تبيَّن لي من وثائق وقفيات الأميرة فاطمة أنها قد استوعبت أغلب أساليب إدارة الأزمات ومعايير الحوكمة بمعناها المعاصر، فمن الشروط التي أدرجتها في حجج وقفياتها أنه: إذا حصل للأطيان الموقوفة المذكورة شيء يمنع الحصول منها على شيء من الريع بسبب آفة سماوية حصلت في مزروعات الوقف، أو غير ذلك؛ فجميع ماهيات المستخدمين في إدارة هذا الوقف والزروعات وجميع المرتبات المبينة بهذا الوقف يصرف جميعها لمستحقيها مما يكون موجودًا من النقود بأحد «البنوك» على ذمة مشترى أطيان. وكذا إذا لزم في سنة من السنين مشترى مواشٍ أو وابورات بخارية، أو آلات زراعية، أو غير ذلك للأطيان الموقوفة المذكورة، ورأى الناظر على هذا الوقف المصلحة في مشترى ذلك لجهة الوقف لزيادة ونمو غلة إيراده، فيشتري ما يلزم شراؤه من ذلك، ويصرف ثمنه من ريع عموم الوقف إن كان بالوقف المذكور ما يفي بثمن ما صار مشتراه، وإلا فيصرف الثمن المذكور في مشترى أطيان، أو يودعه في أحد «البنوك» على ذمة مشترى أطيان لجهة الوقف المذكور، وكل ما اشتُري من ذلك يكون وقفًا منضمًّا وملحقًا بهذا الوقف وتابعًا له.

وكل ما تكَوَّن من المبالغ الموضوعة بالبنوك أمانة على ذمة مشترى أطيان وألحاقها بالوقف، مبلغ يزيد عن الألفي جنيه مصري، يُشترى بذلك المبلغ أطيانٌ على ذمة الوقف وتلحق به، ويكون حكمها كحكمه، وشرطها كشرطه، وهكذا كل ما تكوَّن من النقود في البنوك على ذمة الوقف لمشترى أطيان له وإلحاقها به، بشرط أن يكون شراء الأطيان المذكورة لجهة الوقف بمعرفة قومسيون (لجنة خبراء) من أربعة أشخاص على الأقل من المستحقين في هذا الوقف المقيمين بالقطر المصري، ممَّن لهم إلمام ومعرفة وكفاءة ودراية بالأطيان، وما يساويه الفدان منها من الثمن، واثنان من أعضاء الجامعة المصرية المذكورة، أو ما يُجعل محلها، ويكون القومسيون تحت رياسة ناظر الوقف، ومتى قرَّر موافقته مشترى الأطيان بالثمن الذي تساويه، وتبين من معاينتها أن في شرائها للوقف مصلحة كبرى، وصدر قراره بذلك؛ فعلى ناظر هذا الوقف في هذه الحالة إجراء ما فيه تنفيذ شراء الأطيان لجهة الوقف، وإلحاقها به بالطرق القانونية الشرعية.

ويُصرف من ريع الوقف شهريًّا مبلغ قدره 70 جنيهًا مصريًّا بعد وفاة الواقفة لكل من يكون ناظرًا على هذا الوقف ماهية (مرتب) لشخصه خاصة، نظير إدارة شئون هذا الوقف، والنظر في صالحه، بشرط ألَّا يطلب الناظر المذكور زيادة على هذا المبلغ، فإن طلب زيادة على مبلغ السبعين جنيهًا شهريًّا يكون معزولًا من نظره على هذا الوقف.

واشترطت الأميرة أنه يلزم أن يكون بالسراي الكائنة ببولاق على الدوام طاقمٌ لوضع الأكل لأربعة وعشرين نفرًا، وطاقم شاي لاثني عشر نفرًا، وطاقمان لشرب القهوة والأدوات التي تلزم لذلك. وكلما حصل كسرُ شيءٍ من ذلك أو فقده، يشترى غيره من ريع هذا الوقف. ويعكس هذا الشرط الأخير درجة عالية من الاعتماد على ذمة المستخدمين ويقظة ضمائرهم، وهما من الأمور التي نادرًا ما تتحقق.

واشترطت أيضًا أن:

ناظر هذا الوقف ملزوم بتقديم حساب عن إيراده ومصرفه لنظارتي الحربية والبحرية بدار الخلافة والسلطنة العثمانية سنويًّا ليُعلم لهما ذلك، ومقدار ما خصَّهما من صافي الريع بعد المشروط صرفه في هذا الوقف، ولكل من ناظري الحربية والبحرية أن يُعيِّن من يشاء من قبله لفحص الحساب ومفرداته بمحل إدارة الوقف بمصر، كما أن لمولانا خليفة المسلمين أدام الله شوكته، الحقَّ في تعيين من يلزم بأمره لفحص الحسابات ومفرداتها بمحل إدارة الوقف بمصر سنويًّا أيضًا، وفي طلب كشوف بالإيراد والمنصرف سنويًّا كذلك.

وهذا من شروط الشفافية والمحاسبة، وتطبيق مباشر لمبادئ الحوكمة بتعبيراتنا المعاصرة.

وكل ناظر على هذا الوقف من بعد الواقفة ملزوم بتنفيذ شروط الواقفة المشروحة تمامًا بدون زيادة ولا نقصان، ومن خالف شيئًا من ذلك بأن زاد أو نقص أو غيَّرَ، أو بدَّلَ، أو أخَّرَ صرف استحقاق المستحقين لهم في مواعيدها، كان ذلك الناظر معزولًا من نظره على هذا الوقف ويُعيَّن في النَّظر عليه غيره.

