صليب في السعودية: ماذا يعرف «نيمار» عن المسيحية؟
ظهر اللاعب البرازيلي «نيمار» منذ أيام أثناء استقباله في مطار الرياض تمهيدًا للإعلان عن انضمامه إلى نادي الهلال السعودي قادمًا من نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، مرتديًا سلسلة معدنية يتدلى منها صليب ضخم وبارز يتوسط صدره.
وسرعان ما انتشرت صور اللاعب المنتقل إلى السعودية بكثافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث عبّر بعض المعلقين غريبي الأطوار عن استيائهم من رؤية اللاعب البرازيلي مرتديًا صليبًا بهذا الحجم وهذا الوضوح في السعودية، التي تعد أهم دولة إسلامية في العالم لما تحمله من مكانة تاريخية ودينية لا يمكن استبدالها ولا تسقط بالتقادم.
ولكن قبل أن نتفاعل مع رد الفعل المستاء، أو حتى المُرحّب، يجب علينا أولًا أن نجيب على السؤال الأهم، هل تعمّد «نيمار» الظهور بهذا الشكل في السعودية تحديدًا؟ وإن كانت الإجابة نعم، أو لا، فما الذي يعرفه «نيمار» عن المسيحية أصلًا؟ وما أهميتها الحقيقية في حياته؟
مسيحية أميركا اللاتينية
دخلت الديانة المسيحية إلى الشعوب اللاتينية بالطبع عن طريق المستعمر الأوروبي، وظل الأوروبيون هم الأوصياء على المسيحية بالنسبة للشعوب اللاتينية، وهم من يحددون المفاهيم الصحيحة التي يجب على مسيحيي أميركا اللاتينية تبنيها حول الديانة المسيحية، قبل أن يتغير كل ذلك لاحقًا.
تولّت الولايات المتحدة الأميركية بداية من عام 1823 إدارة الأمريكتين، بعد إصدار ما يُعرف تاريخيًا بـ «مبدأ مونرو»، والذي أنهى الوصاية الأوروبية على دول نصف الكرة الغربي، وبانتقال الوصاية من مستعمر مباشر إلى مستعمر مستتر بدأت تتكون لدى الشعوب اللاتينية دوافع من أجل الخلاص من كافة أشكال الاستعمار، كان الدين في المركز منها.
فخلال الحرب الباردة، ظهر في دول أميركا اللاتينية عديد من الحركات الثورية التي ناضلت ضد الحكومات المحلية المتحالفة مع الأميركيين، وبمساعدة الاتحاد السوفييتي طبعًا، معقل الشيوعية، والإلحاد كذلك.
ولكن رغم تبنّي الحركات الثورية اللاتينية لكثير من الأفكار الشيوعية السوفيتية، لم يكن من السهل عليها إبعاد الدين عن المشهد، حيث كان الدين، ولا يزال، أحد الركائز الأساسية للهوية الفردية والجماعية لأميركا اللاتينية، فبدلًا من تبنّي النظريات المادية المخالفة للدين، طوّرت أميركا اللاتينية نموذجها الخاص من المسيحية، من خلال الزيجة التي تمت بين الدين والسياسة ونتج عنها ما عُرف بـ «لاهوت التحرير».
حيث انضم رجال الدين من القساوسة إلى الحركات الثورية وأنشؤوا نهجًا دينيًا يتفق مع أهداف النضال السياسي، وتحملت الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية جرّاء ذلك نفس الأعباء التي وقعت على المناضلين السياسيين من تضييق واعتقال وحتى التصفية الجسدية.
ولذلك أصبحت المسيحية جزءًا لا يتجزأ من التاريخ المعاصر للشعوب اللاتينية، وليس التاريخ الديني أو الاجتماعي فقط، بل والسياسي أيضًا.
