الجريمة والعقاب: بين الشيخ أبو زهرة وفوكو
النفس البشرية إذا لم تجد حولها حدودًا تمنعها من ارتكاب الجرائم ربما تستفيض في الجرائم، ليس بالضرورة بدافع الشر أو رغبةً في تعذيب الآخرين، وإنما يمكن أن يكون بدافع جلب منفعة أو الحصول على شيء لا يأتى بالسلم.
الجريمة موجودة منذ بداية الخلق عندما قتل قابيل هابيل، وتِباعا نزل حكم الله في كتابه الكريم أنه «من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادِ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا».
وكانت عصور الجهل والاستعباد للبشر في أوروبا في القرون الوسطى مرحلة تتصف بالظلام والتخلف، وما جاء بعدها سُمى بالنهضة والاستنارة. نزل القرآن بالتبليغ والرسالة والشرائع التي تحفظ الحقوق والأنفس والبيان بجزاء المذنب والعقوبة المستَحقة لكل متجاوز.
وقد تناول كل من الإمام محمد أبو زهرة وميشيل فوكو فكرة العقوبة وشروطها وحدودها وتَدرج كل منهما في الحديث عن فكرة العقوبة بشكل مختلف؛ لكن السعي كان نحو نتيجة متشابهة، وهي: حفظ حقوق الأفراد ومعاقبة المذنب بما يناسب جريمته لضمان الحفاظ على المجتمع وسعيًا ليكون أفراده أسوياء. هذا التدرج كانت له بداياته المختلفة، فهو نابع إما من معاني متسلسلة أو أحداث متتالية.
قال الله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين».
بهذة الآية بدأ الإمام محمد أبو زهرة كتابه: «الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي» حيث كان منطلق أفكاره في هذا الكتاب يعتمد على فكرة أن الرحمة هي رسالة كل الأديان والأنبياء من الله للخلق، وأن الرحمة هي العدل بين الخلائق وهي القاعدة المستقرة الثابتة التي يقوم عليها بناء المجتمع.
وقد عرض الإمام عدة آيات من القرآن تفيد بأن الله جعل الرحمة والقسط متلازمين، كما قرن الله ذكر الحديد بجوار ذكر القسط في إشارة إلى ضرورة وجود رادعٍ وقوةٍ لإقامة العدل وحمايته ومن ثَم مَن يخالف قواعد العدل والحق يكون متعرضًا للعقاب الذي أقره الله في كتابه أو الذي يقيمه ولي الأمر طبقًا لقواعد الدين.
فقد أوضح أبو زهرة أن العقوبة في الإسلام لها أصلان: الأول هو الكتاب والسنة، الثاني هو التعزير.
أما بالنسبة للعقوبات وأصولها فيقول أبو زهرة أن:
أولهما: أن أوامر الإسلام كلية لا جزئية. فالقرآن الكريم قد نص على عقوبة عدة جرائم تبلغ ستًا، هي: البغي، قطع الطريق، السرقة، الزنى، قذف المحصنات، والقصاص بكل شعبه.
وزادت السنة عقوبة الخمر والردة وغيرهما. وبقيت عقوبات لجرائم كثيرة لم يتناولها الكتاب والسنة بالتفصيل، وقد تُرك ذلك لولي الأمر يقدر له العقوبات بما يتناسب مع الجريمة، وبما يكون به الإصلاح للعامة، وسيادة الأمن بين الكافة. وهذا هو التعزير الذي هو الأصل الثاني من أصول العقاب في الإسلام.
ثانيهما: أنه لا بد من ملاحظة أن هناك أصلًا جامعًا تنتهي إليه العقوبات الإسلامية. ومعنى كونه جامعًا أنه يُرجع إليه في كل عقوبة تقرر بحكم التعزير.
وذلك لأن التعزير تنفيذ لأمر ديني، وهو العمل على إصلاح الجماعة ومنع العبث والفساد، فلا بد أن يكون ثمَة أساس ضابط لما يُعتبر جريمة وما لا يُعتبر، وذلك الأساس لا بد أن يكون مشتقا من مصادر الشريعة ومواردها وغايتها ومراميها واتجاهاتها.
