مسلسل «Crub Your Enthusiasm»: كيف تفوق لاري ديفيد على نفسه
يعد شهر أكتوبر للعام الحالي أكثر الشهور المرتقبة لعشاق ومتابعي الكوميديا حول العالم، فقد أعلنت منصة نتفليكس عن عرض مسلسل «ساينفيلد» (1989-1998) من جديد، ويُشكل هذا العرض للمسلسل النوستاليجي الخالد أهمية كبرى حيث سيستطيع المشاهدون مشاهدة مسلسل ساينفيلد بجودة 1080 على شاشات العرض الكبيرة، بعد أن كانت شهرته متحققة من عروض الـDVD.
وفي الرابع والعشرين من نفس الشهر، تُعرض الحلقة الأولى من الموسم الحادي عشر لمسلسل «اكبح حماسك» (2000-) على شبكة إتش بي أو، المسلسل البالغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، شكلا فيه سمة ميزت كوميديته الطازجة.
هناك عامل مشترك بين الحدثين جمع بينهما، هو شخصية لاري ديفيد الذي اشترك بالنصيب الأكبر من الكتابة لمسلسل ساينفيلد على مدار ثمانية مواسم، واشترك بشخصية السيد شتايننبرج التي لا تظهر في نفس المسلسل، كما أنه بطل مسلسل اكبح حماسك المبني على حياته الشخصية بصفته صانع ساينفيلد الشهير، ولكن مسلسل اكبح حماسك يمكن القول بأنه استطاع تخطي ساينفيلد وكوميدياه في بعض النقاط والتي جعلته كوميديا القرن الواحد والعشرين بامتياز.
مرآة قبيحة
يحمل مسلسل اكبح حماسك بالنسبة للوطن العربي، مفارقة ساخرة بشدة لدرجة يمكن اعتبارها مكملاً لعالم المسلسل الساخر وأحداثه الغرائبية، فقد انتشرت شارة النهاية للمسلسل Directed by Robert B Weide مع الموسيقى التصويرية الساخرة، في أوساط التواصل الاجتماعي في صناعة «الميمز» شهرة فاقت شهرة المسلسل ذاته، وبطله لاري ديفيد، وهذا ما يجعلني مصرًا على تقديم المسلسل والحديث عنه دائمًا، ظنًا مني أنه لو كانت تلك الموسيقى والشارة تضحككم، فأنا متأكد تمامًا أن لاري ديفيد قادر على إضحاككم أضعاف هذا الضحك، فمن هو لاري ديفيد؟
يمكننا أن نقرأ شخصية لاري ديفيد على ضوء الكثير من المواقف، لك أن تتخيل أن شخصًا توفي، وزوجته في وصلة من البكاء لا تنقطع في عزائه، ثم يدخل عليها أحد الأشخاص في الثانية والسبعين من عمره، أصلع في منتصف رأسه، ويغطي جانبي رأسه بعض من الشعر الأبيض الأشعاب، يرتدي نظارة مضحكة الشكل، ويميل على تلك المرأة ليعزيها، ثم يهمس لها في أذنها حاكيًا موقفًا عن رهان حدث بينه وبين زوجها قبل وفاته، قام زوجها بالغش فيه وربح 500 دولار من ورائه، ويطلب من زوجته الآن في ذلك الموقف العصيب أن ترد له الخمسئمة دولار بدون ذرة من الخجل.
إن هذا الشخص هو لاري ديفيد، الذي عليه أن «يكبح حماسه» دائمًا ولكنه لا يستطيع، فلاري ديفيد في هذا العالم شهيد اجتماعي من نوع ما، فهو شخص مذهول للغاية من الازدراء الوقح للعادات الاجتماعية لدرجة أنه يغوص طويلاً في أعمال الآخرين لمجرد توضيح نقطة ما، فهو شخص مستعد للانتحار الاجتماعي في سبيل إثبات وجهة نظر معينة، أو تحقيق غاية شخصية، بغض النظر عن الموقف أو الأشخاص، ببساطة لاري ديفيد شخص تخطى المجتمع ولياقته النسبية التي يجب أن يتحلى بها البشر، حتى أصبح مرآة قبيحة تعكس المدفون في نفوس أعضاء المجتمع ويخشون الحديث به، وهو عجوز لا تنضجه السنون أبدًا، ولا تعلمه المواقف، ولو يتسنى له هذا الأمر، لما تخطى المسلسل مائة حلقة حتى الآن.
