نقد النقد: «الدولة المستحيلة» ومأزق الفهم الحداثي
لعله لم يحظَ كتاب تُرجِم إلى العربية بمثل هذه الكتابة الجمّة والغفيرة مثلما حظي كتاب البروفسور وائل حلّاق، الدولة المستحيلة، الذي صدر مترجمًا في نهايات عام ٢٠١٤م. وهذا ليس دليلًا على أهمية الكتاب فحسب، وإنما أيضًا على مدى الإشكالات التي يطرحها على السياق الإسلامي، باعتباره كتابًا عـ«نّا» بشكل كبير، أي يعالج الإشكالات الرئيسة التي تؤرق الفكر العربي السياسي والديني الحديث، في مسائل الدين والدولة وتطبيق الشريعة والأمة الإسلامية ومسألة الحداثة والديمقراطية، وهي المسائل التي باتت رائجة دون تدقيق كبير. ومن هنا، تغدو مساهمة حلاق مهمة في كونها أعادت الأسئلة إلى نطاقاتها التي، إن فهمتَ حلاق بشكل جيد، يُفترض أن تعود إليها.
لقد شاركت في هذا النقاش حول كتاب الدولة المستحيلة بورقة مطولة (يمكن الحصول عليها ههنا)، حاججت فيها ضد الفهم الإسلاموي المعارض للكتاب، وحاولت، قدر جهدي، أن أبين المرتكزات الأساسية التي يرتكز إليها الكتاب في نقاشه للمسائل التي تثيرها، وكيف أن الفهم الإسلاموي المعارض للكتاب هو، في حقيقة الأمر، قد اختزل الكتاب في عنوانه (المثير بلا شك) دون فهم الحجج والمتضمنات التي ينطوي عليها. لا ريب في أن الكتاب يمس كلا الطرحين الإسلاموي والحداثوي حول الدولة والدّين، وقد لقي تفاعلًا من الطرفين؛ بيد أن ورقتي ركزت حينها على الطرح الإسلاموي وإساءة فهم الكتاب.
وقد كانت المقالات الثلاث التي كتبها الأستاذ خالد الحروب، الأكاديمي الفلسطيني المحاضر بجامعة كامبريدج، في جريدة الحياة اللندنية حول كتاب الدولة المستحيلة تحت عنوان مريب هو «‹سيد قطب› متخفيًا في كتاب ‹استحالة الدولة الإسلامية›» [يمكن الحصول عليهم بالترتيب ١، ٢، ٣]، هي التي دفعتني ثانية لمناقشة الطرح الحداثوي حول الكتاب، ليس لأنه حول الكتاب في حد ذاته، وإنما لما أراه من تعسف وإساءة في فهم حجج الكتاب ومآلاته (وهو أمر لا أفترض فيه «قراءة صحيحة» ضد أخرى خاطئة، بقدر ما هو اجتهاد في فهم الكتاب وحججه).
أجد أن ثمة مفارقة تكتنف دائمًا الطرح حول هذا الكتاب، ألا وهي ادعاء الإسلامويين بأن الكتاب يفوت عليهم فرصة قيام دولة إسلامية ديمقراطية حداثية، وذلك في الوقت نفسه الذي يزعم فيه الطرح الحداثوي (والذي لا يكل عن ترديده الحروب في مقالاته التي سأتوقف عندها) بأنه يوفر فرصة للإسلاميين الداعين لحكم إسلامي. فكيف يمكن فهم هذه المفارقة؟
تدل هذه المفارقة على قراءة استقطابية بازغة من واقع استقطابي بين تصنيفين يظنان نفسيهما مقابلين لبعضهما البعض: تصنيف يزعم إخلاصه لـ «التراث»، وآخر لـ «للحداثة». بيد أن الكتاب نفسه، في العمق، يخلخل هذين التصنيفين بحجاجه أن التصورات الإسلاموية الحديثة عن الدولة هي شريكة نظيرتها الحداثية، حتى وإن دُبجت إسلاميًا.