وتحسبًا للطوارئ غير المتوقعة، اشترطت الأميرةُ أنه إذا لم تُنشئ الواقفة في مدة حياتها وبمعرفتها ومن طرفها محلًّا على ستة أفدنة من الأطيان الموقوفة الكائنة ببولاق الدكرور بالقرب من السراي المذكورة، للجامعة المصرية؛ لإكمال المنافع والمرافق ومحلات لتدريس العلوم والفنون والصنايع بها، وغير ذلك، فيكون لحضرات رئيس وأعضاء تلك الجامعة الحق في بناء ذلك المحل على الستة الأفدنة المذكورة من طرف الجامعة، في ظرف خمس سنوات من انتقال الواقفة لدار البقاء، بشرط أن يوضع بأعلى كل باب من أبواب الجامعة العمومي وغيره لوحة من الرخام مكتوب عليها بخط عظيم (هذه من آثار دولة البرنسيس فاطمة هانم أفندي إسماعيل). أمَّا إذا مضت مدة الخمس السنوات ولم يحصل من رئيس وأعضاء الجامعة البناء على الستة الأفدنة المذكورة للجامعة، فيسقط حق الجامعة في البناء على الستة الأفدنة.

ولهيئة إدارة الجامعة المصرية الحق في الاطلاع على حسابات هذا الوقف إيرادًا ومصرفًا لمعرفة ما يخص تلك الجامعة المبين قبلًا من صافي الريع. (وهذا أيضًا من شروط الشفافية والمحاسبة والحوكمة).

وقد اختصت الأميرة نفسها بحق النظارة على وقفها من تاريخ إبرام عقد الوقف مدة حياتها، ثم من بعدها يكون النظر لحضرة أحمد خورشيد بك وكيل دائرتها وأحد المستحقين في هذا الوقف مدة حياته، وما دام لم يحصل منه خيانة في الوقف، أو ارتكاب ما يخل بشئونه، فإن حصل منه شيء من ذلك، أو مات، يكون النظر على ذلك، لواحد من أهل الصلاح والفلاح مقيمًا بالديار المصرية أو غيرها، يُنتخب بمعرفة عشرة أشخاص، أربعة منهم من أعضاء الجامعة المصرية يكون من ضمنهم رئيسها، واثنان منهم يكونان من ذوات مصر الأتقياء البعيدين عن خدمة الحكومة وغيرها، واثنان منهم من أكابر علماء المسلمين المشهورين بالزهد والصلاح بمصر، ومنْ يكون «قميسيريًّا»؛ أي مندوبًا عاليًا، من الحكومة العثمانية بالديار المصرية، إن كان موجودًا بمصر، فإن لم يكن موجودًا بالديار المصرية «قميسيري عثماني» فيحل محله أحد أكابر تجار مصر المسلمين، والعاشر هو منْ يكون قاضيًا لمصر المحروسة، ويكون في هذه الحالة هو الرئيس، فإذا تم انتخابهم جميعًا بإجماع الآراء على انتخاب شخص للنظر كان المنتخب المذكور ناظرًا على هذا الوقف، وحينئذٍ يقرره قاضي المسلمين الشرعي بمصر حينذاك.

أمَّا إذا اختلفوا فيمن يكون ناظرًا وانقسموا في الانتخاب قسمين يكون النظر لمن ينتخبه الأكثر منهم، فإذا تساووا كان النظر لمن يكون منتخبًا من القسم المُنضَّم إليه قاضي مصر، بشرط أن يكون المُنتخب للنظر على هذا الوقف مشهودًا له بالذمة والصلاح والتقوى والمعرفة وحسن الإدارة، وله معرفة تامة بفن الزراعة وممارستها، وبعيدًا عن خدمة الحكومة المصرية وغيرها، وهكذا عند انتخاب كل ناظر على هذا الوقف.

وفي فقرة نادرة الوجود في حجج الأوقاف، نقرأ في حجة وقفية البرنسيس فاطمة أن مجلس الإشهاد الخاص بهذه الوقفية قد عرضَ عليها الشروط العشرة المعروفة في إدارة الأوقاف عمومًا، وهي شروط تمنح للواقف حرية مطلقة في إجراء التغييرات التي يراها متى شاء، ولكن الأميرة رفضت اشتراط تلك الشروط لنفسها أو لغيرها. وجاء في الحجة أنه:

بعرض الشروط العشرة المعلومة على البرنسيس الواقفة بمعرفة حضرة عضو المحكمة، والشهود، امتنعت عن اشتراطها، ولا شيء منها في وقفها هذا، لا لنفسها ولا لغيرها، وأصرَّت على ذلك، وقالت بصريح لفظها وفصيح نطقها: «إني فوضت أمري إلى الله تعالى في كل من يسعى في تغيير أو تبديل أو تنقيص أو زيادة شيء مما شرطته في وقفي هذا المبين قبلًا؛ حيث إن غرضي الأكيد وقصدي الوحيد هو تأبيد وقفي هذا، وتنفيذ شروطه على الوجه المشروح على الدوام والاستمرار أبد الآبدين ودهر الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين».

تلك الشروط التي نقلناها في أغلبها بحروفها من وثائق وقفيات البرنسيس فاطمة، تغطي معظم مبادئ الإدارة الحديثة المطبقة في مؤسسات القطاع غير الربحي بصفة خاصة، وفي غيره من مؤسسات الأعمال بصفة عامة، وتغطي كذلك أغلب قواعد حوكمة تلك المؤسسات وأصولها.