في اكبح حماسك، يأخذ لاري ديفيد الصيغة التي أحدثت ثورة في صناعة الكوميديا والتليفزيون في مسلسل ساينفيلد، وينقلها إلى الحقول المفتوحة لـ HBO وينصب نفسه كنجم أوحد، وطبيعة العمل مع شبكة إتش بي أو هي التي تمنح مسلسل اكبح حماسك امتيازه حيث تكاد تنعدم الرقابة والتصويب عكس ما كان يحدث مع مسلسل ساينفيلد، فقبل عرض أي حلقة وكأن إتش بي أو ترحب بك في حظيرة لاري ديفيد بالتنويه التالي TV MA يحتوي على «ألفاظ خارجة، أسلوب حديث للبالغين، محتوى جنسي، ازدراء»، إنها الوصفة التي افتقدها لاري ديفيد وصناع عمل ساينفيلد ليصلوا لذروتهم، والتي كان يمكن للمشاهد أن يرى محاولاتهم لمناورتها في الكثير من حلقات المسلسل.
كوميديا ارتجالية طازجة
عنصر آخر جعل CYE مثل الجوهرة في سوق البرامج التليفزيونية الكوميدية، غير أنه من نوعية Dark Humor والتي هي بدورها كوميديا سوداء، تُركز على المواضيع المحرم خوضها «تابو»، هو عنصر الارتجال، ففي بعض الأحيان يُزال الحوار المكتوب ويسمح للممثلين بالتجول بأسلوبهم بين نقاط حبكة المسلسل، فالأمر كله يتعلق بصناعة المرح والضحك، كما أنه لا يمكننا أن ننسى أن معظم أبطال المسلسل هم مقدمو «ستاند آب كوميدي» ولديهم الكاريزما والتلقائية الكافية لصناعة كوميديا متدفقة في وجود سيناريو أو عدم وجوده، فبخلاف لاري ديفيد، يعاونه في بطولة المسلسل كل من جيف غارلين، سوزي إيزمان، ريتشارد لويس، وهم من مشاهير ذلك النوع من الكوميديا في الولايات المتحدة.
تقدم كوميديا اكبح حماسك في حلقة طويلة عن المعدل الطبيعي للسيتكومز، فأحيانًا يصل طول الحلقة إلى 50 دقيقة، وطولها الطبيعي 30 دقيقة، وهو ما ينعكس بدوره بالطبع على كتابة الحلقة وأحداثها الكثيرة المتشعبة، التي تجعل المشاهد يضيع تمامًا في السرد والعروض، وتأتي النهاية دائمًا مفاجأة كاملة وممتعة في قدرتها على الربط بكل حدث حرفيًا عُرض على الشاشة أثناء الحلقة، وهو ما ينم عن قدرة وعبقرية للاري ديفيد الذي كان عليه أن يأخذ في الاعتبار في تكوين كل حلقة إجراء كل هذه الملاحظات المنفصلة بمرور الوقت، وتخيل الشخصيات والمواقف التي تناسب كل دور وسيناريو، ودمجها جميعًا في حلقة عملية، ثم تكرارها عشرات المرات.
إن التوفيق بين الروايات المعقدة والمندمجة بشكل معقد، مع المرح السطحي الذي يمكن استهلاكه بينما يفعل المرء أمورًا أخرى أثناء الحلقة، ميزة وعبقرية فذة تألق بها لاري ديفيد على مر السنوات.
