نقد تشومسكي: مسئولية المثقف ليست قول الحقيقة فحسب
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
نشر نعوم تشومسكي، في مثل هذا اليوم منذ خمسين عامًا، مقالته البارزة المناهضة للحرب: «مسئولية المثقفين». «تتمثل مسئولية المثقفين في قول الحقيقة وتعرية الأكاذيب»، هكذا أعلنها نعوم تشومسكي.
أكد تشومسكي، في مثل هذا اليوم منذ خمسين عامًا في مقالته البارزة المناهضة لحرب فيتنام «مسئولية المثقفين» على صفحات مجلة New York Review of Books، على أن المثقفين عليهم واجب أخلاقي يتمثل في استخدام تدريبهم وقدرتهم على الوصول للمعلومات كي يتحدوا الإمبريالية الأمريكية.
لا تزال الفكرة المحورية للمقالة –أي [حديثه عن] أن أفضل مساهمة للمفكرين في التغيير الاجتماعي هي من خلال استخدام موقعهم كي ينشروا الحقائق التي يخشى المتنفذون انتشارها- أساسية لفهم تشومسكي. ويعد فهم نقاط ضعف وقصور تحليل تشومسكي نقطة انطلاق جيدة نحو فهم كيف يمكن لمثقفي اليسار اليوم أن يهزموا قومية اليمين الصاعد ويحيوا الحركة الاشتراكية.
المثقفون والحرب
لم يكن تشومسكي معروفًا بشكل واسع لدى العامة عند نشره لـ «مسئولية المثقفين»، على الرغم من كونه اليوم أكثر مثقفي اليسار شهرة.
كان تشومسكي راديكاليًا منذ صغره، حيث ولد في فيلادلفيا في عام 1928 لأبوين يهوديين من المهاجرين. ارتاد تشومسكي في سن الطفولة المكاتب والمكتبات الأناركية التي أدارها لاجئون [هاربون] من الفاشية، وفي سن العاشرة، كتب أول مقالة سياسية له، يرثي فيها سقوط برشلونة في يد فرانكو. وعلى الرغم من ذلك، احتفظ بآرائه السياسية لنفسه في شبابه، وركّز على تأسيس نفسه باعتباره ألسنيًا رائدًا استطاع أن يكتشف [نظرية] «النحو الكلي»، وهي بنية عميقة تختفي تحت البنى السطحية للغات الأفراد.
دفعت حركة مناهضة الحرب تشومسكي إلى استخدام مكانته باعتباره أستاذًا بارزًا في جامعة MIT لتحدي سياسة الولايات المتحدة الخارجية. فبدأ المشاركة في الحلقات الدراسية التي هدفت إلى توعية الأمريكيين عن الأسباب الحقيقية للحرب وتبعاتها. وتم القبض عليه في مظاهرات مناهضة للحرب (كانت الأولى في مارس/آذار 1967 في البنتاجون، والتي وجد نفسه فيها محتجزًا إلى جانب نورمان ميلر).
ولكن تشومسكي قدم مساهمته الحقيقية من خلال كونه كاتبًا وليس ناشطًا. كان لـ «مسئولية المثقفين» –التي تم نشرها في مجلة undergraduate journal of the Harvard Hillel Society باعتبارها كلمة قام بإلقائها- أثرًا شديدًا عند نشرها في New York Review of Books التي كانت ساعتها مجلة جديدة وقوية التأثير، حيث قامت بإعادة نشر المقالة باعتبارها افتتاحية لأفكار راديكالية في الدوائر الليبرالية.
وكما أدرك تشومسكي، كان التدمير المريع للحياة في فيتنام قائمًا على حجج باطلة. فقد قيل للأمريكيين أنهم يدافعون عن دولة جنوب فيتنام ذات السيادة من العدوان الشيوعي. [ولكن] كانت جنوب فيتنام، في الحقيقة، دولة مصطنعة تم إيجادها فقط بسبب الرفض الأمريكي لوجود فيتنام شيوعية موحدة. وقد أخبر ليندون جونسون وموظفوه الأمريكيين أن الحرب سيكون الانتصار فيها سهلًا على الرغم من شكوكهم الشخصية في ذلك. ولم يتلق الجنود الأمريكيون الذين ماتوا أو عانوا من جراح جسدية أو نفسية مستديمة، أي تبرير ولو ضئيل عن سبب إرسالهم إلى الحرب. وحتى 1968 على الأقل، كان التيار الغالب في الإعلام الأمريكي يُخفي المدى الحقيقي للضرر الذي قامت به الولايات المتحدة في حق الفيتناميين، من ترحيل قرى، وقصف متتابع لفيتنام الشمالية، واستخدام الأسلحة الكيماوية.
لم يكن هدف تشومسكي في «مسئولية المثقفين» صناع السياسات، بل كان المثقفين المدافعين عن سياسة أمريكا في فيتنام كالمؤرخ الليبرالي آرثر شليزنجر الابن. فينتقد تشومسكي شليزنجر وآخرين لمعارضتهم الحرب من أجل السبب الخطأ: [يعارضون الحرب] ليس لأنها مقيتة أخلاقيًا، بل لكونها محض غلطة، وحرب لم تستطع الولايات المتحدة الانتصار فيها بتكلفة معقولة. وفي رأي تشومسكي، يتظاهر شليزنجر وآخرون بأنهم واقعيون أقحاح في تحليلهم للسياسة الدولية لكنهم نظروا [إلى هذا] الأمر باعتباره «مقولة عقدية بأن الدوافع الأمريكية دائمًا نقية ولا تخضع للتحليل». وبعد عامين، في أول وأفضل كتبه «القوة الأمريكية وصعود الوكلاء الجدد» (American Power and the New Mandarins)، أسمى تشومسكي هؤلاء المثقفين بالـ «الوكلاء الجدد» بسبب تبعيتهم لسلطة الدولة.