وهذا يعني أن الحاكم لا يتمتع بحرية تحديد العقوبة للمواطنين – في أي قضية لم تَرد في كتاب الله – ويده ليست طليقة في البطش بالعامة، ولكن هناك ضوابط يسير على نمطها وتكون له توجيهًا ومعيارًا حتى لا يجور على الناس.
وهنا تحقيق آخر لمعنى العدل الذي أراد الله إرساءه في الأرض. فالعقوبة تأتي عند مخالفة الأفراد لأوامر الله في كتابه وسنته، والقوانين التي أرساها الحاكم العادل سعيًا لحفظ المصلحة العامة والنفع لأفراد المجتمع.
فجرائم التعزير هي التي لم ينص الشارع على عقوبة مقدرة لها بنص قرآني أو حديث نبوي – مع ثبوت نهي الشارع عنها لأنها فساد في الأرض أو تؤدى لفساد في الأرض – وإنها لكثيرة بكثرة ما يبتكر ابن آدم من فنون الإجرام، وما يوسوس به إبليس في نفسه من ضروب الإيذاء، مثل الغش وشهادة الزور وخيانة الأمانة وغير ذلك من المحرمات؛ فهؤلاء يعاقبون تعزيرًا وتنكيلًا وتأديبًا بقدر ما يراه الوالي وعلى حسب كثرة شيوع ذلك الذنب في الناس أو قلته.
فإذا كان كثيرًا زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلًا.
وإرادة ولي الأمر في تقديره للعقوبات الزاجرة للجرائم التعزيرية ليست مطلقة؛ بل إنه مقيد بين الجريمة والعقاب: مقيد بالأخذ بأقل قدر يكفي للزجر، فلا يبغي ولا يشتطَّ في العقاب، ولا يجعل هواه مسيطرًا عليه، ولا يجعل العنف هو الذي يسود فتصبح الأُمة كلها في مشقة بحيث يخاف البريء مع السقيم.
يذكر الإمام أن هناك تناقضًا واضحًا مع القوانين الوضعية الحالية في جانب العقوبات، ويقول أن شيوع جريمة معينة وكثرة عدد مرتكبيها يجعل عقوبتها مشددة ومضاعفة.
حيث ذكر أن الإمام أحمد روى في مسنده عن ديلم الحميري أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنا بأرض نعالج بها عملًا شديدًا، وإنا نتخذ شرابًا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. فقال: «هل يُسكر؟»، قلت: نعم. قال: «فاجتنبوه». قلت: إن الناس غير تاركين. قال: «فإن لم يتركوا فاقتلوهم».
فهذا الحديث يدل على أمرين:
أحدهما: أن الجريمة تكبر بكثرة فاعليها ولا تضعف بكثرة المرتكبين. وذلك غير ما عليه الفكر القانوني الحالي. فإن الجرائم التي تشيع يُخفف تطبيق العقاب فيها، وذلك لأن هذه القوانين تُشتق مما تواضع عليه الناس، وهذا بخلاف الشريعة.
بل إن كثرة مرتكبي الجريمة وتكرار شرها توجب أن يضاعف القانون الشرعي مقاومتها لتجنب شرها.
وقد أوضح الإمام أبو زهرة المصالح الخمس التي يجب الحفاظ عليها في أي مجموعة بشرية، والتي تستوجب بمخالفتها العقوبة لمرتكبيها. فإن المصلحة المعتبرة هي المصلحة الحقيقية.
والمصالح التي لاحظها الإسلام ترجع إلى أمور خمس: وهي ما فيه حفظ ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال)؛ وذلك لأن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تقوم على هذه المعاني التي لا تتوفر الحياة الإنسانية إلا بها.
فيجب على الحاكم والمجتمع المحافظة على هذه الحقوق ومعاقبة من يتعدى عليها، ولكن مشكلات العالم الإسلامي ليست في النص والأحكام وإنما في التعامل مع النص.
فكلنا نبدي موافقة على أن النفس والعقل لا بد من حمايتهما وأن الدين يكفل حرية الاعتقاد للغير، وتجب حماية ذلك الحق، وأن المال ملك لصاحبه الذي تعب وبذل الجهد ليحصل عليه، فهو حقه، ولا بد من حمايته له، وأن النسل والتكاثر حق لبني البشر ومصلحة للمجتمع.
ولكن متى وقع الاعتداء على هذه المصالح العامة فالتعامل معها له ضوابطه التي غابت عن الحكام.. «المسلمين»؛ فوصلت العقوبة عندهم لقتل الآلاف وتشريد الملايين حتى أصبحوا لاجئين أو معتقلين، واستبيحت الدماء ودُمِّر العمران وأُفسدت العقول لا من أجل تحقيق العدل ولا الرحمة ولا المساواة ولا العيش الآمن، وإنما حبًا في السيطرة واستعلاءً على الحق، متجاوزين في ذلك كافة الشرائع ومتغافلين عن أن العقوبة ليست دمارًا للأفراد.
وإنما يجب أن تكون طريقًا للتغيير في سلوكهم وطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للحياة واستخدامهم لوسائلها.
إذا تعرضنا لنفس القضية عند الغرب فسنجد أن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو قد تكلم عن نفس القضية، والتي بدأ فيها التغيير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بعدما اشتد بطش الملوك بالشعوب، وكان التعذيب هو الوسيلة الوحيدة للتعامل مع أي مذنب مهما كان قدر جريمته.
وهنا، احتج الفلاسفة والحقوقيون وتعالت الأصوات المطالبة بأن تكون العقوبات معتدلة ومتناسبة مع الجرائم، وألا يُحكم بعقوبة الموت إلا على المجرمين القتلة، وأن يُلغى التعذيب الذي ينافي الإنسانية.
كانت مرحلة التحول هذه تشهد تطورات هامة حيث تم الاحتجاج على أسلوب التعذيب ووسائله، وكان هناك سخط عام من أفراد الشعب والحقوقيين الذين أدركوا مساوئ القتل والتعذيب، وقالوا أن الشعب بعد التعود على «رؤية سيلان الدم» يتعلم سريعًا «أنه لا يستطيع الانتقام إلا بالدم».
ويرى فوكو في هذا الأمر أن مبدأ الشمولية وإرادة المستبد هي في جعل الموت قانونًا للجميع وعقوبة موحدة، وأن كل جسد مُحطم من هذه الأجساد هو حجر البنيان في هذه الدولة المستبدة ولا ضرر إن أصاب الموت الأبرياء!
وهكذا بدأت مرحلة التغيير تدريجيًا من الاعتراض والتنديد إلى مرحلة العقاب بدون تعذيب، وتقنين عقوبة القتل. واستمر الغربيون من فلاسفة وحقوقيين يتجهون لتحسين الحالة العقابية للأفراد وتحقيق العدالة وإن كانوا لا يدركون هذا المعنى الكبير.
فقد كانوا في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر يسعون لوضع حد لعقوبة القتل التي استباحت مجموعة البشر وللعقوبة بشكل عام.
وفي خضم هذه التحولات أدركوا أن التغيير هو هدف العقوبة، وهذا بدوره يقلل من الفعل الإجرامي وانعكاس آثاره الضارة على المجتمع. وعقّب فوكو على هذه الصحوة بأنها جاءت نتيجة للتفاوت والإسراف في عقوبة القصاص؛ وليس سعيًا مباشرًا للحد من سلطة العقوبة أو لإرساء قانون عام يحدد حالات الجرائم وعقوباتها المستحقة.
قدم ميشيل فوكو 6 ضوابط لضمان أن تكون العقوبة مؤثرة وتتصف بالاعتدال في مواجهة الجرائم والمجرمين، وهذا في محاولة منه لتفادي التجاوزات والتعذيب المصاحب للعقوبات التي كان يقوم بها الأمراء والملوك بحق أفراد شعوبهم.
فقد قال ابتداء: أنه يجب أن تبتعد العقوبة عن التعسف بقدر المستطاع فيجب أن تعطي العقوبة كل المطابقة الممكنة مع طبيعة الجُرم، وأن تأتي العقوبة من طبيعة الأشياء، فهذه أفضل وسيلة حتى لا نعود نرى الإنسان يمارس عنفًا على الإنسان.
وكان نموذج فرنسا أحد أهم النماذج التي كانت توصف – في الجانب التطبيقي للعقوبة – بالوحشية، فقد كان الاعتقال التعسفي بفرنسا يمثل تجاوز الملك والسلطة العليا، وقد اعترض عليه المصلحون ووصفوا الاعتقال بأنه صورة أداة امتيازية للحكم الاستبدادي.
ثانيا: أن يكون إدراك الأفراد لأضرار العقوبة رادعًا لهم أكثر من خوفهم من المعاقبة المادية، وذلك بتقليص الرغبة التي تجعل الجريمة جذابة، وتنمية المنفعة التي تجعل العقوبة مريعة وجعلها ومضراتها أكثر تأجيجًا من الجريمة وملذاتها.
ثالثا: أن يكون هناك جدولة زمنية للعقوبة بحيث لا تكون نهائية، لأن العقوبة تغير وتبدل حال المجرم وتضع عقبات لا بد من وجود نهاية لها حتى لا تكون متناقضة. فإذا كانت العقوبة هدفها الإصلاح فلا يجب أن تتحول لتعذيب وتسلط ويصبح الجهد المبذول من أجل تغيير الأفراد طاقة مهدرة.
رابعا: أن المجرم ليس وحده هدف العقوبة ولكن العقوبة بها علامات عديدة موجهة لأفراد المجتمع كي يمتنعوا عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، ويدركوا أن العقوبة التي يقضيها المجرم إنما هي تعويض يدفعه لكلٍ من مواطني مجتمعه ثمنًا للجريمة التي أضرت بهم جميعا.
خامسا: أن تتحول العقوبة من دعاية إعلانية لحالة من التنفيذ الفوري للقانون وأحكامه. فالتمثيل بالعقوبة وإعطاء العبرة منها في شكل التعذيب الجسماني والترويع الجماعي – ليحفز في ذاكرة المشاهدين جزاء الجريمة – لم يعد يفيد؛ إذ أن دعامة العبرة أصبحت بالدرس والخطاب والعلامة المقروءة والأخلاقيات العامة، فتنشيط القانون هو الوسيلة للتقوية والتوعية الجماعية وليس الاحتفال المرعب بالعقوبة.
سادسا: أن ينعكس خطاب الجريمة التقليدي على المجتمع وأن يكف الأفراد عن حكايات المجرمين وكبار الفاسدين والانتقال إلى الحديث عن القانون والعقوبة والثقة بالقضاء وحب الوطن وكره الفساد.
الاختلاف بين المنظورين «الإسلامي والغربي» يكمن في أن التدرج الغربي جاء من واقع أحداث وحشية ومساؤى حالات التعذيب وثبوت أن هذه الوسائل مضرتها أكثر من ردعها للمجرمين عن جرائمهم. بينما المنظور الإسلامي يستند لشرائع أنزلها الله في كتابه وسنة نبيه، الصالحة لكل زمان ومكان، إما بنص صريح أو قياس واجتهاد كما أن مصدر التشريع يتميز بكونه مصدرًا إلهيًا يتفرد بمعرفة صنعته وكيف يردعها عن نفسها الأمارة بالسوء.
ولكن حكام أمتنا أصابهم العوَج والالتفات واستباحوا أجساد المواطنين وأعراضهم ونفسياتِهم وتركوا النص ودلالاته ونسوا أن العقوبات مدرسة للتغير وليست فتكا بالمذنبين واستقواءً بالعدة والعتاد. ويأتي هنا تفسير أبي حنفية لمصطلح دار الإسلام أو الكفر فيقول أن المقصود ليس عين الإسلام والكفر وإنما المقصود هو الأمن والخوف.