كريستيانو رونالدو: نهاية مثيرة لقصة رجل طمح إلى الكمال
هكذا يتوعد الموسيقار «أنطونيو ساليري» الإله، في التحفة الفنية «Amadeus»، بعدما فضّل عليه عدوه «موزارت»، واختاره ليكون صوته. كان ساليري هو منْ طلب هذا الشرف. لطالما أراد التعبّد إليه بواسطة الموسيقى. الرب غرس فيه هذه الرغبة كالشهوة، ثم حرمه الموهبة اللازمة لإشباعها، وبدلاً من ذلك منحها لشخص آخر لم يطلبها، ولم يبذل ما يستحقها عليه.
الحوادث، كل الحوادث العظام منذ بداية الخليقة لم تكن إلا نتيجة تفضيل الإله لمخلوق على آخر، لهذا قال إبليس أول «لا»، ولهذا وقعت أول جريمة قتل في التاريخ، وهكذا أيضاً استعرت النفس الإنسانية بالضغينة والحقد، وارتبط تمردها بالخطيئة المفضلة لعدوها الأول؛ الكبر.
إن أغلب أحقاد البشر يمكن ردها ببساطة إلى هذا السبب، ولم تكن المنافسة بين كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي استثناءً، إذ كانت هذه الفكرة متأصلة بقوة في جوهرها، بل إنها بالتحديد ما أضفت عليها إثارتها.
هوس الإرث
الخلود، هذا ما أراده ساليري. كان هاجس النسيان يطارده. في الواقع، لم تكن الموسيقى إلا وسيلته إلى ذلك. قبل أي شيء، كان المجد الشخصي هو المحرك الأول لساليري.
بالنسبة لرونالدو، لم يكن الأمر مختلفاً.
بالعودة إلى الوراء، عام 2007 على وجه التحديد، حيث يسأل مراسل برنامج «Soccer AM» ثلاثي اليونايتد وقتها؛ ريو فرديناند، كريستيانو رونالدو، أندرسون أوليفيرا، عن أفضل لاعب على الإطلاق، يجيب رونالدو بجدية: «أنا». ليضحك فرديناند. حينها، لم يدرك ريو أن رونالدو كان يعي فعلاً ما يقول.
مثل ساليري، أراد رونالدو أن يكون الأفضل، أن يُخِّلد اسمه، سعى إليها، لم يتصور إلا أن يكون كذلك، لم يرَ أحداً أجدر بها منه، فعندما يُسأل عن اللاعبين الذين يلفتون انتباهه، يجيب: «أنا في المرآة». في المقابل، وضع نفسه في خدمة كرة القدم، وسخّر حياته لأجلها.
ولفترة من الزمن، بدا ذلك ممكناً، رونالدو على القمة، يخطر مختالاً في ملاعب الإنجليز. الإنجليز الذين لطالما كرهوه، بسبب غمزته الشهيرة في مونديال 2006، يشاهدونه، يمرح، ويتراقص على أراضيهم، ولا يملكون إلا إبداء إعجابهم.
في عام 2008، كانت ذروة مجد رونالدو، حين حصد كرته الذهبية الأولى، وبدا أنه لا يمكن إيقافه… لبعض الوقت.
أداة الرب
ليست الموهبة هي ما تجعلنا خالدين، وإنما ذلك الشيء المُبهم، كما لو أنك تُبلِّغ عن السماء رسالة ما، أن يتذكر بك الناس عظمة الإله. كان ساليري موهوباً، بلا شك، لكنه ليس ذلك الشيء، كذلك لم يكن رونالدو.
على أن ساليري كان يعرف بوجوده، يستطيع تمييزه، الرب منحه تلك المقدرة، وكان ذلك عذاباً مُضاعفاً، فبينما كان يحترق بشهوته، رأى موزارت بضحكته الفاحشة، ينثر موسيقاه، ببساطة، وكأنها وحي، دون جهد، وبلا مقابل يستحق عليه موهبته.
ومثل ساليري، كان رونالدو، كل ما يتمناه تحت أقدام ميسي. بدا الأمر بسيطاً، لا يحتاج كل ذلك الهوس، هو فقط يركض نحو الخصوم، وكل شيء يحصل تلقائياً، سهلاً، غزيراً لحد تنتفي الدهشة معه، لأنه لغزارته، يصبح مألوفاً.
ومن جديد، اختار الرب أداته الخاصة، وشاهد رونالدو كل ما يكد من أجله، يذهب لميسي. كان هو اللاعب الأفضل، الأمتع بالنسبة لكثيرين، إلا أن ذلك لم يكن كفاية، مقابل نفحة ربانية واحدة للأرجنتيني.