وبالتالي، فإن ما ينادي له الإسلامويون باسم «الحكم الإسلامي» هو أمر آخر غير الذي يدعوه حلاق في كتابه حكمًا إسلاميًا، فليس دعوة الإسلامويين لذلك النمط من الحكم (الذي لا يمكن تحليله بمقولات الفلسفة السياسية الحديثة) الذي يدعي حلاق في كتابه أن التجربة الإسلامية القديمة والقروسطية انطوت عليه، وإنما دعوتهم هي، في واقع الأمر، لدولة حديثة، كالتي يدعو إليها الحداثويون تمامًا، ولكنها مدبجة بديبجات إسلاميّة، مُفترضةً أن القيم الحديثة لها سند إسلامي أصيل.
ما أخطأ الحروب في فهمه، ومن قبله إسلامويون كثر، هو الظن بأن حلاق يقيم تمايزا جوهرانيًا بين الشرق والغرب -وهو ادعاء حروب الأساس بمقالاته الثلاث-، وذلك إلى الحد الذي أدى بحروب أن يصف حلاق (المبرّز بوصفه ناقدًا للاستشراق) باعتباره يدخل في عملية تشريق للشرق؛ أي إضفاء صفات جوهرانية شرقية عليه تُعتبَر متميزة ومختلفة اختلافا بائنا عن نظيرتها الغربية التي تُغربن الغرب أيضًا.
وينبني هذا الادعاء على فهم الحروب لكلام حلاق حول «الحكم الإسلامي» في التجربة الإسلامية، وكيف أنه بهذا الطرح يفصل الإسلام والمسلمين (اللذين يُختزلان في الشرق، كما نفهم من خطاب الحروب شأنه شأن الخطاب الاستشراقي الذي يصم به، يا للمفارقة، حلاق)، مقدمًا قراءة لا تاريخية لهذه التجربة، وإنما قراءة مثالية. فحلاق، مقروءًا من قبل الحروب، ليس سوى منقلب على إرث إدوارد سعيد الذي حارب الجوهرانية.
بالطبع، ينشأ مثل هذا الفهم من اعتبار إقامة حلاق لتفريق براديغمي لـ«الدولة الحديثة» و«الحكم الإسلامي» بمثابة فصل بائن ومثالية لا يعتريها التاريخ، بينما الواقع أنه لا حلاق ادعى بأن الحكم الإسلامي «أفضل» بالمعنى القيمي الذي يريد الحروب أن يوصله، ولا أن الدولة الحديثة «أسوأ»، وأن ما علينا فعله هو استعادة هذا الحكم كمواجهة لهذه الدولة التنين.
إن قراءة متأنية للدولة المستحيلة تدحض مثل هذا الرأي، فلم يدعُ حلاق لاستعادة هذا الحكم، خاصة أن منهجه تاريخي، على عكس ما يقوله حروب. فليس الكتاب دفاعًا عن الحكم الإسلامي ضد الدولة الحديثة (التي ميزها حلاق بخمس صفات يعتبرها جوهرية بالنسبة إليها)، وإنما هو محاولة للإفلات من البراديغم الليبرالي ومفهوم التقدم الذي ينظر إلى كل ما هو قديم باعتباره ماضيًا، وماضوية، بينما يُثبت حلاق أنه يمكن التفكير من جديد في هذا «القديم» الذي أُقصي، خاصة أن «الحديث» لديه ليس فترة زمنية، وإنما مقولة مميزة.
وفي هذا الاستكشاف البراديغمي للأخلاق الجامعة للحكم الإسلامي الذي تناوله حلاق باستفاضة، تغدو مقولة الماضوية منطوية على نرجسية حقًا أو قلة يد في التعلم من التجارب الأخرى، ولذلك عد حلاق كتابه ذات مرة بمثابة تحدٍّ على المثقفين الغربيين الذين لا يولون اهتمامًا بـ«الخارج».