تاريخ حافل بالمظاهر
بالطبع لم يكن «نيمار» هو اللاعب اللاتيني الوحيد الذي اعتاد إظهار انتمائه الديني وإبرازه بوضوح في اللقاءات الصحفية وأثناء الاحتفالات وحتى على حساباته الشخصية عبر الإنترنت، فتاريخ اللاتينيين حافل.
بداية من أشهرهم ربما، الأسطورة الأرجنتينية «دييجو أرماندو مارادونا»، صاحب أحد أشهر التصريحات في تاريخ كرة القدم، عندما قال عقب مباراة الأرجنتين وإنجلترا في كأس العالم 1986 إن الهدف الذي أحرزه بيده ضد الإنجليز كان بتدخل إلهي: «لقد كانت يد الله».
معبرًا وبقوة عن مدى امتزاج الدين بالسياسة في المزاج الشعبي اللاتيني، حيث كانت العلاقات بين الأرجنتين وإنجلترا في أكثر فتراتها توترًا عقب حرب جزر الفوكلاند الشهيرة التي انتهت بهزيمة ساحقة لشعب «مارادونا» أمام الأسطول الإنجليزي العملاق، فقد اعتبر «دييجو» حينها أن الفوز على الإنجليز وبهذه الطريقة بالذات هو نوع من التعويض الإلهي عما فعلته إنجلترا في بلاده.
ولا يخفى على أحد الجزء اللاحق من حياة الموهبة الأرجنتينية الفذة، والذي يضرب به المثل في الهبوط من عنان السماء إلى عمق الهاوية، بعدما أدمن المخدرات وانخرط في الحياة الليلية بكل ما فيها من مجون لا يتفق بالضرورة مع تعاليم الأديان كافة، حتى انتهى به الأمر إلى اعتزال كرة القدم.
فالتدين الظاهري الذي عبّر عنه «مارادونا» في كثير من لقاءاته الصحفية والمشاهد المتنوعة خلال مسيرته لم يكن رياءً بالطبع، لكنه كذلك لم يكن التزامًا دينيًا، بل فقط هو القشرة الدينية التي لطالما ارتبطت بحياة اللاتينيين، وتحديدًا الفقراء منهم، وهي الطبقة التي أفرزت جُل لاعبي كرة القدم في أميركا اللاتينية أرض المواهب، وظلّت ركيزة أساسية في تكوينهم الوجودي.
«نيمار» صديق «ترامب»
لم تدُم سيطرة اليسار على الحياة السياسية في أميركا اللاتينية، فخلال السنوات الأخيرة بدأت التيارات اليسارية أن تفقد سطوتها على الشارع اللاتيني، إما من خلال انتخابات ديمقراطية أتت ببدائل يمينية، أو من خلال الاضطرابات السياسية التي ضربت عددًا من الدول اللاتينية وساهمت في صعود اليمين بطرق مشبوهة.
هذا التحوّل الفكري المفصلي لم يؤثر فقط على الحياة السياسية للشعوب اللاتينية، بل كذلك على الدين، فطالما ارتبط الدين بالسياسة على مستوى من المستويات، تغيّر الدين بتغيُّر السياسة.
فشهدت الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، التي تعدّ الحاضنة الرئيسية لفلسفة لاهوت التحرير اليسارية، تراجعًا في أعداد أتباعها بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، فبعد أن كان أتباع الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية يمثّلون 90% في البرازيل على سبيل المثال، أكبر دول القارة، وباقي الكنائس والأديان يتنافسون على الـ 10% المتبقية، أخذت البروتستانتية في الصعود حتى بلغ عدد أتباعها نحو 31% من إجمالي البرازيليين وفق أحدث تقديرات.
ولم يكن هذا التغيير الكبير من قبيل المصادفة، أو بمعزل عن السياسة، حيث كانت أميركا تقف خلف دعم الكنائس البروتستانتية في القارة اللاتينية، ليس فقط من أجل التبشير بالمعتقد الذي يؤمن به غالبية الأميركيين، ولكن أيضًا من أجل تمرير الأجندة السياسية الخاصة بها من خلاله.
