مسلسل «كوفيد 25»: مساوئ ألا تكون حساسًا في تناول الكارثة
انتشرت شائعات قبل عرض الإضافة الأخيرة لعالم مارفل السينمائي، مسلسل الصقر وجندي الشتاء The falcon and the winter soldier تفيد بأن هناك خطًا دراميًا تم حذفه في آخر لحظة بسبب تشابهه مع الوباء الذي يستمر في اجتياح العالم، وأن صناع المسلسل وجدوا أنه من الحساسية تناول قصة تتشابه مع وضع آني ومأساوي بذلك الشكل أثناء حدوثه حتى مع وجود فروقات.
لم يتم التأكيد على حقيقة وجود ذلك الخط من عدمه، لكن بمشاهدة المنتج النهائي يمكن ملاحظة فراغات في الحبكة أو عناصر ملموسة لم تستخدم مثل حمولة من اللقاحات في أحد المشاهد أو تغييرات في الحوار والمونتاج، سواء كان ذلك دقيقًا أم لا فإن صناع المسلسل آثروا تجنب الجدل واختيار الطريق الأسلم والأكثر منطقية والأكثر مراعاة لمشاعر من اختبروا الفقد بسبب الوباء.
في شهر مارس من ذلك العام وبعد مرور سنة تقريبًا على بداية وباء كوفيد 19 الذي هز العالم، أعلن الممثل يوسف الشريف على صفحته الرسمية على موقع فيسبوك أن مسلسل “كوفيد 25” في طور التحضير، ومن المنتظر عرضه في رمضان من نفس العام، قوبل الخبر بالاحتفاء من محبي النجم الذي يرون فيه وجه المستقبل والآتي دائمًا بكل جديد من عالم الأفلام الهوليوودية، وفي المقابل استنكر الكثيرون صنع دراما مبنية على استغلال حدث لا يزال يؤثر على البشر في شتى أنحاء العالم بل إن فعل تصوير العمل نفسه هو عملية خطيرة في ظل وباء قائم وحدث أن أصيبت فرق عمل كاملة أثناء تصوير بعض مسلسلات رمضان بالفعل، وبعد النقاشات الأولية عُرض المسلسل الذي يتكون من خمس عشرة حلقة من كتابة إنجي علاء وإخراج أحمد نادر جلال عن فكرة ليوسف الشريف، بدأ عرض العمل في منتصف الشهر ليلاقي رد فعل خافت مناسب لمستواه المتوسط واقتباساته المتشظية التي تبدو وكأنها نتاج سهرة طويلة أمام إحدى قنوات عرض الأفلام الأجنبية.
أيقنوغرافيا* الموت كمرجعية
تدور أحداث المسلسل بعد خمسة أعوام من الآن، مستقبل ليس ببعيد لم يتغير فيه أكثر من شكل كاميرا الهواتف المحمولة، يظهر ياسين (يوسف الشريف) في الحلقة الأولى ممسكًا بهاتفه في بث مباشر والبحر في خلفية المشهد، يحذر الطبيب «المؤثر – influencer» من تحور فيروسي جديد في الوقت الذي يلمح عن طريق كاميرا هاتفه شابًا يعبر البحر في هدوء انتحاري قاصدًا أن يغرق نفسه.
تراجع فيروس كوفيد 19 لصالح تحور جديد لا يتعلق بالجهاز التنفسي لكن بالموجات الكهرومغناطيسية الصادرة من الأعين، يتحول المصاب إلى كائن لا إنساني تتكرر حركته وكلامه ويميل لإيذاء نفسه والمحيطين به، وبعد مرور عدة أيام أخذ الفيروس في التطور مجددًا حتى تلاشى عامل العدوى بالنظر والذي كان حله من وجهة نظر الطبيب ياسين هو ارتداء النظارات، فضعاف النظر معصومون من العدوى افتراضًا.
تناسى العمل فرضيته الأساسية وهي إيذاء الذات المشابهة لفكرة فيلم الحدث The happening 2008 لكي يحول مصابيه لكائنات أشبه بالموتى الأحياء «الزومبي – Zombie» الذين يصيبون الضحايا بالعدوى عن طريق الهجوم والعض، لأنه من الأسهل نسخ تصور العدوى على نطاق واسع من مجموعة كبيرة وتاريخ مستمر من السمات المتكررة في أفلام الأموات الأحياء عوضًا عن تخيل شكل جديد للتحول، مع الوقت يتحول المسلسل لعمل عن الزومبي ويتناسى أفكاره المتعددة عن الفيروسات وحتى عن تحور كوفيد 19، تتبدل طبيعة المرض كل حلقة لكي تناسب المراجع المستخدمة ومنها أيضًا «الحرب العالمية زي» World war z 2013، وصندوق الطيور Bird box 2018.