المفارقة أن مَن يلقون تهمًا مثل الاستشراق، ومنهم الحروب، على حلاق بسبب تمييزه البراديغمي بين الحكم الإسلامي والدولة الحديثة هم واقعون هذا المأزق: إنهم ينقدون الجوهرانية ويدعون إلى الوصل بين الشرق والغرب، لإظهار أن الشرق ليس «مختلفًا» عن الغرب، وهم ليسوا مختلفين عنا (وهي حجة قديمة يقدمها ليبراليون عرب دائمًا)، ولكنهم بفعلهم هذا، وهنا تكمن المفارقة، يلغون الاختلاف بالتبعية؛ فهم ينشئون تبعية (فكرية واقتصادية وسياسية) للغرب حتى لا يوصموا بتهمة الجوهرانية التي مورست أصلًا كنقد لسياسات المعرفة الاستشراقية التي جوهرت الشرق والغرب معًا. وبالتالي، تغدو التبعية، في هذه الخطابات، هي الحل حتى لا يُعترَف بالشرق من قبل الغرب.
المفارقة الأخرى الأكثر انتشارًا وجهلًا، هي أن هؤلاء من ينقدون الغرب ودولته الحديثة (ومنهم حلاق)، يجوهرون الغرب مثل جوهرتهم للشرق، وهي مفارقة غارقة في الجهل. إذ كما أفهم حلاق وغيره من ناقدي سياسات المعرفة الاستشراقية، فإنّهم يقولون إن الاستشراق أنشأ الغرب والشرق معًا كمختلفين، فعملياته الخطابية منصبّة على الاثنين، فالغرب هو مُنتَج استشراقي مثله مثل الشرق حذو النعل بالنعل. وما ندعوه «الغرب» (الذي يتحدّث عنه الحروب في مقالاته بكلّ طمأنينة) هو نتاج لعمليّات خطابية أنتجته كمقابل للشرق المُنتَج على المنوال نفسه، في حين أنه نتاج تاريخي مثله مثل الشرق اللذين لا جوهر لهما بهذا المعنى.
إن مفهوم «البراديغم» حاسم في فهم بنية الكتاب بالفعل. وكثير من المعلقين، ومنهم حروب، الذين ألقوا تهمة المثالية على الكتاب خلطوا، في واقع الحال، بين المثاليّة وبين البراديغميّة. والحال أن الفرق بينهما شاسع. فعندما أحدد تجربة تاريخية بإطارها البراديغمي الذي ترتكز إليه، فإنّني لا «أجوهرها» أو أقصيها عن التجارب الأخرى.
وأيضًا، فعندما نتحدّث عن دولة حديثة، فنحن نتحدث عن اختراع تاريخي كبير، مر بتحولات داخله بلا شك، ونشأت أيديولوجيات جمّة ضمنه، وهي محكومة ببراديغم ناظم هو، ببساطة، ما فصلها عن «الدول ما قبل الحديثة» (ومنها الحكم الإسلامي، إذا صحّت تسميته بالدولة).
بيد أن ثمة خلطًا وخطأ في رؤية الحروب، فهو عندما يقول إن حلاق يجعل الحكم الإسلامي أخلاقيًّا جزءًا وكلًّا -بحسب عبارة الحروب نفسها- والدولة الحديثة مادية كلًّا وجزءًا إنما يحمل التوصفين على محمل لم أرَ حلاق، إن فهمته بشكل صحيح، يحملهما عليه كمتناقضين؛ إذ أخلاقية الحكم الإسلامي شريعية بينما وصف الدولة الحديثة بالمادية لا ينفي الأخلاقية عنها بالمعنى المادي لا بالمعنى الشريعي؛ بمعنى أن لها أخلاقًا أيضًا تنظمها، وإن كانت مادية قائمة على الإنسان، والأخرى قائمة على الله وشريعته.
لقد شارك نقد الحروب للكتاب انتقاداتٍ أخرى من فئاتٍ واسعة، ومفاد هذه الانتقادات أن كتاب الدولة المستحيلة يتعامل بمثالية زائفة مع التاريخ الإسلاميّ، وكأنه يتغاضى عن الاستبداد السياسي الذي كان قائمًا في هذا التاريخ الطويل. لكن أغلب من أطلق هذا الحكم لم ينتبه إلى منهجية الكتاب التي قد استفاض حلاق في تبيينها على مدار الكتاب صراحةً أو ضمنًا.