المدة الطويلة التي عُرض، وما زال يعرض خلالها المسلسل، وإن كانت غير مقصودة وتتعلق بمشكلات إنتاجية أحيانًا، جعلت للمسلسل طابعًا مختلفًا عن المسلسلات التي اخترقت الألفية الجديدة، فجدير بالذكر أنه طيلة مدة عرض «اكبح حماسك» الممتدة على 21 عامًا قابلة للزيادة، رأينا مسلسلات كوميدية شهيرة تنتهي كـ FRIENDS وتبدأ وتنتهي كـ:
The Office, Community, How I Met Your Mother, Brooklyn 99
بينما لا يزال اكبح حماسك متجددًا، وهو ما أعطى للمسلسل ثروة اللعب بمجموعة متنوعة من اللحظات الثقافية، الدنيوية والسياسية على حد سواء، وفي كل من هذه اللحظات، يثبت العرض باستمرار مرونة نموذجه، فبينما أنت تتابع اكبح حماسك منذ البداية، يمكنك أن ترى برجي التجارة العالميين، وترى تفاعل المجتمع مع سقوطهما، وترى الحرب على العراق، وترى حالة الزخم حول جورج بوش، إعصار كاترينا، وترى كوميديا تنتقل بسلاسة من عصر ما قبل التواصل الاجتماعي إلى عصر فيسبوك وتويتر وإنستاجرام، وتعاصر الانتخابات الرئاسية والصراع الشعبوي الاستقطابي في عهد دونالد ترامب، والتفاعل مع حملة MeToo التي تطورت لتكون إدانة للمشاهير المتهمين بالتحرش الجنسي في هوليود، زواج المثليين، صعود الإسلاموفوبيا في الغرب، وحدث القرن الحادي والعشرين الهام الذي تصدر غلاف الموسم الحادي عشر كشعار: «العالم تغير، وهو -لاري ديفيد- لم يتغير» إشارة إلى فيروس كورونا، كلها أحداث متجددة تجد طريقها بسهولة لاختراق النص.
تجسد حالة الكوميديا في المسلسل إجابة منتج المسلسل جيف شيفر حين تم سؤاله بعد غياب عرض المسلسل لست سنوات: هل نفدت المواد الكوميدية لديه؟ وجاوب قائلاً: «إن العالم لا يزال يصنع أشخاصًا أغبياء ورهيبين، وهذا هو الجمال الذي لا يمكن له أن يتوقف».
نجاح بطعم الفشل يصنع نجاحًا آخر
يعد مسلسل اكبح حماسك خارجًا من جيب ساينفيلد بلا شك، فأجواء مسلسل التسعينيات الشهير كلها تخُيم على مسلسل الألفية، وفي الواقع يمكنك اعتبار مسلسل اكبح حماسك بمثابة قتل الأب لمسلسل ساينفيلد.
فبينما كان يمكن للاري ديفيد أن يعيش على سمعة وأرباح كونه أحد المشاركين في كتابة ساينفيلد وصناعه، إلا أنه يصنع مسلسلاً على ثيمة ساينفيلد عن حياة شخصية واقعية تبدأ في عالم تلفازي افتراضي في تصوير مواقف يومية من الحياة العادية.
ويبدو من خلال المسلسل، والذي يظهر فيه أبطال مسلسل ساينفيلد في بعض الحلقات إلى جوار لاري ديفيد، أن هناك حالة حقيقية تعبر عن كرههم للنجاح المدوي الذي حققوه في ساينفيلد، فجاسون ألكسندر «جورج كوستانزا»، وجوليا لويس «إلين بينيس»، ومايكل ريتشاردز «كرايمر» بدوا في الكثير من الحلقات مستائين بشدة من قولبتهم في تلك الشخصيات الأيقونية التي قدموها، حتى أصبح ذلك يؤثر على حياتهم العملية كممثلين في المقام الأول، ليس كشخصيات المسلسل.
ولاري ديفيد يجسد الحالة العامة لممثلي ساينفيلد في مسلسله، فصانع المسلسل الأسطوري لا يعرفه الناس سوى بكونه كاتب المسلسل، وأعماله لا تصل إلى نجاح دائم نظرًا لأن ساينفيلد قد وضع له سقفًا للنجاح لا يستطيع تخطيه، فيقوم لاري ديفيد ربما بقتل أسطورة نجاحه في ساينفيلد، بتكرار نفس الثيمة في اكبح حماسك والتفوق على نفسه.
يلعب لاري ديفيد في المسلسل نسخة مبالغًا فيها قليلاً عن نفسه في الواقع، فتدفعه الطرق الغريبة لشخصيته إلى أكثر المواقف حرجًا، والذي يجعل المشاهد ينزعج حيث إنه لا يعرف الخط الأحمر الذي يمكن أن تتوقف عنده تلك الشخصية الهيستيرية المثيرة للمشاكل.