تعتبر أفلام الزومبي نوعًا فيلميًا مندرجًا تحت نوع الرعب، بزغ في الثلاثينيات لكنه ازدهر في الستينيات وما بعدها بسبب فيلم ليلة الأحياء الأموات Night of the living dead 1968 لجورج روميرو، يرجع أصل الكلمة والأوصاف المصاحبة لها للفلكلور الهاييتي، فالحي الميت هو جثة معاد إنعاشها عن طريق السحر الأسود أو غيره من العناصر الفانتازية لكن السينما طورت النوع ليتضمن عناصر خيال علمي مثل الفيروسات والإشعاع والحوادث العلمية، يملك الزومبي سمات معينة بالتواتر، فهو بطيء الحركة ويتغذى على لحم الإنسان، يزعجه الصوت العالي ويملك جسدًا مهترئًا وأطرافًا مهشمة، لكن تطرأ تعديلات على تلك السمات مع الوقت، ففي فيلم الحرب العالمية زي وهو المصدر الرئيسي لاقتباسات كوفيد 25 البصرية تتحرك الكائنات شبه الحية بسرعة مخيفة وتملك قوة شديدة وعنفًا غاشمًا، يتراوح الموتى الأحياء أو المصابون كما يسميهم مسلسل كوفيد 25 بين سمات الزومبي القديمة والحديثة، فهم يملكون بلادة الموتى لكنهم يملكون غشم وعنف شخصيات (الحرب العالمية زي) وسرعة الهجوم والتهديد الآني.
يتعامل المسلسل في إطار الفيروس المتحور مع مجموعة من التيمات المصاحبة، منها المرض وفقدان الإنسانية وديناميكيات التعامل الإنساني والاجتماعي في أوقات الأزمات بالإضافة لنظريات المؤامرة ونهاية العالم، يستعير المسلسل أيقنوغرافيا أفلام الزومبي كوسيلة لتصوير فقدان الإنسانية والأهلية مع إدراج حوارات تفيد بأن البشر بطبيعتهم أكثر شرًا من هؤلاء فاقدي الأهلية والوحوش، ترجع تلك الأفكار أسباب المرض لفساد الإنسان وشره، وبما أن صناع العمل قرروا أن مرجعيتهم هي اللحظة الحالية وأن الفيروس هو امتداد لفيروس كوفيد 19 فإنهم بشكل أو بآخر يلقون باللوم على ضحايا المرض الحالي كذلك.
أن تتحول الضحية إلى جانٍ
في عام 1995 صنع المخرج البريطاني تود هاينز فيلمًا بعنوان آمن Safe، يتناول فيه قصة امرأة على شفا الانهيار، زوجة وربة منزل مستقرة من طبقة عليا تبدأ حياتها بالتداعي عندما تنتابها مجموعة من النوبات والحساسيات من التعرض لبعض العناصر البيئية، حتى يصل الأمر لتحسسها من الهواء الذي تستنشقه، وفي أثناء بحثها عن تفسير لما يحدث لها تكتشف أن الكثيرين قد أصيبو بذلك الوباء الغامض، وأسماه البعض حساسية من القرن العشرين، كمجاز لتشبع وفساد البيئة المرتبط بالحداثة، مع تقدم الأحداث تنتقل بطلة الفيلم إلى مجتمع معزول يضم المصابين، يتولى إدارة ذلك المجتمع مجموعة من المؤمنين بضرورة البعد عن فساد المدينة والعالم الحديث، لكن يلقي هؤلاء وأفكارهم باللوم على المصابين بالمرض، بسبب طريقة حياتهم وتصرفاتهم اليومية، وتحول ثقافة مساعدة الذات ولومها المصابين من ضحايا إلى جناة.
تضمنت تفسيرات النقاد وهاينز نفسه للفيلم كونه مجازًا لانتشار الإيدز أو نقص المناعة المكتسبة في الثمانينيات، وكيف ألقى المواطنون المحافظون والإعلام باللوم على المصابين بذلك المرض على إصابتهم نظرًا لانتشار أسباب لنقل المرض منها الاتصال الجنسي وتعاطي الحقن المخدرة، حوّل ذلك الضغط الإعلامي المصابين بمرض مميت من ضحايا تدعو معاناتهم للتعاطف إلى جناة يستحقون ما أصيبوا به، على عكس الرؤية التي طرحها فيلم آمن والتي تتناول نقدًا لتلك الثقافة كما أنها تخترع وباءً لا وجود له ويمكن تفسير معناه بأكثر من شكل فإن كوفيد 25 يأخذ الاتجاه المعاكس، يربط قصته بالواقع بشكل مباشر ويلوم ضحاياه بدلاً من نقد الثقافة المجحفة التي تطبع وترخص لوم المصابين بمرض ما على عذابهم ومعاناتهم.
