استيقظ الألمان اليوم على ثلاثة آلاف فرد من وحدات النخب الخاصة في جهاز مكافحة الإرهاب يدكّون الأبواب ضمن 130 عملية مداهمة في 11 ولاية ألمانية متفرقة تحت مسمى عملية الظل. عمليات المداهمة المتزامنة استهدفت جماعة واحدة تُدعى جماعة مواطني الرايخ. السؤال الذي ضرب أذهان ملايين الألمان هو السبب وراء تلك المداهمات، وما تلك الجماعة؟

المدعي العام الألماني سارع لتوضيح الأسباب قائلًا إن الجماعة كانت تخطط لاقتحام البرلمان والاستيلاء على السلطة. كما كانت تُخطط لتنفيذ هجمات مسلحة على عديد من المؤسسات التشريعية الألمانية الأخرى. الاستخبارات العسكرية الألمانية أدلت بدلوها وقالت إن من بين من تم توقيفهم جندي نشط، كان على القوة الفعلية، للقوات الخاصة. بجانب عدد من جنود الاحتياط الآخرين. كما تم توقيف نائبة برلمانية سابقة، وقيادية في حزب البديل الألماني. بلغ إجمالي المعتقلين 25 فردًا، منهم اثنان أطلق عليهم المدعي العام قائدين في التنظيم.

بدأت الحملة في الصباح الباكر ليوم 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بتصريح مبهم لوزير العدل الألماني ماركو بوشمان يقول فيه إن عملية كبرى لمكافحة الإرهاب تجري منذ الصباح. لكنه بعد نجاح كل الاعتقالات المرادة خرج ليشيد بتفكيك الخلية الإرهابية، قائلًا إن ذلك يثبت قدرة ألمانيا على الدفاع عن ديمقراطيتها.

اللافت في الأمر هو مسارعة الكرملين الروسي لنفي أي صلة بينه وبين مواطني الرايخ. وأكد الكرملين أنه لا يقبل بالحديث عن تدخل روسي للتحضير لانقلاب داخل ألمانيا. كما نفت السفارة الروسية في برلين أي علاقة لها بالجماعة الإرهابية، على حد وصفها. لكن بعد ظهور القائمة، شبه النهائية، عن المعتقلين، تبين وجود مواطنة روسية بينهم.

ذراع عسكرية وحكومة ظل

التحقيقات أظهرت أن المتهمين أسسوا ذراعًا عسكرية تهدف إلى القضاء على دولة القانون والديمقراطية على مستوى البلديات والمقاطعات. وأظهرت ما يثبت علم أفراد التنظيم باحتمالية سقوط قتلى أثناء قيامهم بهذا الانقلاب المزعوم، لكنهم رأوا الأمر أضرارًا لا بد منها.

كذلك كشفت التحقيقات أن جماعة مواطني الرايخ لهم هيئة مركزية يطلقون عليها اسم المجلس. يتشكل هذا المجلس على غرار مجلس الوزراء في الحكومة الفعلية. فيحتوي على وزارات رسمية مثل الصحة والداخلية. وروت المصادر أن أعضاء هذا المجلس يجتمعون بشكل دوري منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 لترتيب كيفية الاستلاء على السلطة، وطريقة إنشاء هياكل إدارية خاصة بهم.

يقترب ذلك من الصواب بنسبة كبيرة، لأن جماعة مواطني الرايخ في الأصل لا يعترفون بالدولة الألمانية الحديثة. ولا يرون الدولة القائمة بعد انهيار النازية دولة ألمانية حقيقية. كما يمتنعون عن دفع الضرائب والرسوم الاجتماعية الأخرى. ويرون أن الإمبراطورية الألمانية هى الوضع المثالي الذي يجب أن تكون عليه ألمانيا. كما يرون أن تلك الإمبراطورية لا تزال قائمة بالفعل. لهذا تضم الحركة تحت لوائها عديدًا من النازيين الجدد، ومؤيدي حمل السلاح، وطيفًا واسعًا من الأفراد جميعهم يشتركون في عدم الاعتراف بشرعية الدولة الألمانية الحديثة.

يترأس المجلس رجل ألماني يُلقب بالأمير. واسمه، بين أنصاره، هاينريش الثالث عشر. الرجل البالغ من العمر 71 عامًا كان له دور محوري في خطط الجماعة. وهو ثاني اثنين ممن حملوا لقب زعامة التنظيم. هاينريش يُعرف أيضًا باسم الأمير رويس، وله أصول ملكية بالفعل. ينحدر من عائلة رويس الملكية الألمانية. وهو رجل أعمال نشط في مجال العقارات ومقيم في فرانكفورت. كانت الحركة قد اختارته ليكون زعيم ألمانيا حال نجح الانقلاب. كما وضعت الحركة تصوّرها للزي الموحد الجديد للجيش الألماني، واختارت من بينها الأسماء التي ستضعها على رأس الجيش كذلك.

الأمير العجوز يطالب بمملكته

بالعودة للماضي، ثلاثة أعوام، نجد أنه في يناير/ كانون الثاني 2019 كان الرجل قد ألقى خطابًا في منتدى ضخم لرواد العالم الرقمي في زيورخ. الأمير الذي عرّف نفسه بأنه الأمير ذو الشعر الرمادي والطلة الأنيقة ألقى خلاصة أفكاره ونظرياته قائلًا إن النظام الملكي في ألمانيا دُمر على يد الصناعة المالية اليهودية، وإن الحرب العالمية الأولى حدثت بسبب تحريض الماسونيين الأجانب.

كما أوضح أن ألمانيا الحالية ليست دولة ذات سيادة. وأن دستورها لا يُعد دستورًا حقيقيًا، وإنما وثيقة كتبها الحلفاء بعد الحرب لإحكام السيطرة على البلاد. وأن ألمانيا لا تزال تتحاكم إلى دستور عام 1871 . بعد هذا البيان سارعت عائلته لإثبات تبرؤها منه. ووصفته في بيان قديم أنه عجوز خرف، وأنه وقع في فخاخ عديد من المفاهيم الخاطئة حول نظرية المؤامرة.

لكن بينما تنأى عنه عائلته، تلقفته يد مواطني جماعة الرايخ. فالرجل صار ملكًا في وسطهم. سليل العائلة الملكية التي حكمت إمارة صغيرة قديمًا، تركزت في ولاية تورنيجن الحالية قبل مائتي عام. وحفزّه أعضاء الجماعة لتحويل تلك النظريات والأقوال إلى خطوات فعلية على الأرض للعودة للنظام الملكي واسترداد سيادة ألمانيا، فأحيا آمالهم وأحيوا أحلامه.

تبلور الأمر أكثر بعد أن جذب الأمير العجوز انتباه عدد من الساسة الرسميين من حزب البديل الألماني. تواصل معه عديديون منه بعد الخطاب الذي ألقاه في زيورخ. فبدأ الصورة تصبح أكثر اكتمالًا، وتبتهج ألوانها أكثر باقتراب تحقيق الحلم. لكن طرقات القوات الخاصة أيقظت الأمير من حلمه على كابوس الاعتقال والمداهمة. في أكبر حملة مداهمة في التاريخ الألماني.

استقلوا بالأقاليم ورخص القيادة

بداية الخيط كانت في أبريل/ نيسان 2022 حين اكتشفت السلطات الألمانية محاولة لخطف وزير الصحة الألماني. المجموعة المقبوض عليها آنذاك عُرفت باسم يونايتيد باتريوس، تبين أنها جزء من تنظيم أكبر هو جماعة مواطني الرايخ. وكشفت التحقيقات أنهم حاولوا خلق ظروف تؤدي لنشوب حرب أهلية.

تلك الحرب يجب أن تكون في كل ألمانيا. طبقًا لتعريف جماعة مواطني الرايخ فألمانيا البلد الذي يتبع حدود ما قبل عام 1937، أي يضم أجزاء من بولندا وفرنسا حاليًا. وفي سبيل تحقيق ذلك كانت الجماعة تحث المواطنين على عدم الاستجابة لأي غرامة أو دعوة توجهها لهم المحاكم الألمانية الحالية. كما أعلنوا عددًا من الأقاليم الصغيرة أقاليم مستقلة تابعة لهم، ويطلقون على تلك الأقاليم اسمًا ثم يلحقونه بأنه جزء من إمبراطورية ألمانيا الحرة أو دولة بروسيا الحرة أو إمارة جرمانيا.

