود الرقمية».
عقد «تشوم» المؤتمر السنوي الأول للعملات المشفرة «CRYPTO- 1982» الذي ضم العديد من المتخصصين في المجال، وقدم ورقة بحثية يمكن وصفها بأنها بذرة أول بروتوكول نقدي رقمي، إذ ضمت اقتراحًا بإنشاء نظام دفع رقمي قائم على التشفير.
أنشأ ديفيد بعد ذلك أول شركة لتقديم خدمات الأموال الإلكترونية في عام 1990م بالمشاركة مع أشخاص آخرين متخصصين في علم التشفير، وتطور الأمر بعد ذلك في عام 1994 بالإعلان عن برنامج يُدعى «إي كاش» يسمح بتنفيذ مدفوعات بأموال إلكترونية من خلال أجهزة الكمبيوتر، إلا أن شركة «تشوم» أعلنت إفلاسها في عام 1998م، وقد أعرب في مقابلة أجريت معه في عام 2019م عن أسفه لفشل العملات المشفرة الموجودة حاليًا في تحقيق رؤيته الخاصة للنقد الرقمي.
مرت السنوات بعد إفلاس شركة «تشوم» إلى أن نُشرت ورقة تتعلق بتأسيس نظام عملة البيتكوين عام 2008، لشخص أطلق على نفسه اسم «ساتوشي ناكاموتو» والذي لا تزال هويته مجهولة حتى اليوم رغم الضجيج الذي أحدثته عملته في العالم.
وانطلقت في عام 2009 عمليات تعدين البيتكوين ونظرًا لأنها كانت عملة لم يتم تداولها مطلقًا فقد كان من المستحيل معرفة قيمتها الفعلية، وحينها جرت أول عملية مقايضة أشرنا إليها في بداية التقرير ببيع البيتزا مقابل 10 آلاف بيتكوين.
تعرضت البيتكوين بعد ذلك لفترات صعود وهبوط كثيرة منها أنها في عام 2013 وصلت قيمتها إلى ألف دولار ثم انخفضت إلى 300 دولار قبل أن تعاود الارتفاع مرة أخرى، إلى جانب تعرض بعض ملاكها إلى حادث سرقة في عام 2014 كانت حصيلته فقدان 850 ألف بيتكوين لم يٌعرف حتى اليوم إلى أين ذهبت.
بمرور الوقت لم تعد بيتكوين وحدها في سوق العملات الرقمية، فقد ظهرت العديد من العملات الأخرى، لكنها لم تستطع أن تتصدر السباق حتى اليوم.
تشعر بالعجز عن فهمها.. إليك كيفية عملها ببساطة
تعد عملية تعدين العملات الرقمية من أكثر العمليات غموضًا بالنسبة لمن هم بعيدون عن تداولها، وحتى نبسط الأمر فالتعدين يقوم فيه مستخدمو العملات الرقمية الذين يُطلق عليهم مجازًا تسمية «عمال المناجم» بحل الخوارزميات وفك الشفرات الرياضية المعقدة اللازمة لإنتاج عملة جديدة مستعينين في ذلك بأجهزة كمبيوتر ذات قدرات خاصة.
وتُحفظ هذه البيانات وعمليات التداول في سلاسل محاسبية، ومع كل عملية نقل أو تبادل لعملة رقمية يكون المختص في تعدين العملة هو المسؤول عن توثيق البيانات الخاصة بهذا التبادل وإضافتها إلى السلسلة الكتلية.
وحتى نستطيع فهم عالم العملات الرقمية لا بد لنا من الرجوع خطوة إلى الوراء للمقارنة بينها وبين العملات التقليدية، والتي تتحكم فيها البنوك المركزية في كل دولة ما يعني أن المعاملات الخاصة بها تمر عبر النظام المصرفي المركزي ويتم تسجيلها والتحقق منها من خلاله، بينما بالنسبة للعملات المشفرة فهي تستخدم الأنظمة اللا مركزية ويمكن لأي شخص أن يرسل أو يستلم مدفوعات دون أن تمر عبر البنك المركزي.
لكن هناك اختلافات بين العملات المشفرة في خصائصها، فعملة مثل «ليبرا» التي أطلقتها منصة «فيس بوك» تختلف عن العملات الأخرى في كونها مدعومة بأصول حقيقية وهو ما يجعلها أكثر استقرارًا وأعلى قيمة، بالإضافة إلى كونها مدعومة من شركات قوية مثل «باي بال» و«فيزا».