يستعير العمل ضمن استعاراته المتعددة أفكار شرير أفلام مارفل الشهير ثانوس في صورة نظرية المؤامرة التي تتهم شركات الأدوية بإنتاج الفيروسات للكسب السريع، صنع كتاب العمل نظرية مستوحاة من عوالم مارفل تفيد بأن هناك قوة عالمية ما ترى أن العالم سيكون مكانًا أفضل إذا أبيد نصف سكانه، يضخم العمل من نظريات المؤامرة الموسعة ويسفه من أهمية تناول اللقاحات ومن الكشوف العلمية الحديثة ومحاولات الحلول بشكل منهجي، ويقرر أن الحل في يد بطل المسلسل الطبيب العبقري المساء فهمه الذي يكتشف عن طريق المصادفة أن مادة الفورمالين التي تضاف لمستحضرات فرد الشعر هي المادة الوحيدة التي تنجح في تنفير المصابين وبذلك ينقذ طبيب مصري العالم كله من الفناء.
يستحق الجنس البشري من وجهة نظر المسلسل أن يصاب بالأمراض ويتحول إلى مجموعة من الوحوش غير المبالية أو الواعية بسبب شرور البشر التاريخية والحاضرة، ربما يمكن تفعيل تلك الفكرة في عمل مستقبلي لكن ليس في أثناء معاناة كل عائلة حول العالم من فقد واحد أو أكثر من أحبائها بسبب مرض لا يفرق بين من يستحق ومن لا يستحق، يرسخ العمل لذلك المنطق عن طريق رسم مجموعة من الشخصيات الأنانية الخاطئة، تتكشف خطايا كل فرد في الأقلية الناجين وأحقادهم الدفينة وكيف أن شرورهم أكبر حتى من شرور المصابين المتوحشين، فهم مستحقون للعقاب والفناء.
يختار العمل الانغماس في جلد الذات عوضًا عن استكشاف الإنسانية والتآزر في الأوقات الحرجة، ويلجأ لاتهام المرضى/البشر في التسبب في الخراب لأنفسهم بسبب شرورهم اللا نهائية عن طريق ربط المرض بالعنف ورغبة المصاب في إيذاء الغير، يصبح المريض هو تهديدًا في حد ذاته، شرًا مطلقًا يجب قتله والتخلص منه.
يرسم المسلسل شخصيات يصعب التعاطف معها أو الاهتمام بمشكلاتها، مجموعة من الشخصيات المتنوعة في خلفياتها الاجتماعية والشخصية من أعمار مختلفة وعلاقات متشابكة، ياسين الذي تركته زوجته (أيتن عامر) بعد وفاة ابنهما بفيروس كورونا، صديق ياسين (إدوارد) الذي ارتبط بالزوجة، ثم بعد أن تتصاعد الأحداث ويحتجز مجموعة من الأشخاص في مساحة محدودة تتراكب التعاملات داخل تلك المساحة وتتطور علاقات جديدة بين شخصيات تصبح بعضها أساسية في سير الأحداث، يطلق العمل الأحكام بالفساد والمجون على تلك الشخصيات باستمرار، ويجعل البطولة حكرًا على شخصيتين رجوليتين رامي (أحمد صلاح حسني) وياسين (يوسف الشريف) بطل العمل بالطبع، يمثل أحدهما العقل والعلم والآخر العضلات والقوة والمروءة، ولأن أعمال يوسف الشريف تتغذى على التواءات الحبكة، يستخدم صناعه موت الطفل بكوفيد 19 لكي يصنع التواءة حبكة تكسر قلب بطل العمل.
يدور العمل في أجواء بصرية قاتمة تستعير جمالياتها من أفلام النيون نوار بشكل مصطنع داخل المشفى والأماكن المغلقة ومن أفلام ما بعد القيامة مثل ماكس المجنون Mad max حينما ينطلق أبطاله على الطريق حيث الصحراء واللون البرتقالي والأتربة والطريق الطويل الذي تنجو به فئة ضئيلة من الناس بينما يأخذ الموت الرمزي أرواح الآخرين، تستمر الفئة الناجية في هروب دائم من المصابين وكأن البشرية تنال عقابها أخيرًا على كل الشرور التي ارتكبتها لكن ليس من المنطقي أن نصنع تصورات ونظريات عن ذلك بينما يحدث الوباء بالفعل في الحقيقة.
تلك الأعمال تسمى أعمالاً مستقبلية لسبب، فهي تصنع كتأمل لحدث ماضٍ وتصورات قادمة وليس أثناء حدوث الكارثة، فربما يجب أن نكون أكثر حساسية في مواجهة نهاية عالم نعيش فيه لا عالم نتصوره كعمل تجاري متسرع.