فبالنسبة إلى حلاق، يقوم منهجه على مفهوم «البراديغم» الذي بيّنتُه أعلاه، حيث يجرد نموذجًا من خطابات ونصوص مؤسسة تمثل «النطاق المركزي» (وهو مصطلح أساسي بالكتاب) لفضاء ما، ومن ثم فهو يتعاطى مع «البراديغم» بوصفه النموذج الحاكم المجرد والأعلى، لكنه من جانب آخر لا ينفي أي فساد أو استبداد أو هيمنة سياسية كانت من قبل الحكام المسلمين على الأمة.
لكنه، من ناحية أخرى، يعتبر لأمرين مهمين: أولًا، أن هذا الانحراف والاستبداد السياسي لم يكن يُنظر إليه على أنه النموذج الحاكم، وثانيًا، أن الشريعة كانت تمثل أفقًا حيًّا للمجتمع لدرجة أن هذا المجتمع لم يكن يعني له استبداد الدولة بالشكل المعاصر لاستبداد الدولة الحديثة. صحيح أن الحكم الإسلامي قد مارس من القمع والاستبداد ما هو معلوم (ولا أعتقد أن حلاق يخالف هذا الأمر)، لكن ما كان يشغل حلاق هو طبيعة «الحكم الإسلامي» المختلفة، بنيويًّا، عن طبيعة الدولة الحديثة؛ حتى لا تختلط المفاهيم ولا الوقائع التاريخية بعضها ببعض.
وأيضًا، فإن أغلب النقد الموجه للممارسات السلطانية الجائرة في التاريخ الإسلامي تغفل، بصورةٍ مخجلة، الطابع التسلطي للدولة الحديثة، بحيث يتم تصوير الأمر كأن وضعنا اليوم -في ظل الدولة الحديثة- أكثر حريةً وتحرّرًا من المجتمعات ما قبل الحديثة، والقروسطية.
وهذا له علاقة بالطبع بعقيدة التقدم التي تحدث عنها حلاق في الكتاب بصورةٍ جلية. فكل ما هو «حديث» هو أكثر تقدمًا وحرية مما هو «قروسطي»، أو ما قبل حديث عمومًا (وهنا لا نغفل عن أن كيف ما هو «حديث» يُعيد تشكيل «ما قبل الحديث» بطريقة معيارية بوصفها الأقل شأنًا وأكثر بدائية، وهو جوهر عقيدة التقدم المتفشية). ومن ثمّ، كان الاعتبار المنهجي من قبل حلاق تجاه التاريخ الإسلامي وأفق الشريعة إفلاتًا من مصطلحات ومفاهيم التقدم التي تهيمن على كتابات الباحثين، بحيث يكتشف آفاقًا أخرى قد نبذناها طويلا بلا رجعة.
تفيدنا أيضًا هذه النقطة من قبل حلاق لنقد مفهوم تضمره هذه الانتقادات، ألا وهو مفهوم «الاستبداد الشرقي» المتأصل في بنية هذه المجتمعات، مقابل «الثقافة (وأحيانًا الطبيعة!) الديمقراطية» لبنية المجتمعات الغربية. وبلا مواربة، وعن عمد، فإن أغلب التوسل العربي والإسلامي للديمقراطية الغربية ينطوي على شعور، مُضمَر أو مُعلن، بتفوقية هذه المجتمعات وديمقراطيتها المتأصلة (الغربية) عن الاستبداد المتأصل (الشرقي).
يقرأ حروب المقولات والتواريخ والأفكار باعتبارها متمايزة تمايزًا بائنًا، إذ إن سيد قطب الذي حاول الحروب استكشافه في الكتاب، كونه متخفيًا، هو، برأيي، ممّن تنصبّ حجج الكتاب عليه صبًّا. فقطب لا يعتبر لتجربة تاريخيّة اسمها «الحكم الإسلامي»، وإنما يبحث عن السيادة الإلهيّة في المقام الأوّل، والتي يراها تُطبَّق بصورة مباشرة من قبل مجتمع مسلم يحارب الجاهليّات المتأصلة فيه. بينما حلاق يتحدّث عن تجربة «حكم إسلامي» وعن منظومة فقه (يرفضها قطب بكل وضوح) وقضاة ومحاكم إسلامية سعت إلى تمثيل هذه الشريعة الإسلاميّة تاريخيًّا. وبينما قطب أيديولوجيّ، فإن حلاق تحليلي بالأساس لا ينظّر لجماعة سياسية، شأنه شأن قطب.