وفي مناهضة لـ «طائفة الخبراء» التي تحث المواطنين على الإذعان لمحللي السياسة الخارجية، يقدم تشومسكي مفهوم مسئولية المثقف التي تملي عليه أن يستخدم حريته النسبية من قمع الدولة لمواجهة الإمبريالية الأمريكية ومساعدة ضحاياها. فـ «المثقفون في موقع تعرية أكاذيب الحكومة، وتحليل أفعالها طبقًا لأسبابها ودوافعها، وعادةً النوايا الكامنة وراءها. ففي العالم الغربي على الأقل، هم يملكون السلطة الناشئة عن الحرية السياسية، والوصول إلى المعلومات، وحرية التعبير».
وعي تشومسكي
تعد مقالة تشومسكي، المكتوبة بنبرة ذابلة متهكمة، جدالًا ممتازًا في وجه حرب فيتنام والإمبريالية الأمريكية بشكل عام. ولكن مع قدرتها على الإقناع فيما يخص المسئولية الأخلاقية للمثقفين، لم يكن تحليلها السياسي كاملًا.
ترى فلسفة تشومسكي العقلانية التي تقوم عليها أيضًا لسانياته، أن كل البشر مرتبطون بشدة كي يصلوا إلى الاستنتاجات نفسها. فهناك حقيقة واحدة، ومن يرفض الاعتراف بها هو، ببساطة، قد تم إفساده على يد السلطة. وكذلك، يؤمن تشومسكي بأنه يمكننا تحقيق مجتمع اشتراكي إذا استطعنا فقط أن نبدد كل الأوهام المؤذية التي يصدرها مجتمعنا. ويجادل بأن «الوعي الراديكالي، سيتطور بشكل شبه حتمي كنتيجة طبيعة للدراسة الموضوعية والتفكير الذي حرر نفسه من الخرافات».
لكن مجرد تعرية الأكاذيب لا يؤدي إلى تحفيز التغيير الاجتماعي، ويشير اليقين الكامل في [وجود] حقيقة واحدة إلى دوغماتية مضرة بالخطاب الديمقراطي، ويستدعي تحويل الاختلاف إلى بحث عن الدوافع الأخلاقية للفرد – المذهبية، ويجعل من السياسات التحالفية أمرًا صعبًا. وكي يستطيع الراديكاليون تحقيق هدف متماسك مثل إنهاء حرب فيتنام، يحتاجون المساعدة، مما يعني عدم إغفال الليبراليين. وأخيرًا، تقود أحيانًا رؤية تشومسكي الأخلاقية للسياسة إلى نوع من المانوية التي تبالغ في قوة وتماسك وغدر القوة الأمريكية.
ويمدح تشومسكي في «مسئولية المثقفين» أيضًا، المثقف «حر الحركة» الذي يملك الاستقلالية في قول الحقيقة. لكن المثقفين لم يكونوا أبدًا مستقلين عن القوى الاجتماعية، ولن يكونوا أبدًا. فالحقائق التي يتم قولها تعتمد على التوازن بين القوى السياسية، أكثر من اعتمادها على جبن أو شجاعة المفكرين الأفراد. فقد كانت مداخلة تشومسكي نفسها ممكنة فقط بسبب الحركة المناهضة للحرب.
الحقيقة والسلطة
يحتاج اليسار، أكثر من قول الحقيقة للسلطة، إلى تحليل يسمح لنا بتحديد واستغلال التناقضات في هيكل السلطة الحالي كي يمكننا الحصول على انتصارات قصيرة الأمد وتنظيم قاعدة اجتماعية. وفي هذا يمكن أن تكون مساهمة المثقفين الأكثر إفادة. ومن خلال تقديم مثل هذا التحليل، يمكن للمفكرين أن يعينوا بفعالية الحرب ضد مذهب ترامب، والصراع من أجل بديل اشتراكي قابل للتطبيق.
يظل مفهوم تشومسكي عن مسئولية المثقف، على الرغم من الخلل فيه، مساهمة مهمة في هذا الجهد. فقد أصر على أن المثقفين لا يجب أن يضيعوا وقتهم في الشعور بالخزي من صلاحياتهم، ويجب أن يستفيدوا من مواقعهم عوضًا عن ذلك.
وبمرور خمسين عامًا الآن، قام تشومسكي بهذا الأمر بالضبط. فقد أظهر كيف أن قول الحقيقة يكون، في الظروف الصحيحة، فعلًا راديكاليًا. حيث تحدى الإمبريالية الأمريكية بإصرار وبلا كلل من خلال كتاباته. وفي أوقاتنا الخطرة، نحن نحتاج إلى الشجاعة الأخلاقية التي أكد عليها وأثبتها تشومسكي أكثر من أي أحد آخر.
إن مسئولية المثقفين هي قول الحقيقة. ولكن إظهار كيف نجعل تغيير ما نرغب فيه ممكنًا هي مسئوليتهم أيضًا.