لا يتوقفون عند الإعلان الاسمي فحسب، بل يقومون بطباعة جوازات سفر خاصة بهم، ورخص قيادة تحمل شعاراتهم. كما يقومون بطباعة قمصان وأعلام خاصة بهم. ورغم كونهم تحت أعين السلطات الألمانية منذ سنوات، ورغم حملة الاعتقالات الحالية، فإنهم يستمرون في الإعلان عبر مواقعهم الإلكترونية عن نيتهم مواصلة القتال ضد الحكومة الألمانية.

ولم يتوقفوا حتى بعد إعلان الشرطة الألمانية ضلوع فرد منهم في قتل ضابط ألماني في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. وطبقًا لبيانات هيئات حماية الدستور في الولايات الألمانية فإن عدد مواطني الرايخ وصل إلى 16 ألف شخص في بداية 2018. رقم يبدو بسيطًا لكن بالعودة لنفس الجهة نكتشف أن الرقم المعلن عنهم لعام 2017 هو 10 آلاف فرد فقط. أي أن عددهم زاد بنسبة 56% في عام واحد.

 يمتلك أكثر من ألف فرد منهم ترخيصًا رسميًا لحمل وامتلاك سلاح. ومعظم أتباع تلك الحركة من الذكور، ومتوسط أعمارهم تبلغ 50 عامًا. وعثرت الشرطة أثناء مداهمة المنازل صباح اليوم على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة. وكانت المفاجأة أن عديدًا منها مُهرب من خارج ألمانيا بصورة غير شرعية.

مناعة قوية ضد الانقلابات

قد تتعب الذاكرة قليلًا حتى تجد ارتباطًا بين كلمة انقلاب وألمانيا. نجد محاولة عام 1919 حين حاولت رابطة سبارتاكوس الإطاحة بمجلس النواب الذي يهمين عليه الاشتراكيون. ثم عام 1920 حين نجح جنود فرايكوريس في الإطاحة بجمهورية فايمار، لكن نجح الإضراب العام في وأد تلك الحركة. ثم عام 1923 في محاولة هتلر الفاشلة للسيطرة على بافاريا. ثم بعد 10 سنوات حين نجح هتلر في تولي كل الصلاحيات بانقلاب ذاتي. ثم محاولة محاولة اغتيال هتلر الفاشلة عام 1944.

 لكن التقدم للأمام كثيرًا نجد أنه منذ 4 أعوام فقط كان هناك حديث مماثل عن انقلاب داخل ألمانيا. ربما لم تكن المداهمات بنفس القوة والحشد، لكن تحدثت الصحف الألمانية عن انقلاب وشيك يقوده عسكريون تحت زعم أن الأمة الألمانية على وشك الانهيار ولا بد من أن يكون ثمة بديل جاهز لتسلم مقاليد الحكم. كما كشفت الصحف الألمانية عن مخططات تلك الطغمة العسكرية لاغتيال عدد بارز من الشخصيات السياسية البارزة. لكن فشل المخطط السابق كما فشل الحالي.

فكرة الانقلاب في ألمانيا الحديثة فكرة صعبة الإدراك قليلًا. لا نقول إن ثمة جيشًا بعيدًا عن السياسة، فكل الجيوش متداخلة مع السياسة. لكن هناك حالات يتدخل فيها الجيش لاستلام السلطة مثل وجود حرب أهلية قائمة، أو وجود عدم استقرار سياسي، أو عجز السياسيين وضعف المؤسسات الرسمية عن ملء كرسي الحكم. لكن تلك الحالات، وغيرها، لا توجد في النموذج الألماني الحديث.

فتداول السلطة في ألمانيا بات معروفًا وله قواعده الراسخة. لا يمكن القول إن ألمانيا محصنّة ضد الانقلابات، لكنها على الأقل دولة ليست بالهشة، ومؤسساتها متماسكة، وبها طفرة اقتصادية جيدة، كل ذلك يجعلها خارج منطقة الانقلابات العسكرية. ربما تدخل مرحلة اضطراب سياسي، صراع بين اليمين واليسار أو حتى سيطرة لليمين المتطرف، لكن وفق آليات شرعية معروفة ورسمية.