ويقدم لاري ديفيد في الكثير من الحلقات نموذجًا للرجل الأبيض الثري المسن، أو نموذجًا للذكورية المنكوبة، الذي يتعامل بفظاظة مع عالم جديد غريب، يمكن أن يفسر فيه أي موقف على أساس أنه تحرش جنسي، أو إهانة عنصرية للسود، أو تعرض للمثليين، ما يجعلك تشعر وكأن كل الحياة العامة الأمريكية هي نوع قاتم من الكوميديا المحرجة.
بينما تشعر أن اكبح حماسك هو وحي من ساينفيلد، يبدأ المسلسل بمرور المواسم يعطيك انطباعًا أنه نسخة بذاته، وأن لاري ديفيد هو المسئول الوحيد عن تألق تلك النسخة الفريدة، فبينما كان جيري ساينفيلد مؤديًا رائعًا في ساينفيلد، إلا أن الكوميديا الظرفية التي جعلت العرض واحدًا من أفضل العروض على الإطلاق، خرجت من ذهن لاري ديفيد وزملائه من الكتابه، ولذلك قدرة لاري ديفيد على انتقاء الانقطاعات الاجتماعية، وتحديد واستغلال النفاق والأنانية والسطحية في الحياة اليومية، جعلت اكبح حماسك بمثابة ساينفيلد متفوق على ذاته، وبمزيد من الحرية، ومن بطولة جورج كنجم أساسي بدلاً من جيري، إذا علمنا أثناء المسلسل أن شخصية جورج كوستانزا في ساينفيلد مبنية على أساس تركيبة لاري ديفيد المعقدة في الواقع.
في الواقع، وبينما يحاول المسلسل أن يتفوق على شبح ساينفيلد، فهو في نفس الوقت يستحضر ساينفيلد في ثنايا حلقاته، وقد قدم لاري ديفيد في الموسم السابع من المسلسل امتدادًا عبقريًا لمسلسل ساينفيلد، فبينما كان صناع ساينفيلد على مدار الأعوام منذ نهاية المسلسل يتجنبون فكرة Reunion جمع الشمل المعتادة في المسلسلات الأمريكية التي خُلدت في الثقافة الشعبية، يقوم لاري ديفيد في الموسم السابع بانتقاد حلقات جمع الشمل تلك، مع صناعة جمع شمل أقوى وأكثر عبقرية في فرادته، فيمكن اعتبار الموسم السابع بأكمله بمثابة جمع شمل خاص بمسلسل ساينفيلد، يسير جنبًا إلى جنب مع عالم لاري ديفيد الذي يحاول أن يتفوق على ساينفيلد كما تعودناه.
وبعض الثيمات في ساينفيلد تجد طريقها إلى اكبح حماسك، لعل أبرزها شخصية ليون التي يجسدها الممثل J.B Smoove والتي تعيد إلى الأذهان فورًا من خلال تكوينها وأبعادها وأداء الممثل، شخصية كاريمر في ساينفيلد إلى الأذهان، فليون يعرف طريقه بالصدفة البحتة إلى حياة لاري بصلة ما ضرورية، ورغم انقطاع تلك الصلة عند جزء من المسلسل، يستمر ليون متطفلاً في حياة لاري حتى يصبح جزءًا منها، يسكن في الفناء الخلفي لمنزل لاري، وبمثابة مرشد روحي له، رغم عيشته الطفيلية على حياة لاري.
من الواضح أن الصيغة المتأصلة في نجاح أعمال لاري ديفيد خالدة ولا تضاهى، ولم يقترب أي شخص آخر من مطابقة اتساع ومهارة هذا النمط من الكوميديا والأداء، بالإضافة إلى رأس عبقري لا تنفد من بئر الكوميديا فيه الأفكار، فالرجل يبلغ من العمر 74 عامًا ولا يزال يخرج ما يمكن القول إنه أفضل كوميديا أمريكية، هذا يُصدق قول فلاديمير نابوكوف حين قال إن الكتاب المتوسطين متنوعون، في حين أن العبقرية لديها فقط نفسها لتقليدها، ولاري ديفيد بالطبع هو الخلاصة الكوميدية لتلك الحالة التي وصفها نابوكوف، فيمكنه الاستمرار في تقليد نفسه لعقود قادمة دون أن يشعر المشاهد بحيوية أقل في كل مرة.