فبمهاجمة الركائز غير المباشرة التي يقف عليها الهوى اليساري اللاتيني، والدين أهمها، استطاعت الآلة السياسية الأميركية أن تغيُّر بالفعل في المزاج الشعبي للاتينيين وتسحبهم تدريجيًا من الانحياز لليسار والاتجاه نحو اليمين، وذلك ما ظهر مجددًا في البرازيل، بعد فوز السياسي اليميني المتطرف «جايير بولسونارو» في الانتخابات الرئاسية 2018، والمُلقّب بـ «ترامب أميركا اللاتينية».
وللمفارقة، كان اللاعب البرازيلي «نيمار» أحد الأنصار المتحمسين لليميني المتطرف «بولسونارو»، حيث أعلن صراحة عن دعمه للرجل صاحب التصريحات العنصرية ضد البرازيليين المنحدرين من أصول أفريقية، وليس هذا فقط بل أعلن أنه يعتزم إهداءه أول أهدافه التي سيسجلها في بطولة كأس العالم 2022 التي استضافتها قطر.
ماذا لو ربح الإنسان نصف مليون يورو وخسر نفسه؟
لم يتخذ اللاعب البرازيلي محور حديثنا مواقف مثيرة للجدل على المستوى السياسي فقط، بل كذلك كان للدين نصيبه، حيث كشفت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية عن شرط في عقد «نيمار» مع ناديه السابق باريس سان جيرمان والمملوك من قبل رجل الأعمال القطري «ناصر الخليفي» يمنعه من الحديث عن أي أمور تخص السياسة أو الدين مقابل 500 ألف يورو شهريًا.
ذلك الشرط الذي قبله «نيمار» بالفعل أثناء وجوده مع النادي الفرنسي الذي انتقل إليه قادمًا من برشلونة الإسباني عام 2017 في صفقة كانت خيالية حينها، حيث وضعت إدارة النادي الباريسي ذلك الشرط مبررة إياه بأنه يهدف للحفاظ على وحدة الفريق.
ورغم اعتياد «نيمار» الحديث عن إيمانه المسيحي أمام وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي الخاصة به قبل انتقاله إلى باريس سان جيرمان، لم يجد أي غضاضة في التقليل قدر الإمكان من الأمر الذي لطالما تفاخر به ابن مدينة «ساو باولو».
ولم يكن لـ «نيمار» أحاديث مهمة تذكر عن السياسة قبل دعمه المباشر لـ«بولسونارو» في انتخابات 2022، لذلك من الممكن أن يكون الشرط الذي وضعه النادي الباريسي كان المقصود منه منع الأحاديث التي تخص الأمور الدينية تحديدًا والتي كانت أحد السمات المميزة لـ «نيمار»، ومع ذلك، لم يستطع «نيمار» مقاومة سحر اليوروهات ووقع على العقد.
وهنا يظهر جزء من المشهد ربما لم يكن بهذا الوضوح في السابق، حيث لا يعد التدين الظاهر بشكل لافت على لاعبي أميركا اللاتينية ليس أكثر من حلقة صغيرة ضمن سلسلة طويلة من التعقيدات التي رسمت شخصية المواطن اللاتيني بشكله الذي نعرفه اليوم.
ذلك المواطن الذي عانى طواله تاريخه الحديث من الاستعمار والفقر والتهميش والعنصرية وجميع الآفات التي خلفتها الكولونيالية الغربية، فكان الدين أحد الدعائم المهمة التي ركن لها لمقاومة واقعه أحيانًا، والصبر عليه أحيانًا أخرى، وظل مدينًا له ووفيًا حتى بعدما تجاوز مشاكل الفقراء بأشواط، ولكن، إذا ما تعارض الدين مع مسيرته التي أنقذته من تعاسة أبناء وطنه، فربما تكون هناك حلول وسيطة.