والحقيقة، إن خلط الحروب بين قطب وحلّاق فيه من التعسّف الشيء الكثير، وهذا يفسّر الإطار الحداثويّ الذي يقف عليه الحروب في مقالاته، باعتبار أن تقديم حلاق لنموذج الحكم الإسلامي يُعد، من قبل الحروب، مساندة للإسلامويين الذين أنتجوا التطرف، والدم على حدّ قوله. والأكثر غرابة أن اتهامات الحروب لحلاق بالاستشراقية إنما تنصب عليه هو، حيث أبدى في مقالاته استشراقًا ذاتيًّا كبيرًا، وموقفًا أعده مثاليًّا تجاه الغرب الذي يتحدث عنه كمعطى بديهي في مقالاته.
حداثيًّا، فإنه لا مناص من «العلماني» كمقولة تُبنين العصر الحديث. وبالتالي، عربيًّا وإسلاميًّا، إذا تحدثنا من منظور أكثر تركيبيّة تجاه الحداثة والإسلام الحديث، لا ينفلت الإسلامي من أفق الحداثي تمامًا. إذ إن الإسلامي عُلمِنَ ولم يعد ذا دور في أفق الدولة الحديثة، اللهم إلا في قوانين الأسرة والأحوال الشخصيّة التي تسيرهما الدولة المركزية، وتختزل الشريعة في أحكام مقنّنة منضبطة بأفق «النظام العام».
وعليه، إن الدعوات الإسلاموية التي يراها الحروب دعوات «ماضوية» أو قديمة، فإنما أراها، إذا فهمت طلال أسد ووائل حلاق وصبا محمود على ما يرام، دعوات حديثة وإن ظنت قدامتها. وكما يوضح طلال أسد في كتابه «تشكلات العلماني: الإسلام والمسيحيّة والحداثة»، فإن مقولتي «الدين» و«السياسة» يشملان بعضهما البعض إلى حد كبير، إذ لا يمكن للعلماني أن يستغني عن الديني بأي حال، وهو الطرح الذي أراه يظهر شيمتيًا (نسبةً إلى كارل شيمت) في كتاب حلاق من الناحية السياسية. حيث لم يفصل حلاق الدين عن السياسة، كما يظن حروب ويعتقد أن ذلك «إنجاز» الكتاب الأهم، وإنما أظهر كيف أن السياسة الحديثة قلبت السيادة القديمة التي كانت لله، فصارت لها – وهو طرح يمكن تعقبه عند كارل شيمت سابقًا، وجورجيو أغامبن لاحقًا.
وبالتالي، لا يعد الكتاب دعوة إلى حكم إسلامي أو دعم للإسلامويين، كما أوضحت، وإنما هو تحدٍّ للإنتلجانسيا الغربية التي تظن أنه ما من تاريخ لدى اللاغرب، ولا شيء يستحق الاعتبار والتأمل. وعلى عكس ما يفهمه الحروب من الكتاب بأنه يقطع إمكانية التواصل بين مثقفي العالمين العربي والغربي، فإن الفصل الأخير من الكتاب يمكن أن يرد على مثل هذا الزعم، وهو الفصل الذي كرسه حلاق لتبيان الأزمة العالمية (الأخلاقية) التي ينبغي أن يتحد لحلها مثقفو العالمين.
وختامًا، إن كتاب الدّولة المستحيلة هو مساءلة جدية للتيارات العربية التي تختزل الشريعة، سواء باعتبارها قانونًا، أو بالنظر إليها بعيدًا عن مداها الاجتماعي والأخلاقي الذي تتغلغل فيه. وبإظهاره الطاقة العطائية الأخلاقية في قلب الشريعة، فقد وضع حلاق كلًّا من الإسلامويين والحداثويين في مأزق حيال التجربة الحيّة التي عاشتها الشريعة، وكيف أن الاستعادات المعاصرة لها، أو نقدها، هي واقعة على مسافة واحدة من الاختزال والتشييء الناجم، في واقع الأمر، عن مخيال حديث أفاض حلاق في تبيانه بكتابه، وفي كتبه الأخرى، لا سيّما كتابه المتميز «الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات».