كورتوا: رجل ثائر خلف هذا الوجه الهادئ
داخل أعماق كل رجل منا تكمن الحقيقة، تلك الحقيقة التي لا يعرفها أحد غير صاحبها. يشبه الأمر تلك الأسطورة البولندية القديمة التي تتناول رجلًا يحمل دولابًا ضخمًا على الدوام ولا أحد غيره يعرف ما بداخل الدولاب.
تُحكى هذه القصة للتأكيد على ثِقل دروب الحياة، وعلى الرغم من ثقل الدولاب – الحياة – فإنه قدرنا الحتمي، فهو في النهاية نتاج تصرفاتنا واختياراتنا. قد يبدو أحدهم أمامك هادئًا قليل الحديث حكيمًا، لكنك لن تعرف أبدًا بالمواقف التي مر بها هذا الرجل وما يخبئ في دولابه غير المرئي لكي يبدو لك بكل هذا الهدوء.
تتناول قصتنا رجل ظل يبحث داخل دولابه عن المعنى الحقيقي لكل شيء.
كورتوا الذي يبحث عن المعنى
في أحد البلدان المنخفضة هناك في بلجيكا كانت عائلة كورتوا الرياضية، حيث يلعب «تيري» و«لامبرختس» الكرة الطائرة بشكل شبه احترافي، حتى إنهما قررا منذ اللحظة الأولى لولدهما «تيبو» أنه سيصبح مثلهما لاعب كرة طائرة؛ لكن تيبو – بطل قصتنا – لن يكون الولد الذي يُقرر له أحد.
لعب تيبو الكرة الطائرة حتى سن السادسة، لكنه بين عشية وضحاها قرر أن يترك هذه اللعبة إلى الأبد. فتش في دولابه، ثم أخبر والديه أنه سيلعب الجمباز؛ وهو ما أثار سخط والده، الذي لم يوافق في البداية، لكنه رضخ أمام إصرار تيبو في النهاية.
لعب الجمباز بضعة أشهر، على أنه لم يلبث أن تبين أنه هذه ليست الرياضة التي سينجح فيها، ومرة أخرى عاد لدولابه للبحث من جديد، ثم ذهب لوالده ليخبره أن الجمباز الآن بات من الماضي، وأنه ينوي الدخول إلى معترك رياضة جديدة؛ سيلعب تيبو كرة القدم.
لا زال البحث قائمًا
لعب تيبو في بداية مسيرته الكروية مع فريق «بيلزن»المحلي كظهير أيسر، وعلى الرغم من أنه كان أصغر من زملائه بـ 18 شهرًا، فإنه كان أقواهم من الناحية الجسمانية.
لم يمضِ وقت طويل حتى التقطته أعين كشافة نادي جينك، أحد أشهر أندية بلجيكا، فانضم إليهم عام 1999، وهناك حُوِّل إلى حارس مرمى رسميًّا.
في جينك، وفي مركز حراسة المرمى، وجد تيبو ما كان يُفتش عنه في خزانة دولابه – وجد نفسه – أخيرًا. قدم عروضًا مبهرة في فرق الناشئين والشباب، فتى صغير يقوم بتصديات خارقة تذهب إليه الجماهير لمشاهدته خصيصى وكأنه مهاجم فذ.
كانت النتيجة تصعيده من فريق الشباب في جينك إلى الفريق الأول وعمره 18 عامًا، وكانت بداية مثالية، حيث لعب دورًا رئيسيًّا في فوز الفريق في دوري المحترفين البلجيكي.
في يوليو/ تموز 2011 كانت البداية الحقيقة للحارس الشاب، أحد أهم فرق إنجلترا والعالم سيوقع معه. انضم إلى فريق تشيلسي الإنجليزي مقابل 8 ملايين جنيه إسترليني، وأُعير على الفور إلى نادي أتلتيكو مدريد الإسباني، ليبدأ الفتى البلجيكي رحلة جديدة في طريق البحث عن المعنى.
في الجانب الأحمر من مدريد
في الجانب الأحمر من العاصمة الإسبانية توافق ما يسعى إليه الفتى البلجيكي مع مشروع نادي العاصمة الإسبانية، المتمثل في إعادة مجد «الروخي بلانكوس»، تحت إمرة الأرجنتيني «ديجو سيميوني». أفاد الطرفان بعضهما البعض، فبالنسبة إلى تيبو حصل على فرصة اللعب في نادٍ عريق، ولكنه في مرحلة إعادة هيكلة؛ ما يعني أن الضغوطات ستكون أقل مما كانت سُتلقى على كاهله لو ظل في إنجلترا. وعلى الطرف الآخر اكتسب أتليتكو مدريد حارسًا واعدًا لا يرضى إلا أن يكون الأفضل دائمًا، وهو ما يسعى إليه النادي في مشروعه الجديد.
مع أتليتكو مدريد لامس كورتوا عنان السماء، حيثُ تحول في غضون 3 سنوات قضاها في الفريق من حارس شاب واعد إلى أحد أفضل الحراس في العالم – إن لم يكن الأفضل – حيث فاز معهم بالدوري الأوروبي في عام 2012، وكأس ملك إسبانيا 2013، ولقب الدوري الإسباني في عام 2014، كما فاز بجائزة زامورا كأفضل حارس مرمى في الدوري الإسباني عن أدائه في آخر موسمين له مع الفريق.
انتظر كورتوا اللحظة المناسبة لإثبات جدارته، ليس فقط لجوزيه مورينيو وتشيلسي، ولكن للعالم أجمع، كان ذلك عندما قاد فريقه لنهائي دوري أبطال أوروبا بعد إقصائه لفريقه الأصلي تشيلسي، الذي حاول قدر الإمكان أن يُغيِّب كورتوا عن مباراة نصف النهائي بحجة أنه مُعار من النادي الإنجليزي، وهو ما رفضه الاتحاد الأوروبي.
أصبحت الفرصة سانحة، سيلعب تيبو في الدوري الأفضل في العالم، وسيخلف أحد أهم حراس الدوري الإنجليزي، بيتر تشيك. سيتحول من مجرد حارس واعد معار إلى حارس أحد أفضل الفرق في إنجلترا والعالم في العقد الأخير حينها.
تحت أضواء لندن
عاد تيبو إلى العاصمة الإنجليزية وهو يرنو إلى أن يكون الأفضل. كان مردود كورتوا جيدًا جدًّا، حيث حقق رفقة البلوز لقبي بريميرليج، وكأس الاتحاد الإنجليزي، بالإضافة إلى لقب كأس الرابطة. لكنه كان أمام عائقين، الأول هو عائلته التي لا تزال في إسبانيا، والآخر وهو الأهم، أنه لم يصبح الأفضل كما كان يسعى. كان يُشار إليه دائمًا أنه ضمن النخبة، لكنه لم يكن الأفضل في وجهة نظر أحد، وهو ما جعله يحمل دولابه، ويرحل كما فعل دائمًا، عله يجد ضالته في مكان آخر.
مرحبًا بك في النادي الأفضل في العالم
ظل كورتوا طيلة حياته يبحث في دولابه عن معنى يعيش لأجله، ومنذ سنواته الأولى سعى دون كلل إلى أن يكون الأفضل في شيء ما، لم يتوانَ عن تغيير نادٍ واثنين، أو حتى رياضة واثنتين، في سبيل تحقيق ذلك. عندما تكون في مدريد، خاصةً في جانبها الأبيض، فأنت على الطريق الصحيح، لكن الطرق الممهدة تحتاج إلى سائق ماهر أيضًا.
جاء البلجيكي إلى ريال مدريد بعدما قدمَّ كأس عالم مثاليًّا مع منتخب بلجيكا، استحق خلاله أن يُتوج بجائزة القفاز الذهبي لأفضل حارس في البطولة، لكنهم في مدريد لا يلتفتون إلى كل ذلك. ستصير الأفضل في الكون كله فقط عندما تكون الأفضل في فريقهم.
كانت البداية كارثية. لم يتقبل جمهور ريال مدريد فكرة استبدال كورتوا بحارس الحقبة التاريخية كيلور نافاس، بالإضافة إلى موسم أول كارثي على كل الأصعدة، جعل هناك خللًا في علاقة الحارس البلجيكي مع مدرب الفريق آنذاك زين الدين زيدان، ومع زملائه في الفريق، خاصة قائد الفريق سيرخو راموس.
كانت تصريحات الرجل في هذه الأثناء دليلًا على وصوله لأقل درجات ثقته في نفسه، فالجميع لم يعد يؤمن به، لا المدرب ولا زملاؤه ولا الجماهير، لكن تيبو يخرج ويصرح بأنه لا يهتم لذلك، وهو كما ذكرنا سالفًا سلاحه غير الفعال.
ليلة الحقيقة في باريس
كان كورتوا أمام مفترق طرق، إما الصمود لتحقيق حلمه وحلم والديه، أو السقوط في الهاوية. وقف أمام مرآة دولابه، وقرر أنه لن يرحل أو يغير المكان هذه المرة، اختار المواجهة.
كانت المعركة التالية هي معركة إسطنبول أمام جالاتا سراي، حيث يبحث ريال مدريد عن فوزه الأول في دوري الأبطال، وكان زيدان هو الآخر على المحك، ثم خرج البلجيكي منتصرًا كعادته، فاز ريال مدريد، وكان تيبو أفضل لاعب في المباراة. منذ ذلك الحين تغير حال كورتوا، من عبء على الفريق إلى أهم لاعبي الفريق، والمساهم الرئيسي في تحقيق الفريق للانتصارات والبطولات.
في ليلة باريس التاريخية، ليلة نهائي دوري أبطال أوروبا 2022، حصل على ما فتش عنه طيلة حياته، خرَّ الجميع مذهولين مما شاهدوه يومها. حيث صُنِّف أداؤه كأحد أفضل الأداءات في تاريخ دوري أبطال أوروبا.
ليلة كليلة باريس تلك هي ما فتش عنه تيبو طيلة حياته في دولابه، وهي ما تجعل قصة أحدهم فريدة ومختلفه عن آلاف القصص المتشابهة، لكنك كي تصل إلى ليلة مثلها يجب عليك أن تعترف بفضل الماضي ودروسه، حتى إن كان على غير هواك. تمامًا مثلما يفعل كورتوا.