حقد وإعجاب
كان ساليري معجباً بموزارت، ومنبع هذا الإعجاب إدراكه لعظمة الموهبة التي مُنحها الأخير، ولبؤسه. كان هو أكثر منْ يُقدِّر موسيقى عدوه. في الوقت نفسه، كان لديه شعور عارم بالحقد، ينبع من إيمانه بالاستحقاق، كان هو منْ ينبغي أن يكون مكان موزارت. لذا، رأى ساليري أن الرب يسخر منه، ومثلما تجسّد صوته في موسيقى موزارت، تجلى تهكمه في ضحكته.
مثل ساليري، رونالدو أيضاً يشعر بالاستحقاق. كانت الكرة هوسه، بذل ما في وسعه ليكون على قمتها، ثم جاء ميسي، ومثل موتسارت، اُختير هو أداة للرب.
كانت حسرة رونالدو، بينما يشاهد ميسي بهدوئه، ذلك الهدوء الذي يشبه ضحكة موزارت المتهكمة، يتوج بالكرة الذهبية الرابعة على التوالي، ثم بكاؤه وهو يتسلّم كرته الثانية في السنة الموالية، بعد حرمان سنين، يكشف بجلاء مدى شعوره بالظلم.
باستثناء ميسي، لم يكن أحد ليقدر على رونالدو، ليس لأن رونالدو غير عادي، فرونالدو لم يُولد خارقاً، لكن هوسه بأن يكون الأفضل، هو الذي ليس عادياً، هذه العقلية، لا الموهبة، هي ما تحركه، وتجعل منه لاعباً أسطورياً، بينما يبدو ميسي كماريونيت، تُحرِّكها يد عليا، وكأنه مبعوث لحرمانه من حلمه، فلولا هذه اليد، ما كانت هناك منافسة.
رونالدو العنيد
لم يستطع ساليري مجاراة موزارت، تلاشى في وهج موهبته، ولم يملك إلا أن يتضرع إلى الرب أن يمنحه ولو شذرة واحدة مما يغدق به على عدوه، أن يسمح له بأن يساهم ولو بجزء بسيط في مجده، إلا أن ذلك لم يحصل.
على عكس ساليري، لم يتضرع رونالدو إلى السماء لتمنحه بعضاً مما منحت عدوه، في الوقت نفسه، كان غروره أعظم من أن يتفوق أحد عليه. بداخله، أدرك أن قدرة ميسي على المراوغة يستحيل مجاراتها، إنها ببساطة تطغى على ما عداها، لذا كان عليه، إذا ما أراد المنافسة، أن يترك فتى مانشستر، الممتع، الراقص، وراءه.
وعلى نحو لافت، طوّر رونالدو نسخة مرعبة، بات وكأنه لا يلعب للاستمتاع، بقدر ما يلعب لسلب ما يشعر أنه يستحقه، وينتمي إليه. بحلول 2018، كان رونالدو متقدماً على ميسي بالفعل، ببطولة مع منتخب بلاده، ولقب دوري أبطال.
بشكل أساسي، أصبح رونالدو مُلهِّماً للذين لم يُمنحوا القدر الكافي من الموهبة. يقول ظهير برشلونة السابق، داني ألفيش: «أحترم كريستيانو كثيراً، وكيف لا أحترم الرجل الذي أنجز كل شيء على أساس العمل الجاد ووضع قلبه وروحه فيه؟».
مع ذلك، ليس هذا موقف الجميع، إذ كانت الكراهية طوال مسيرة رونالدو، هي وقوده ليصبح ما هو عليه، يقول: «حبك يجعلني قوياً، أمّا غضبك يجعلني غير قابل للإيقاف».
الشرير المثالي
مثل موزارت، يرى كثيرون أن ميسي معجزة من الرب، مبعوث السماء في كرة القدم، لذا لا عجب أن منافسة رونالدو له تثير البغض للبرتغالي.
على أن المسألة لا تخلو من الغيرة. بالنسبة للبعض، تُسبِّب تلك المنافسة إزعاجاً شديداً، إذ كان من المتوقع أن ينفرد ميسي وحده بالقمة، يدرك الجميع ما خصّه الرب به، لذا لا يجدون حرجاً في أن يكون الأفضل.