«بيتكوين» و«دوجكوين» وغيرها.. ما الفرق بين أشهر العملات الرقمية؟
أخذت أنواع العملات الرقمية في التزايد مؤخرًا بعد صعود قيمة البيتكوين بالأخص، وأصبحنا نستيقظ أحيانًا على أخبار تشير إلى صعود غير متوقع لإحدى العملات، ما يجعل البعض يقعون في حيرة عند محاولة التعرف على أهم العملات الرقمية ربما للاستثمار فيها أو حتى لمجرد المعرفة، لذلك إليك أهم أربع عملات رقمية:
1- البيتكوين: العملة الرقمية الأكثر استخدامًا في العالم فحتى وقت قريب كانت تستحوذ على 70% من سوق العملات المشفرة، وأصبحت اليوم العديد من الشركات تقبل التعامل بها في معاملاتها المالية، ما يجعلها العملة الأقرب لمساحة العملات التقليدية.
2- الإيثريوم: ثاني أكثر العملات الرقمية شيوعًا وقد أُطلقت في عام 2015، ومن الملاحظ أنه أُجريت عليها العديد من التحسينات المهمة مثل: وجود العقود الذكية التي تفرض أداء المعاملة بشكل معين وتجبر الأطراف على عدم التراجع عن اتفاقيتهم، وتتضمن آليات لاسترداد الأموال في حال انتهاك أحد الأطراف للاتفاقية.
3- اللايتكوين: واحدة من أوائل العملات المشفرة فقد أصدرت في عام 2011، وهي تعتمد على عدم الخضوع لسيطرة أي سلطة مركزية وتتصل بشبكة دفع عالمية مفتوحة المصدر، وعلى الرغم من التشابه بينها وبين البيتكوين في نظام التعدين إلا أنها تتمتع بمعدل أسرع لتوليد الكتلة، مما يعني وقتًا أقصر لتأكيد المعاملة.
4- الدوجكوين: ترتبط تسمية هذه العملة بميم شهير انتشر على الإنترنت مما جعل مبتكريها يصفونها بأنها عملة مرحة، وهي رابع أكبر عملة من حيث القيمة السوقية، وقد ساهم إيلون ماسك بتغريدة غامضة عنها في رفع قيمتها بشكل كبير.
ملامح التكنولوجيا المالية تتشكل من جديد
تنعكس آلية عمل العملات الرقمية المشفرة على حدوث ما يمكن تسميته بثورة في مجال التكنولوجيا المالية من خلال أكثر من محور، في مقدمتهم أنها تعمل على إنشاء سلسلة رقمية لا تنتهي، وذلك مهم في الصناعات المصرفية والمحاسبية أن يكون هناك سجل دقيق للمعاملات، وعندما يحدث ذلك تلقائيًا فهو يوفر الكثير من الوقت لتسجيل هذه المعاملات يدويًا، بالإضافة إلى أنها تحمي من الاحتيال فالعمليات التي تحدث مرتبطة بالحسابات التي أجرتها، مما يتيح مساحة واسعة للمساءلة ومساحة أقل للاختراق.
وتساهم العملات الرقمية أيضًا في إزالة الصورة التقليدية للتحقق من صحة المعاملات بوجود ثلاثة أطراف، ففي البنوك هناك موظفون كل دورهم يتمثل في تدقيق المعاملات، بينما هذا لا يحدث في عالم العملات الرقمية المشفرة ويتم التحقق من صحة المعاملة تلقائيًا.
أما الجانب الأخير فيتمثل في إضفاء الطابع الديمقراطي على إدارة الأموال، فكل شخص لديه عملات رقمية يمتلك مفتاحًا خاصًا بدونه لا يستطيع تحويل العملات أو إنفاقها، وذلك على عكس التعامل مع البنك على سبيل المثال فهناك شخص آخر تعتمد عليه لإدارة أموالك وهو ما سيحدث نقلة كبيرة في الصناعة المالية التقليدية.
لماذا يفضلها المؤيدون وينبذها المعارضون؟
أحدثت العملات الرقمية المشفرة انقسامًا في المجتمع الاقتصادي، فهناك من يراها أنها يمكن أن تحل محل العملات التقليدية نتيجة شعبيتها المتزايدة، وهناك من ينظر إليها باعتبارها عملة عديمة القيمة وتشكل خطرًا على المستثمرين.
ومعظم مؤيدي العملات الرقمية من فئة الشباب الذين يعتبرونها «عملة الطفرة» ويؤكدون أنها بمرور الوقت تكتسب المزيد من القيمة مما يجعلها اختيارًا ذهبيًا للاستثمار.
ويبدو أن الأمر يتخطى مفهوم المغامرة فبعض أشهر رجال الأعمال في العالم اتجهوا للاستثمار فيها بالفعل، مثل إيلون ماسك الذي أعلن عن شراء شركته «تسلا» 1.5 مليار دولار من البيتكوين، وهو ما انعكس على ارتفاع قيمة البيتكوين بنسبة 20% في اليوم الذي تمت فيه الصفقة.
لكن يبدو أن نوايا «ماسك» لم تكن طيبة فبعدما أعلن أن شركته تستقبل المدفوعات بالبيتكوين وبالفعل نجح في بيع ما يعادل 250 مليون دولار باستخدامها، عاد ليوقف البيع باستخدام العملة الرقمية مما تسبب في حدوث خسائر حادة في سوق «البيتكوين» ترافق معه توجيه الاتهامات لـ«ماسك» باعتباره يتلاعب في السوق لصالحه.
وإلى جانب «ماسك» هناك جاك دروسي مؤسس تويتر الذي أعلن عن تحمسه للبيتكوين معتقدًا أن الإنترنت سيكون له عملته الخاصة، ولم يقف الاستثمار عند حدود الأفراد بل تخطاه إلى الشركات وفي مقدمتها منصة «باي بال» التي أعلنت في أكتوبر 2020م عن إتاحة الشراء والبيع باستخدام العملات الرقمية، بالإضافة إلى منصة «فيس بوك» وعملها على تطوير عملتها الرقمية «ليبرا»، التي تستهدف أن تطورها لتصبح عملة عالمية معتمدة على أنها تختلف عن العملات الرقمية الأخرى بدعمها بأصول تضمن استقرارها.
لكن على الجانب الآخر يقف معارضو العملات الرقمية يحذرون المستثمرين من وضع أموالهم في سياق غير مفهوم، فهم من وجهة نظرهم يعتبرون أن العملات الرقمية تهدد كيان الدول الاقتصادي، فبما أن لكل دولة عملة خاصة بها فوجود عملة في أفق مفتوح تمثل مساحة للا مركزية غير المفضلة من جانب الحكومات، إلى جانب أنها تمثل تهديدًا أمنيًا بكونها غير قابلة للمراقبة.
من ضمن معارضي العملات الرقمية رجل الأعمال الأمريكي الشهير وارن بافيت الذي يعتقد أن البيتكوين عديمة القيمة ولا ترتبط بأي أصول مثل العملات التقليدية، ويشبهها بهوس التوليب الذي انتشر في هولندا خلال القرن السابع عشر، فقد كان الناس يشترونه على أمل بيعه بسعر أعلى مما دفعوه فيه.
يشاركه الرأي رجل الأعمال الأمريكي بيتر شيف والذي يصرح بأن العملة الوحيدة التي يدعمها هي الذهب، فهو مؤمن أنه حتى العملات الورقية ومنها الدولار الأمريكي ليست قوية بما يكفي، بينما ذهب رجل الأعمال الأمريكي بيل جيتس إلى المراهنة على حدوث انهيار تام في المستقبل للبيتكوين، محذرًا الأشخاص الذين لديهم ثروات محدودة من الاستثمار به.
المآلات المستقبلية المتوقعة
تتباين المسارات المستقبلية المتوقعة للعملات الرقمية المشفرة، وكانت موضوعًا للنقاش في أكبر المنتديات الاقتصادية مثل المنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» الذي صرح به محافظ البنك الإنجليزي أندرو بيلي بقوله إنه لم نصل بعد إلى الترتيبات الخاصة بوجود عملة رقمية دائمة، ومن وجهة نظره أن العملات الرقمية لن تصل إلى هذه المرحلة فهي مؤسسة على عدم ربطها بشيء ذي قيمة ثابتة.
ويمكن وصف الوضع الراهن بشكل عام أنه بلا حلول تلوح في الأفق نحو التحول الفعلي لاعتماد العملات الرقمية بشكل رسمي على نطاق عالمي، أينعم أن هناك بعض المتفائلين الذين يرون أن ذلك سيحدث بشكل توفيقي بين المحافظة على الاستقرار الاقتصادي والاستجابة للحماس الريادي وانتشار التقنيات الجديدة، إلا أن التصريحات الرسمية لصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات النقدية العالمية لا تشير إلى احتمالية حدوث ذلك، خصوصًا مع وجود مخاوف أمنية من عدم القدرة على تعقب حوالات العملات الرقمية، ما يزيد احتمالية استخدامها في العمليات غير المشروعة.
وتتعدد اليوم استخدامات العملات الرقمية لكن في مقدمتها شراءها بهدف تكوين ثروة مستقبلية بالاعتماد على التصاعد التراكمي في قيمتها، ومن ناحية أخرى تتجه إليها بعض الشركات الناشئة في مراحلها الأولى لوضع رأس مال ينمو مع الوقت مما يسمح للشركة بالتطور، ومؤخرًا بدأت بعض الشركات في السماح لموظفيها أن يتقاضوا رواتبهم عملات رقمية وليست تقليدية، إلى جانب بالطبع استخدامها في الحوالات بين الأشخاص والدفع باستخدامها في بعض المتاجر.