عن الدولة، أو الدولة بين الأدلوجة والنظرية
نحاول هنا مناقشة الدولة كواقعة ومفهوم، عبر شكلين من الخطاب: خطاب الأدلوجة، الذي يضفي على الدولة طابعًا لا تاريخيًا، يفصلها عن المجتمع، ويجعلها بمنأى عن المساءلة؛ في مقابل، خطاب النظرية، القائم على محاولة جلب الدولة إلى حيز المساءلة، عبر التساؤل عن أصلها وهدفها وتاريخ تطورها ووظيفتها ووسائلها وعلاقتها بالفرد والمجتمع؟
وهذه المقابلة بين الأدلوجة والنظرية، في النظر والتعامل مع الدولة، لا تعني أن كل خطابٍ نظري ليس بخطاب تبريرٍ وأدلوجة؛ لكن في المجمل كان القول النظري هو بداية استئناف الحديث عن الدولة، لا من منطلق قبولها كمعطى أولي ووصفها على حالها كما هي، لكن من منطلق تاريخيتها كإنتاج بشري، وهو ما لا تفعله الأدلوجة، التي تُعتبر خطاب الدولة المُفضّل، لأنها لا تسأل عن شرعية ومشروعية الدولة في مقولاتها وأفعالها.
ويمكن في هذا الإطار عدّ خطاب السلطة «الدولة» أيًا كان، معرفيًا أو غير معرفي، وخطاب جانب كبير من الدراسات القانونية، نموذجًا لخطاب الأدلوجة عن الدولة. إذا كانت الأدلوجة هي خطاب الدولة المفضّل، فإن النظرية بالضرورة الخطاب الذي لا تحبذه الدولة، لأنه يعرّي وهمها وآليات عملها، ويعيد النظر فيما تمثله لا ككيان متعالٍ مجرد، وإنما كإمكان من إمكانات التنظيم في أحسن الحالات.
لعل أهم تحديد مميز للدولة الحديثة، هو ذلك الذي وضعه «ماكس فيبر»، عندما جعل من احتكار العنف الخاصية الرئيسة للدولة، وتمييز ذلك العنف باعتباره شرعيًا. وهنا بالأساس يتحدث فيبر عن العنف المادي وشرعية ممارسته، لكن احتكار العنف المادي، بحد ذاته، ليس جوهريًا، حسب عالم اجتماع آخر هو «بيير بورديو»، إذا لم يكن مصحوبًا بالتحكم في العنف الرمزي، الذي يجعل للأفراد هوية الدولة. لأن من أهم وظائف الدولة حسب بورديو، وظيفة «إنتاج الهوية الاجتماعية المشروعة» التي تستبطن وتتضمن الإكراه والعنف، حيث إننا كأفراد منتمين للدولة ملزمين بتقمص هذه الهويات، حتى ولو كنا غير موافقين عليها، والدولة عبر آلياتها وجهازها الإداري البيروقراطي تمارس الضبط والإكراه والمراقبة لضمان ذلك التقمص وضمان أداء تلك الأدوار المرسومة.
لكن السؤال الجوهري الذي يُطرح – والذي من شأنه تعرية أيديولوجيا الدولة – هو متى أصبح احتكار العنف ممكنًا؟ ومتى أصبح مشروعًا؟ وهل شرعيته مطلقة وغير محددة؟ هل هو عنف غير منضبط بأي ضوابط؟ تحيلنا هذه التساؤلات إلى فلسفة العقد الاجتماعي، وتصور التسوية اللاتاريخية التي حدثت، والتي بموجبها يتنازل الناس عن جانب كبير أو عن كامل حريتهم لصالح آلة العنف الكبيرة المسماة بالدولة.
لكن هذا العقد – على الأقل في صيغته الديمقراطية – مؤسس على جانب من الحقوق والواجبات على الدولة القيام بها، لاستمرار شرعيتها ومشروعيتها. فهل يمكن الحديث من هذا المنطق عن سقوط شرعية الدولة الديكتاتورية أو الدولة الفاشلة؟ التي تعجز عن الإيفاء بضماناتها؟ أم أن الدولة – مهما كانت فاشلة – تبقى الحقيقة الحتمية الوحيدة الصالحة للانتظام السياسي؟ وبالتالي لا مفر منها. إلا إلى حالة حرب الكل ضد الكل وسيولة العنف التي ميزت مرحلة الطبيعة حسب الطرح الهوبزي (نسبة إلى توماس هوبز).
في الحقيقة إن سؤال الحرية هو منطلق سؤال النظرية، وبالتالي فهو التمهيد الضروري لسقوط الأدلوجة في خطابات السلطة عن الدولة الحديثة. هذا ما يمكن الوصول إليه كنتيجة في البداية. ليست هذه هي المعالجة الوحيدة للتساؤل حول الدولة، ونقض خطاب الأدلوجة الذي يرفع الدولة عن إمكان المساءلة، فكذلك سؤال التفلسف الذي يسأل الدولة عن هدفها؟ ويحاول تصور الدولة في ذاتها هو أيضًا نموذج لإعادة التفكير في الدولة لا كمعطى ثابت، لكن كإمكان يمكن إعادة التفكير حوله.
ونفس المنطق يقود إليه سؤال التأريخ للدولة أي تطورها، فلئن كان المؤرخ لا يهتم بوظائف الدولة، ويحاول بدلًا من ذلك التعرف على أشكال تطورها، فإنه ينطلق من فرضية أساسية هي: تاريخية هذا الحدث المسمى بالدولة وعدم استقراره على نموذج واحد. وهذا بحد ذاته ينفي أسطورة الدولة عن نفسها كجوهر ثابت لا زمني.
كنتيجة فإنه ومهما اختلفت وتعددت المقاربات السوسيولوجية والفلسفية والتاريخية حول الدولة، في المنهج والسؤال، فإنها تقود إلى نتيجة واحدة، هي نقض خطاب الأدلوجة، الذي يجعل الدولة فوق التاريخ، وواقعة لا مفر منها إلا إليها دون قيد أو شرط. فهل يعني التساؤل حول الدولة نهاية الأدلوجة وبداية النظرية؟ وهل النظرية هي تحسين مستمر للشروط التاريخية لآلة العنف المسماة بالدولة لصالح الحرية والفرد والمجتمع؟