أمّا رونالدو فلم يكن حتى الأكثر موهبة بعد ليو، وإنما مجرد رجل يأخذ الأمور بشكل شخصي، اعتاد زملاء الصبا وصفه بـ«الطفل الباكي»، بسبب نوبات غضبه عندما يخسر، أو لا يمررون له الكرة. ومع ذلك، كان هو منْ يزاحمه على القمة.
لذا، ليس غريباً محاولة البعض إنكار وجود المنافسة برمتها، وادّعاء أنها صنيعة الإعلام، بتقديم مزاعم لا تتفق والعقل، ولا الأرقام. أشهر تلك المزاعم، أن رونالدو مجرد هدّاف، رغم كونه أحد أكثر اللاعبين صناعة للأهداف عبر التاريخ، بل وأكثر منْ صنع أهدافاً في تاريخ دوري الأبطال.
على ما يبدو يؤمن كثيرون بعدم جواز منافسة ميسي، وكأن موهبته في حد ذاتها تعطيه الأفضلية على غيره، حتى أن رئيس برشلونة السابق «جوسيب بارتوميو»، رأى أن الكرة الذهبية يجب منحها لليو كل عام. في المقابل، يُنظر إلى رونالدو كشخص حاقد.
مثل كل المتمردين، كان هو الشرير المثالي، متغطرس، لا يقنع بحكم الرب. بينما ميسي، فهو مبعوث السماء في كرة القدم، والنبي المُنزَّه، الذي يجهل قدر نفسه.
عزّز ذلك التصور شخصية رونالدو؛ الثقة الزائدة، وميله للاستعراض، عضلات بطنه، السيارات، ألماس في أذنه، في المقابل صورة ميسي كشخص خجول، قليل الكلام، حجمه صغير، فضلاً عن كونه عبقرياً بالفطرة، إنها توليفة ممتازة لا تتوافر إلا في عجيبة إلهية، وليس هناك أفضل من تناقض كهذا لخلق ثنائية الشرير والطيب، وكان رونالدو هو الشرير بالطبع.
قدر ساخر
«هل تعرف منْ أكون؟»، كان هذا أول ما سأل ساليري الأب فوجلر، في افتتاحية «Amadeus»، قبل أن يتلو عليه اعترافه. الكاهن الشاب، الذي درس الموسيقى في فيينا، لا يتعرّف عليه، يعزف ساليري بعضاً من موسيقاه، ومع ذلك لا يبدو أن فوجلر سمعها من قبل، لكن عندما يعزف موسيقى عدوه موزارت، يخبره الكاهن أنه يعرف تلك الموسيقى.
كل ما عاش ساليري يهرب منه، وتسبّب في موت موزارت لأجله، لقيه في النهاية. بعد ثلاثين عاماً على وفاته، أعمال موزارت لا تزال حية، بينما عاش ساليري يشاهد اسمه ينقرض ببطء، وتخفت موسيقاه شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد أحد يعزفها على الإطلاق.
مثل ساليري، رونالدو أيضاً عاش يهرب من شبح الوصافة، كان هوسه أن يتم تذكره كأفضل لاعب على الإطلاق، وألّا يتقدم عليه أحد، لكن هوسه هذا، وللمفارقة، هو ما قاده إلى هواجسه.
لم يكن الخروج المدوي من ريال مدريد في 2018، إلا نتيجة شعور البرتغالي بعدم معاملته بما يليق بالأفضل. أحس كريستيانو أن النادي يضعه دائماً خلف أسطورة الفريق «دي ستيفانو»، كما رأى في تقاضي ميسي أجراً أعلى منه، عدم احترام له. بدرجة كبيرة، دفعه ذلك إلى الرحيل.
بمغادرة مدريد، هزم رونالدو نفسه. كان الفريق قد حصد ثلاثة ألقاب متتالية في دوري أبطال، وبإمكانه مواصلة فرض سيطرته على أوروبا، وبالتالي ضمان الكرة الذهبية، وتحقيق التقدم على ليو، إلا أن غروره، أعماه عن المعركة الكبيرة.
من وقتها، شهدت مسيرة رونالدو تدهوراً مستمراً. مثل ساليري، اصطدم بما حاول دائماً الهرب منه، وبأسوأ صورة ممكنة. خسر رونالدو صراعه مع ميسي، الذي تقدم عليه بكرتين ذهبيتين، ثم فوزه، وللسخرية، بآخر كأس العالم لهما.
في الأخير، إنها نهاية مثيرة لقصة رجل طمح إلى الكمال، بالطبع رونالدو لن يُنسى، لكن أيضاً لن يتم تذكره كأفضل لاعب على الإطلاق.